العمل بديلاً عن المدرسة.. كيف فقد الأطفال السوريون مستقبلهم؟

img_3227

يتجه صالح 10 سنوات نحو سوق مدينة مارع، في السابعة صباحًا، بعد محاولات مستمرة لإيقاف السيارات أو الدراجات النارية التي تعبر الطريق الرئيسي بمكان سكن والدته في بلدة تلالين إلى مدينة مارع، قد يستغرق الحصول على الوسيلة التي ستنقله دقائق وربما ساعات، بينما ترتجف قدما صالح النحيلتان من شدة البرد، إذ إنه لا يفرق بين البرد والدفء، لأنه لا يعرف شكل المدفأة ومهمتها في المنزل.

 يظهر صالح على يسار الصورة.. حاملًا بيده قطعة من البسكويت

التقى “نون بوست” صالح الشعبان في ثياب مبللة بسبب تساقط الأمطار في حدود الساعة الحادية عشر ليلًا (بتوقيت تركيا)، خلال عودته مشيًا على الأقدام من سوق المدينة متجهًا نحو بلدة والدته الوقعة شمالًا، على الطريق الرئيسي، بكلمات تحمل في طياتها دعوات للاستلطاف، قال صالح: “اشتري مني يا عمو من الصبح ما بعت شي الله يوفقك”، بينما ركض صديقه الآخر وقال: “إذا اشتريت منه فستشتري مني ليكون لدينا المبلغ نفسه، الله يوفقك ياعمو”.

في ذهول أوقفني مشهد هؤلاء الأطفال الذين تركوا تعليمهم واتجهوا نحو العمل الذي أصبح أشبه بعمل الشحادة، لذلك لا بد لي من محاولة الحديث معهم، والاطلاع على أوضاعهم المادية التي أجبرتهم على العمل.

يقول صالح: “والدي من مدينة حلب فُقدَ عام 2012 خلال عودته من العمل، على أحد الحواجز التابعة للنظام، رغم عدم مشاركته في المظاهرات حسب ما روت لي أمي”، وأضاف: “خلال إقامة أشقاء والدي في المدينة حاولوا البحث عنه في الأفرع الأمنية، ولكن لم يجدوا شيئًا”.

بينما طلب جد صالح من والدته التي تنحدر من بلدة تلالين العيش معه، لأنهم لا يستطيعون البقاء في حلب دون معيل بعد انقطاع أخبار والده، فصالح كان عمره لا يتجاوز العامين، وأوضح أنهم إلى الآن يحاولون البحث عن والده لكن دون جدوى، وخاصة بعد تشرد أعمامه في محافظة إدلب والمخيمات، وإلى الآن لم تصل أي أخبار عن والده.

العمل بدلًا من المدرسة لإعالة أسرته

يعيش صالح وعائلته المكونة من والدته وأختين الأولى تكبره بعامين والثانية تصغره بعام واحد ولكنها من ذوي الاحتياجات الخاصة، في غرفة داخل منزل جده من والدته، في بلدة تلالين شمالي حلب، منذ سبع سنوات تقريبًا، يعمل جد صالح في أرض صغيرة ورثها عن والده لكنها لا تستطيع إعالة أسرة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية وغيرها من المتطلبات اليومية، مما دعا صالح إلى العمل لمساعدة أمه في مصاريف أخواته، بديلًا عن المدرسة التي تركها منذ عامين.

يحمل صندوقًا داخله قطعًا من البسكويت ويتجول في شوارع المدينة يدخل محلًا تجاريًا ويخرج من آخر لبيع قطع البسكويت لأصحاب المحال، بينما يركض مع صديقه نحو السيارات لبيع أصحابها البسكويت في ساعات النهار، لا يكاد يفرغ الصندوق الأول فيشتري الثاني ليكون لدى الزبون عدة خيارات.

صالح يعد الليرات التي جناها خلال عمله

لا تكاد الدعوات التي تخرج من أفواههم تتوقف “الله يوفقك يا عمو اشتري منا”، “الله يرزقك ياعمو”، يستمر صالح وصديقه حتى بيع صندوقين على الأقل من البسكويت للعودة إلى المنزل، حيث يربح في الصندوق الواحد 500 ليرة سورية أي ما يعادل الدولار الواحد، وينتهي العمل الموكل لصالح وصديقه في حدود العاشرة ليلًا، فيطرق باب أحد المنازل لطلب الماء، ثم سرعان ما يطلب من صاحب المنزل الشراء منه في دعوات من الاستلطاف للنظر إلى حالته، لبيع ما تبقى لديه من البسكويت، بينما يقول: “سأذهب إلى الحاجز الواقع على مدخل المدينة لإيقاف سيارة تنقلنا إلى المنزل، ولكن الحاجز لا يوقف لنا السيارات، ننتظر أكثر من ساعتين لتتوقف لنا سيارة”، بينما تنتظره والدته في المنزل، متخوفة من فقدانه في أي لحظة فهو ما زال طفلًا صغيرًا، يحتاج إلى تعليم لا عمل.

آلاف الأطفال يعملون لإعالة أسرهم بعد فقدان والدهم

صالح ليس الوحيد الذي خسر مستقبله في ظل الحرب السورية، فيعمل آلاف الأطفال مثل عمله، دون وجود أي جهة مسؤولة تتبنى عائلته لضمان مستقبله، كما ترسل الأسر أطفالها إلى العمل في المحال الصناعية، لتعلم مصلحة ما، تمكن ابنهم من المساعدة في المصاريف اليومية للأسرة في ظل انتشار الفقر بين أوساط المجتمع السوري.

العائلات السورية ترسل أبناءها إلى العمل بعد انتشار الفقر.. غير مهتمين للتعليم

ما أسباب عمالة الأطفال؟

يعتبر الطفل المنقذ الوحيد في حال دمار البلد خلال تعرضها لحرب ما، لذلك في حال تعرض أي دولة لحرب، تحاول بناء نفسها من جديد عبر الجيل القادم، ولكن كيف يكون منقذًا وهو يحتاج إلى إنقاذ من ضياع مستقبله، خلال العمل لإعالة الأسر، وسط غياب لقوانين تحدد سن العمل، ولكن كيف تفرض قوانين وأنت لا يمكنك أن تكفل أسرة لضمان مستقبل أبنائها، وتشرد أفرادها، بالفعل هذه هي الحرب، دمار أجيال وأجيال.

وخلال لقاء أجراه “نون بوست” مع المعلم عبد الرحمن الحاج عمر الذي يعمل في مدارس مدينة مارع، قال: “انتشار عمالة الأطفال في الشمال السوري ترجع إلى عدة أمور من أسوأها تدني المستوى الثقافي للأسر لاعتقاد الأسر بأن التعليم أمر ثانوي، لا يمكنه أن يفيد، مما يدفعهم إلى إرسال أبنائهم نحو مهنة معينة لإدخالهم في سوق العمل ليصبح منتجًا، يساعد أسرته في الإنفاق”.

تعتبر الحروب والأزمات التي تواجه أي منطقة مشكلة بحد ذاتها لأنها تولد الفقر وتقضي على المعيل

وأضاف “فقدان الأب الذي كان يقدم للأسرة الطعام والشراب وغيرها من المستلزمات، كما أن فقدان الأم يؤثر سلبًا على مستقبل الأطفال نتيجة فقدانهم حنان أمهم التي كانت تهتم بتربيتهم”، وأكد “المشكلة تكبر عندما يصبح الطفل هو المعيل فجأة بعد فقدان والده أو والدته للإنفاق على عائلته”.

أطفال يعملون في محل لتصليح السيارات شمال حلب

ويضاف إلى ذلك تدهور الأحوال المادية لدى الأسرة، فانتشار الفقر بين أوساط المجتمع، من شأنه أم يهدد مستقبل الأطفال، حيث تقوم عائلاتهم بإرسالهم إلى العمل لمساعدة أسرهم في مصاريف العيش والإنفاق على ذويهم.

وأشار إلى أن قلة وجود المدارس المؤهلة في المناطق النائية والفقيرة، كما هو الحال في الشمال السوري، وندرة المعلمين المختصين فيها لعدم توافر التعليم وتوجههم نحو الزراعة التي تعتبر إرثًا عن آبائهم، يؤدي إلى اندثار التعليم.

وتعتبر الحروب والأزمات التي تواجه أي منطقة مشكلة بحد ذاتها لأنها تولد الفقر وتقضي على المعيل، مما يؤثر سلبًا على الأطفال الذين باتوا ضحية مستساغة بين مصالح الدول، فيما أصبح الأطفال السوريون ضحية الحرب التي قضت بدورها على مستقبلهم، حيث تختلف نسبة عمالة الأطفال في كل منطقة، وتعتبر المخيمات الحدودية أكثر المناطق نسبة في عمالة الأطفال، بينما تقل في القرى الصغيرة، وتصل إلى نسبة متوسطة، حتى تصل إلى المدن التي أصبحت منظمة أكثر.

 مبادرات شبابية لتوعية الأطفال في إعزاز

ما الحلول المتاحة للقضاء على عمالة الأطفال؟

كلمة “الحرب” في مدلولها، هي نفسية بالدرجة الأولى وعلمية وحتى تاريخية وديموغرافية والقضاء على البنى التحتية، وتشمل الجوانب كافة التي تقضي على المجتمع وتدمر حياته، إذ إنها تولد آثارها السلبية عبر أجيال متواصلة، وأسباب عمالة الأطفال بالفعل هي الحرب، ولكن كيف نضع لها حلولاً ونحن لا نملك من الأمان سوى بعض الاتفاقيات الدولية التي يمكنها أن تنتهي بأي لحظة؟ ولا بد لنا من وضع الحلول ولو كانت على مستوى ضيق، فلا يمكن استيعاب الكم الهائل من التضخم السكاني في المنطقة.

أنشطة يقوم بها شبان لتوعية المجتمع

يقول المعلم عبد الرحمن حاج عمر لـ”نون بوست”: “الحلول مقيدة لا يمكننا تنفيذها في ظل عدم وجود إحصاءات رسمية لأعداد الأطفال الذين يعملون يوميًا في المنشآت، أو كباعة جوالين”، وأضاف: “على الرغم من ذلك لا بد لنا من وضع حلول تقضي على عمالة الأطفال فنحن بحاجة إليهم مستقبلًا، لبناء مستقبلنا”.

وأوضح “يمكننا عرض بعض الحلول، ومنها وجود قانون يلزم الأطفال في التعليم لعمر محدد أي لمرحلة المراهقة، وإصدار قوانين تقضي بمحاسبة الأشخاص الذين يرغمون الأطفال على العمل”، بينما لا يوجد أي جهة يمكنها فرض هذه القوانين في ظل انتشار الجهل ثم السلاح في أوساط المجتمع.

وأضاف: “يجب على المؤسسات المدنية رعاية الأطفال الذين فقدوا معيلهم، إضافة إلى ذويهم، والرعاية يجب أن تكون صحية وتربوية، في ظل الحرب بشكل عام، كبناء مدارس مخصصة للأيتام والمشردين بإشراف جهات رسمية”.

مهرجانات تعليمية تساعد التلميذ على حب التعلم

وأكد: “يجب نشر الوعي الثقافي والفكري بين أفراد المجتمع في مختلف المناطق، من خلال المعلمين والندوات الفكرية، التي تقدمها المنظمات المدنية، إضافة إلى نشر الوعي عبر علماء المساجد لما لهم تأثير في مجتمعاتنا”، إذ لا بد من نشر الوعي بين الأهالي لإرسال أبنائهم إلى المدارس والاهتمام بهم، والمتابعة الصحية والتربوية لمنعهم من التشرد والانحراف.

ويواجه الأطفال السوريون مستقبلًا مجهولًا نظرًا لعدم استقرار المناطق المحررة بشكل فعلي، فلا يزال آلاف الأطفال السوريين بلا تعليم، نظرًا لإغلاق المدارس، وعدم وجود جهة تشرف على تعليمهم، بينما تعتبر عمالة الأطفال من أكثر المشاكل التي تهدد المجتمع وخاصة إذا انتشرت في مناطق تحتوي على مؤسسات تعليمية وخدمية، يوجد الكثير من الأسباب، غير المحدود لانتشار ظاهرة عمالة الأطفال، بينما هناك حلول ولكنها ضيقة لا يمكن تنفيذها في كامل الشمال السوري، هكذا يواجه الأطفال السوريون مستقبلهم المجهول!