ترجمة وتحرير: نون بوست
عندما دخل الصحفي جمال خاشقجي القنصلية السعودية في إسطنبول في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر، لم يكن يعلم أنه ذاهب إلى حتفه. ففي الواقع، كان خاشقجي الهدف الرئيسي لحرب القرن الحادي والعشرين للمعلومات، التي تضمنت وسائلها القرصنة والاختطاف وأخيرا القتل، والتي شنها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وحاشيته ضد معارضيه.
كيف أصبحت معركة الأفكار التي أثارتها كتابات خاشقجي الصريحة في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية قاتلة إلى هذا الحد؟ يمثل هذا السؤال لغز وفاة الصحفي السعودي. ويكمن جزء من جوابه في أن الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والدول الأخرى، التي دعمت سياسات مكافحة التطرف السعودية، قد ساعدت على صقل أدوات التجسس الإلكتروني التي دفعت الصراع نحو خاتمة كارثية في إسطنبول.
على الرغم من أن ولي العهد السعودي قدم وعودا بالتغيير، إلا أنه لم يتسبب للبلد سوى في عدم الاستقرار. وقد أصبحت الترسانة الرقمية التي جمعها بن سلمان أداة لحكمه الاستبدادي. وبالمعنى المجازي، دخل ولي العهد إلى فضاء المعلومات مسلحا بمنشار العظام.
بدأ السعوديون ببناء جيشهم الإلكتروني منذ حوالي عشر سنوات، عندما كان القحطاني يعمل مع ملك السعودية السابق، الملك عبد الله
لقد انطلق هذا الصراع من خلف أسوار مركز الدراسات والشؤون الإعلامية في الرياض، الذي يشرف عليه سعود القحطاني، المسؤول الذكي والطموح في البلاط الملكي الذي لعب دور شخصية “إياغو” الخيالية مع رئيسه العنيد والمرتاب. ووفقا للعديد من المصادر المطلعة على هذا الأمر، التي طلبت التكتم عن ذكر أسمائها لمناقشة هذه المسائل الاستخباراتية الحساسة، عمل القحطاني وزملاؤه المختصون في الفضاء الإلكتروني في البداية مع شركة “هاكينج تيم” الإيطالية، ثم اقتنوا معدات التجسس والاختراق من شركتين إسرائيليتين، “إن إس أو” و”كيو سايبر تكنولوجيز” التابعة لها، بالإضافة إلى شركة “دارك ماتر” الإماراتية. وبنا القحطاني، تدريجيا، شبكة تعمل على مراقبة وتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز أجندة بن سلمان وقمع معارضيه.
عموما، بدأ السعوديون ببناء جيشهم الإلكتروني منذ حوالي عشر سنوات، عندما كان القحطاني يعمل مع ملك السعودية السابق، الملك عبد الله. وكان السعوديين يمتلكون أسبابا مفهومة لتسليح أنفسهم على المستوى الإلكتروني. ووفقا لما أفادت به التقارير، أطلقت إيران فيروس “شامون” في منتصف سنة 2012 مما أدى إلى تعطيل عشرات الآلاف من الحواسيب في السعودية التي استغرق إصلاحها حوالي نصف سنة. كما واجهت المملكة تهديدات إرهابية عنيفة، خاصة بعد انتشار جماعات تنظيم الدولة في كل من سوريا والعراق سنة 2014.
يعود هوس القيادة السعودية بشبكات التواصل الاجتماعي إلى ثورات الربيع العربي والانتفاضات التي هزت تونس في أواخر سنة 2010، التي انتقلت إلى مصر وليبيا والبحرين وسوريا سنة 2011
في الحقيقة، أصبح فضاء المعلومات منطقة حرب بالنسبة للسعوديين والقراصنة الروس الذين هاجموا الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 2016. إلى جانب ذلك، باتت أسلحة الدفاع والهجوم قابلة للتبادل. وقد أخبرني مسؤول استخباراتي أوروبي بنبرة حزينة أن “الأدوات التي تحتاجها لمكافحة الإرهاب هي نفسها التي تحتاجها لقمع المعارضة”. ويبدو أن السعوديين قد استخدموا هذه الوسائل بشكل مفرط.
في هذا السياق، تطرق السناتور مارك وارنر من ولاية فرجينيا، أحد الديمقراطيين البارزين في لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي، إلى مخاطر هذا السلاح السيبراني ذو الحدين. وأضاف وارنر أن “كل أداة مراقبة جديدة تنطوي على احتمال إساءة استخدامها. لهذا السبب، لدينا في الولايات المتحدة نظام قانوني قوي ومحكمة خاصة للإشراف على كيفية استخدام هذه الأدوات. لكن في الدول التي لا تتوفر فيها حماية قانونية للأفراد ولا توجد بها رقابة فعلية من قبل جهات حكومية أخرى، يمكن إساءة استخدام هذه الأدوات بسهولة، ويجب علينا جميعا إيلاء اهتمام لهذا الأمر”.
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان يحضر اليوم الثاني من مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض، المملكة العربية السعودية.
الهوس بشبكات التواصل الاجتماعي
يعود هوس القيادة السعودية بشبكات التواصل الاجتماعي إلى ثورات الربيع العربي والانتفاضات التي هزت تونس في أواخر سنة 2010، التي انتقلت إلى مصر وليبيا والبحرين وسوريا سنة 2011. وخلال تلك المرحلة، خشيت الرياض من أن تكون الهدف التالي لما أسماه الخبير في السياسة العربية بجامعة جورج واشنطن، مارك لينش، “احتجاجات الوسم”.
كانت أجهزة الاستخبارات العربية تراقب عن كثب اتصالات مواطنيها وأنشطتهم السياسية الأخرى، كما قدمت وسائل الإعلام الرقمية فرصا جديدة للنضال والقمع معا. ومن جهتها، سعت الاستخبارات السعودية سنة 2013 لشراء برامج تستطيع اختراق أجهزة الآي فون والآي باد من شركة “هاكينج تيم” الإيطالية. ووفقا لسجلات الشركة، التي كشفت عنها منظمة “ويكيليكس” سنة 2015، أرادت السعودية خلال سنة 2015 التزود ببرامج تساعدها على النفاذ إلى هواتف الأندرويد.
بعد تعيين محمد بن سلمان وليا لولي العهد خلال شهر نيسان/ أبريل من سنة 2015، عمل القحطاني على تعزيز العمليات السيبرانية
عند تولي الملك سلمان سدة الحكم خلال شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 2015، تكثفت الجهود السيبرانية في البلاط الملكي. وأراد القحطاني، المحامي والعضو السابق في القوات الجوية الذي يعمل في البلاط الملكي منذ أكثر من عقد، أن يثبت ولاءه لمحمد بن سلمان، الابن المفضل للملك الجديد. لقد جعل القحطاني نفسه شخصية لا غنى عنها في دائرة بن سلمان الداخلية، لكنه أصبح كذلك العضو الأكثر خطورة. لذلك يصفه أحد السعوديين البارزين الذي يعرفه جيدا قائلا: “إنه يدمر كل شيء. ومع رعاية بن سلمان له، كان يستخدم سياسة العصا والجزرة كثيرا”.
شراكة إستراتيجية
بعد تعيين محمد بن سلمان وليا لولي العهد خلال شهر نيسان/ أبريل من سنة 2015، عمل القحطاني على تعزيز العمليات السيبرانية. وبتاريخ 29 حزيران/ يونيو من سنة 2015، راسل القحطاني مدير شركة “هاكينج تيم” وطلب منه مده “بقائمة كاملة من الخدمات التي تقدمها شركتهم الموقرة” واقترح عليه “شراكة طويلة وإستراتيجية”. وتقدم شركة “هاكينج تيم” على موقعها الإلكتروني “مجموعة من أدوات القرصنة لعمليات التنصت الحكومي” وتعتبر نفسها مصدرا “لتكنولوجيا هجومية فعالة وسهلة الاستخدام”. ووفقا للملف الشخصي لمؤسس الشركة لسنة 2016، الذي نشرته مجلة “فورين بوليسي”، شملت قائمة عملاء الشركة بحلول سنة 2013 حوالي 40 حكومة.
أصبحت العلاقة بين شركة “هاكينج تيم” والمملكة العربية السعودية قوية لدرجة أنه عندما واجهت الشركة الإيطالية صعوبات مالية بعد تسريب سجلاتها سنة 2015 من قبل “ويكيليكس”، تدخّل المستثمرون السعوديون لإنقاذ الموقف. ووفقا لتقرير نُشر خلال شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 2018 على موقع “ماذر بورد”، حصلت شركة مقرها قبرص اسمها “تابلم ليمتد” يترأسها رجل أعمال من عائلة القحطاني، على حصة تقدر بنسبة 20 في المائة من الشركة في منتصف سنة 2016.
أفاد مسؤولان أمريكيان سابقان بأن بن سلمان كان يتابع التقدم السريع الذي حققته شركة “دارك ماتر” الإلكترونية الإماراتية، وأراد أن تواكب المملكة هذا التقدم
حسب ما نشره نفس الموقع، مثل المستثمرين الجدد في هذه الشركة محام سعودي بارز يدعى خالد الثبيتي خلال اجتماع عُقد في مدينة ميلانو في أيار/ مايو سنة 2016. ومن جهته، أخبر مؤسس شركة “هاكينج تيم” موقع “ماذر بورد” أنه “لم يكن متأكدا من هوية القحطاني والثبيتي”، مشيرا إلى أن “الحكومة السعودية غامضة حتى بالنسبة لي”. ومن جهة أخرى، حصل بن سلمان على أدوات الاختراق التي قدمتها إيطاليا، لكن تقول مصادر أمريكية وسعودية إن ولي العهد سعى إلى الحصول على أدوات تجسس واختراق بقدرات أكبر.
في شأن ذي صلة، أفاد مسؤولان أمريكيان سابقان بأن بن سلمان كان يتابع التقدم السريع الذي حققته شركة “دارك ماتر” الإلكترونية الإماراتية، وأراد أن تواكب المملكة هذا التقدم. وأشار هذان المصدران إلى أن الشركة الإماراتية بإمكانها توفير التدريب والمعدات اللازمة لذلك، لكن بن سلمان أراد الحصول على أحدث الأنظمة وأكثرها تطورها. وقال مسؤول أمريكي سابق عمل مع المملكة حول مكافحة الإرهاب إن “بن سلمان أراد تجسيد القدرات التي يمتلكها الإماراتيون في المملكة”.
يبدو أن المملكة العربية السعودية قد دخلت مجالا مزدحما. فقد كان انتشار أسلحة الحرب الإلكترونية يتسارع في جميع أنحاء العالم، ويرجع ذلك جزئيا إلى حماس الولايات المتحدة لأي أمر يمكن وصفه على أنه “مكافحة التطرف العنيف”. وحسب أحد المسؤولين الأمريكيين السابقين الذين عملوا مع الديوان الملكي على المسائل الإلكترونية، فإن “السعوديين شعروا بأنهم طالما أنهم قمعوا التطرف، يحق لهم ملاحقة المواطنين في بلادهم أيضا. ولم تكن الولايات المتحدة ترغب في فعل أي شيء لردع مثل هذه الممارسات”.
لقاء ولي العهد محمد بن سلمان مع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما سنة 2016.
الرئيس دونالد ترامب يعرض مخططا يسلط الضوء على حجم مبيعات الأسلحة للسعودية خلال اجتماع مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في آذار/ مارس سنة 2018.
مراقبة مستوى التقدم الجاري
تمكّنت من إلقاء نظرة حتى أتمكن من تبيّن مدى شغف المملكة العربية السعودية بتكنولوجيا المراقبة الرقمية خلال عدة زيارات قمتُ بها للمملكة في نيسان/أبريل سنة 2017 وآذار/مارس سنة 2018. وفي كلتا المناسبتين، دُعيت إلى رؤية المركز الجديد لمكافحة الإرهاب داخل الديوان الملكي، والذي أطلق عليه السعوديون اسم مركز “المراقبة الرقمية للتطرف”. وكانت هذه المنشأة حديثة للغاية، مع تواجد العشرات من التقنيين الذين ينظرون إلى شاشاتهم ويراقبون موقع التويتر باللغة العربية وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا الصدد، أفاد السعوديون أنهم كانوا يعملون على مراقبة الحسابات التابعة لتنظيم الدولة والجماعات الشيعية المدعومة من قبل إيران. ومن جهته، منحني مدير المركز العديد من المنشورات المطبوعة، حيث تحدث أحدها عن قيام المركز بمراقبة 1.2 مليون تغريدة وإعادة تغريدة تتعلق بتنظيم الدولة على التويتر خلال الأسبوعين الأخيرين بداية من شهر كانون الأول/ ديسمبر سنة 2016، فضلا عن قدرة الأدوات البرمجية للمركز على تمييز “الدعم الموجه للتنظيم” بمعدلات عالية من الدقة. ووصف الكتيّب الثاني أدوات برمجية متطورة لتحليل وتصوير مواقع التواصل الاجتماعي التي يستخدمها مؤيدو كل من تنظيم الدولة والجماعات المسلحة الشيعية.
أفاد أحد كبار المسؤولين الاستخباراتيين السابقين، والذي سبق له العمل مع ولي العهد محمد بن سلمان، قائلا: “ولي العهد يفضل الاستراتيجيات ذات الخطر المرتفع، فهو دائما ما كان يقلل من شأن الخطر المحتمل ولا يفكر في العواقب الوخيمة لما يقوم به”
أصر المسؤولون السعوديون على اعتبار أن عدوهم هو التطرف، مشددين على فكرة أن ولي العهد محمد بن سلمان كان ينقل المعلومات المتحصل عليها إلى مسؤولين أوروبيين وأمريكيين. علاوة على ذلك، أشار أحد الكتيبات بأن مركز القحطاني يدمج خاصية تطوير البرمجيات بأحدث تقنيات التحليل الكمي والنوعي لدعم الحاجة إلى مراقبة النشاط الإلكتروني للمتطرفين. لذلك، لم يفهم معظم المراقبين، بمن فيهم أنا، مدى سرعة تكيف هذه الأدوات لمحاربة الأصوات المعارضة مثل جمال خاشقجي.
ميل نحو الخطر
نظرا لكونه يفتقر للتجربة، وجد ولي العهد نفسه في خضم مغامرات ذات عواقب محفوفة بالمخاطر في العالم الواقعي والافتراضي. ولمحاربة الحوثيين المدعومين من إيران، عمل بن سلمان على غزو اليمن سنة 2015 وشنّ حملة عسكرية لا تزال مستمرة إلى اليوم. بالإضافة إلى ذلك، عمل الأمير الشاب على التحقق مما اعتبره نفوذ الإخوان المسلمين في دولة قطر المجاورة من خلال قيادة حرب إلكترونية على قطر، وذلك بالاعتماد على آليات المحادثات الاصطناعية وغيرها من الأدوات التي تشجع على التلاعب بمواقع التواصل الاجتماعي.
في هذا الصدد، أفاد أحد كبار المسؤولين الاستخباراتيين السابقين، والذي سبق له العمل مع ولي العهد محمد بن سلمان، قائلا: “ولي العهد يفضل الاستراتيجيات ذات الخطر المرتفع، فهو دائما ما كان يقلل من شأن الخطر المحتمل ولا يفكر في العواقب الوخيمة لما يقوم به”. ويمكن القول إن مثل هذه القدرات السيبرانية كانت لتكون أقل خطورة في حال كانت تُدار من قبل مختصين في أجهزة الاستخبارات السعودية، لكنها أصبحت أدوات سياسية في يد محمد بن سلمان ومساعده القحطاني.
ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان يصل إلى افتتاح قمة مجموعة العشرين في مركز كوستا سالغيرو في بوينس آيرس.
حافز نحو السعي للهيمنة
مع حلول سنة 2017، تسارعت حركة المملكة لتحقيق الهيمنة الرقمية. ووفقا لما أوردته مصادر استخباراتية أمريكية، شعر محمد بن سلمان بالتهديد من المنافسين الآخرين في خضم العائلة الملكية، خاصة بعد ظهور عدة تقارير تتحدث عن محاولتي اغتيال خلال السنة الماضية. في المقابل، رد ولي العهد على هذه المزاعم بقيادة انقلاب داخلي، تمكّن من خلاله من إسقاط محمد بن نايف وإزاحته من منصبه، فضلا عن اعتقال أكثر من 200 أمير آخر والعديد من القياديين البارزين في تشرين الثاني/ نوفمبر من السنة ذاتها، واحتجازهم في فندق ريتز كارلتون في الرياض حتى تعهدوا بالولاء وبدفع مبالغ من المال في شكل أشبه بالفدية.
لقد أثار الانقلاب الذي قاده محمد بن سلمان حلقة مفرغة. ففي كل مرة اعتقلت فيها المحكمة العليا عدوّا ما أو أمرت بوضعه تحت المراقبة، حذر القحطاني وغيره من التابعين من ظهور أعداء جدد، يُحتمل أنهم مجندون من قبل المنافسين الإقليميين للمملكة العربية السعودية، وهم قطر وإيران.
شعر الإماراتيون والسعوديون أنهم متخلّفون عن الركب فيما يتعلق بالحرب المعلوماتية، ناهيك عن شعورهم بالغضب على مدار العقد الماضي بسبب قناة الجزيرة الفضائية المدعومة من قطر ودعمها للمعارضة العربية.
كان القحطاني قائدا ميدانيا يتسم بطابع عدائي في الفضاء السيبراني، كما أنه حث السعوديين على تقديم أسماء الأشخاص الذين يُشتبه في ولائهم لقطر وغيرهم من المعارضين، وذلك من خلال استخدام وسم “القائمة السوداء” على موقع التويتر. وفي إحدى التغريدات التي نشرها في آب/أغسطس سنة 2017 للدفاع عما تقوم به المملكة، أفاد القحطاني: “هل تعتقد أنني أتصرف من تلقاء نفسي دون توجيه؟ أنا موظف ومنفذ أمين لأوامر سيدي الملك وسمو سيدي ولي العهد الأمين”.
أصبحت الحملة ضد قطر حملة رقمية متاحة للجميع، فقد شعر الإماراتيون والسعوديون أنهم متخلّفون عن الركب فيما يتعلق بالحرب المعلوماتية، ناهيك عن شعورهم بالغضب على مدار العقد الماضي بسبب قناة الجزيرة الفضائية المدعومة من قطر ودعمها للمعارضة العربية. ومع تعمق الخلاف القطري، أصبح الأمر بمثابة حرب خنادق يخوضها قراصنة الإنترنت، حيث تجد الرسائل الإلكترونية المسربة طريقها إلى وسائل الإعلام الإخبارية الأمريكية بشكل مجهول.
من جهتها، زعمت قطر أن الإمارات العربية المتحدة اخترقت حساب قناتها الرسمية على التويتر في شهر أيار/ مايو سنة 2017، حتى يتسنى لها نشر أخبار زائفة. وبعد بضعة أشهر، تم تسريب رسائل البريد الإلكتروني التي تم اختراقها من حساب يوسف العتيبة، سفير الإمارات لدى واشنطن، إلى الصحفيين. علاوة على ذلك، قدم رجل أعمال أمريكي تعمل شركته لصالح الإمارات العربية المتحدة في شهر أيار/ مايو الماضي دعوى قضائية زعم من خلالها أن اتصالاته قد تم اختراقها من قبل ضباط مخابرات سابقين أمريكيين وبريطانيين استأجرتهم قطر.
مع حلول سنة 2018، كان مركز القحطاني للدراسات والشؤون الإعلامية يخوض حربا ضد الأعداء على جبهات متعددة، وكان بعض هذه الحروب لأسباب حقيقية، في حين كان بعضها وهميا.
نتيجة لذلك، أصبح الفضاء الإعلامي الأمريكي مفتوحا على مصراعيه لتشكيل منطقة صراع تحتضن هذه المعركة العربية من أجل النفوذ. وبالعودة إلى ما كتبته في أحد الأعمدة التي نُشرت في أيار/مايو سنة 2018، سبق لي الإشارة إلى أن الولايات المتحدة باتت لبنان الجديد بالنسبة للأطراف المتنازعة في الشرق الأوسط، حيث أصبحت المكان الذي تتجه إليه الدول الأخرى لخوض حروبها القذرة عن طريق الوكالة”.
صفقة الشيطان
مع حلول سنة 2018، كان مركز القحطاني للدراسات والشؤون الإعلامية يخوض حربا ضد الأعداء على جبهات متعددة، وكان بعض هذه الحروب لأسباب حقيقية، في حين كان بعضها وهميا. علاوة على ذلك، واصل السعوديون رحلة بحثهم عن أسلحة جديدة. ومن جهتها، أظهرت شركة دارك ماتر قدراتها في مؤتمر القبعات السوداء لقراصنة الإنترنت في مدينة لاس فيغاس الأمريكية سنوات 2017 و2018 و2019.
في الواقع، من بين عروض شركة دارك ماتر، يمكن تبين نظام “كاتيم” لتشغيل الهاتف الذكي، الذي يمكنه محاربة المتسللين الآخرين عن طريق إيقاف آلة التصوير عن العمل والميكروفون، فضلا عن التسبب في تدمير بيانات الجهاز بصفة ذاتية في حال وقع اختراقه من قبل مستخدم غير مصرح به. وفي الحقيقة، لم يتم الرد على المكالمات التي وجهناها نحو المقر الرئيسي لشركة دارك ماتر في أبوظبي يوم الخميس الماضي. كما قال أحد الأشخاص المطلعين على خفايا الشركة إنهم لن يستجيبوا لمحاولات الاتصال بهم.
حصلت “إسرائيل” على حليف عربي سني في مواجهة إيران، كما حظيت بفرصة لجمع المعلومات حول المملكة العربية السعودية بالاعتماد على التعاون الإلكتروني بينهما، في حين حصل محمد بن سلمان على أدوات جديدة لمحاربة أعدائه الداخليين
لطالما علم السعوديون أن الإسرائيليين، عدوهم التاريخي، يمتلكون أدوات اختراق أكثر تطورا. ووفقا لمصادر أمريكية وأوروبية وسعودية، يتطلع السعوديون بشكل متزايد إلى شراء المعدات والبرمجيات من شركات التكنولوجيا الإسرائيلية. وعموما، أسفر هذا التعاون عن واحدة من أكثر التحالفات الاستخباراتية إثارة في تاريخ الشرق الأوسط، حيث بدأت الشركات الإسرائيلية بمشاركة بعض السعوديين أسرارها الإلكترونية.
بشكل عام، كان الأمر بمثابة صفقة شيطانية، حيث حصلت “إسرائيل” على حليف عربي سني في مواجهة إيران، كما حظيت بفرصة لجمع المعلومات حول المملكة العربية السعودية بالاعتماد على التعاون الإلكتروني بينهما، في حين حصل محمد بن سلمان على أدوات جديدة لمحاربة أعدائه الداخليين. وفي شأن ذي صلة، أفاد ثلاثة مسؤولين أمريكيين أن السعوديين سعوا إلى شراء نظام متطور لتشغيل الهواتف الذكية يدعى “بيغاسوس”، والذي وقع تطويره من قبل شركة إسرائيلية تعرف باسم “مجموعة إن إس أو”.
وقع تلخيص قدرات نظام “بيغاسوس” في تقرير صدر في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2018 من قبل “سيتيزين لاب”، وهي مؤسسة أبحاث كندية تهتم بشؤون الإنترنت. وورد في هذا التقرير أنه “بمجرد قرصنة هاتف الضحية، يتوفر لدى العميل إمكانية الولوج إلى ملفاته الشخصية، على غرار المحادثات ورسائل البريد الإلكتروني والصور. ويمكنه أيضا استخدام الميكروفون والكاميرات الموجودة بالهاتف للتجسس على الأشخاص المستهدفين”.
أوضح المصدران أن شركة “كيو سايبر” تعاملت بشكل مباشر مع السعوديين، وساعدتهم على حل بعض المشاكل التي تشوب عادة أنظمة المراقبة السيبرانية
أفاد مصدران مطلعان أن السعوديين تعاملوا مع شركة “كيو سايبر تكنولوجيز” ومقرها في لوكسمبورج، التابعة لمجموعة “إن إس أو” الإسرائيلية، لإجراء بعض معاملاتهم مع الشركة الإسرائيلية. ولا يقدم موقع الشركة على الإنترنت سوى تفاصيل قليلة عن نشاطها التجاري، لكنه يعرض إعلانا متفائلاً حول خدماتها يقول فيه إن الشركة تسعى إلى “المساعدة في جعل العالم مكانًا أكثر أمانًا”.
في سياق متصل، أوضح المصدران أن شركة “كيو سايبر” تعاملت بشكل مباشر مع السعوديين، وساعدتهم على حل بعض المشاكل التي تشوب عادة أنظمة المراقبة السيبرانية. ووعدت شركة “كيو سايبر” بأنها قادرة على قرصنة أغلب المستخدمين في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى العديد منهم في أكبر دول أوروبا. وعلى الرغم من أن بعض الإسرائيليين كانوا يشعرون بالقلق حيال تقاسم هذه القدرات السرية مع دولة عربية قيادية، إلا أن مسؤوليْن أمريكييْن سابقيْن على دراية بالموضوع أكدا لي أن “شراء نظام بيغاسوس من قبل السعوديين تم بعد موافقة الحكومة الإسرائيلية”.
عندما سُئل عن شراء السعوديين لنظام “بيغاسوس”، لم يؤكد المحامي الذي يمثل مجموعة “إن إس أو” وشركة “كيو سايبر” التابعة لها أيًا من عملاء الشركة، ولكنه لم ينكر أيضا. وفي تعليقه حول مبيعات “إن إس أو” لنظام المراقبة “بيغاسوس”، قال المحامي إن “العميل يقدم وعودا تفيد بأنه سيستخدم المنتج بطريقة قانونية في ذلك البلد. ولكن من الواضح أنه تحدث بعض الانتهاكات في بعض الأحيان”.
على صعيد آخر، قال مستشار بريطاني في المسائل الإلكترونية عمل مع القحطاني، إن “سعود سعى إلى الحصول على مثل هذه الأنظمة بعيدا عن أعين وكالات الاستخبارات المعروفة”. كما وصفه أمريكي تعامل معه في المسائل الإلكترونية، بأنه “شديد الملاحظة، لكنه يسيطر بشكل مفرط على كل ما يتعلق بمحاولته لإنشاء علاقات مع شركات الاستخبارات الغربية بطرق من شأنها أن تساعد محمد بن سلمان سياسيًا”.
الصحفي السعودي جمال خاشقجي خلال مؤتمر صحفي في المنامة.
الذباب والنحل
استدرِج جمال خاشقجي، الذي يعتبر واحدا من أشهر الصحفيين السعوديين، إلى هذا الصراع. وبينما سعى القحطاني لمحاربة قطر على تويتر من خلال اعتماده على الذباب الإلكتروني، حاول أصدقاء خاشقجي خلق حضور إعلامي بديل. ووفقاً لدعوى قضائية رُفعت في تل أبيب يوم الأحد الماضي، شجع عمر عبد العزيز، وهو شاب سعودي معارض مقيم في كندا، جمال في شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز من هذه السنة على المساعدة في تجنيد جيش إلكتروني للتصدي للذباب الإلكتروني.
لكن، أشارت الدعوى القضائية أيضا إلى أن خاشقجي وصديقه عبد العزيز لم يكونا على علم بأن السعوديين كانوا قادرين على التجسس على رسائلهم، بفضل نظام المراقبة “بيغاسوس” الذي استوردته المملكة من إسرائيل. وتزعم الدعوى أن السلطات السعودية ألقت القبض على اثنين من إخوة عبد العزيز في المملكة العربية السعودية في أواخر الصيف الماضي. كما تفيد الدعوى بأن أحد إخوة عبد العزيز، الذين تعرضوا لضغوط شديدة، توسل لأخيه أن يوقف نشاطه السياسي. كما أكدت الدعوى أن نظام مراقبة بيغاسوس قدم العديد من المعلومات حول خاشقجي للسعوديين، التي ساهمت في اتخاذ قرار قتله.
في المقابل، عارض متحدث باسم “إن إس أو” الادعاءات التي تضمنتها الدعوى القضائية قائلا: “بما أنها مسألة أمنية، فإننا لن نناقش ما إذا كانت حكومة معينة قد تحصلت على رخصة لاستخدام تقنيتنا. هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة، ناهيك عن أنها لم تقدم أي دليل على استخدام تكنولوجيا الشركة. ويبدو أن الشكوى قائمة على مجموعة من التقارير والمقالات التي لا تعكس واقع عمل شركتنا، والتي تم كتابتها لهدف واحد، ألا وهو تصدر عناوين الأخبار. نحن نتبع بروتوكولًا صارمًا للغاية لترخيص استعمال منتجاتنا، ولا تُباع للعملاء إلا بعد الحصول على الموافقة من الحكومة الإسرائيلية”.
أفاد مسؤولون سعوديون بأن خاشقجي كان قد تلقى عرضا من صحيفة الحياة الموالية للنظام السعودي، قبل أن يشرع في الكتابة لصالح صحيفة واشنطن بوست
من جانب آخر، كانت الحملة التي شنها القحطاني ضد خاشقجي مسألة شخصية. وفي هذا الإطار، أخبرني مسؤول سعودي أن القحطاني شعر بأنه خذل محمد بن سلمان، عندما سمح لجمال بمغادرة المملكة خلال سنة 2017. وبعدما سافر خاشقجي إلى الولايات المتحدة في وقت لاحق من السنة ذاتها وبدأ بكتابة مقالات ينتقد فيها المملكة العربية السعودية في صحيفة واشنطن بوست، أصبح القحطاني ينظر إلى الصحفي السعودي على أنه عدو متمرد في مجال الصحافة، يسعى إلى السيطرة عليه.
من جهتهم، أفاد مسؤولون سعوديون بأن خاشقجي كان قد تلقى عرضا من صحيفة الحياة الموالية للنظام السعودي، قبل أن يشرع في الكتابة لصالح صحيفة واشنطن بوست. ولكن، سرعان ما بدأ خاشقجي في نشر مقالاته على الصحيفة الأمريكية، ما جعل صوته يعلو على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد حاول السعوديون الضغط على جمال، من خلال منع ابنه صلاح من السفر خارج المملكة، إلا أنه لم يتوان عن مواصلة نشاطه في الصحيفة، على الرغم من أن القرار المتعلق بابنه أزعجه كثيرا.
في شهر يوليو/تموز الماضي، أفاد مسؤول أمريكي بأن القحطاني أقنع بن سلمان بأن خاشقجي يشكل تهديدا على المملكة. ودفع هذا الأمر ولي العهد إلى أن يرسل له رسالة يأمره فيها بإعادة جمال إلى المملكة، مع اعتماد القوة إذا لزم الأمر. في المقابل، لم يفهم المسؤولون الأمريكيون مضمون تلك الرسالة سوى بعد فوات الأوان. وقد أصبح خاشقجي هدفا سهلا، بعد زيارته للقنصلية السعودية في إسطنبول في سبتمبر/أيلول للحصول على وثائق لخطيبته. وطلب منه حينها العودة خلال الأسبوع التالي لاستكمال الأوراق المطلوبة. وفي هذه الأثناء، أشار مصدران سعوديان إلى أن القحطاني ساهم في ذلك الوقت في جمع فريق من المخابرات السعودية والعسكريين الذين وثقت بهم العائلة الملكية السعودية.
يعتبر القحطاني واحدا من 17 سعودياً فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليهم بسبب ضلوعهم في مقتل خاشقجي.
كان ماهر مطرب، قائد فريق القتل الذي أرسل إلى إسطنبول، والمسؤول عن تأمين اتصالات ولي العهد السعودي عند سفره إلى الخارج. كما أخبرني مسؤول سعودي بارز يوم الخميس الماضي أن “القحطاني ممنوع من السفر حاليا وأنه رهن الاحتجاز”، وذلك وفقا لما أعلن عنه المدعي العام السعودي يوم 15 نوفمبر/تشرين الأول.
في أكتوبر/تشرين الأول، تم التوقيع على إقالة القحطاني من منصبه في القصر الملكي. ويعتبر القحطاني واحدا من 17 سعودياً فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات عليهم بسبب ضلوعهم في مقتل خاشقجي. وفي هذا الشأن، قالت وزارة الخزانة الأمريكية في بيانها إن “القحطاني هو أحد الأشخاص الذين ساهموا في التخطيط وتنفيذ العملية. كما كان مطرب من نسق ونفذّها”. ولا تزال قضية مقتل خاشقجي تطرح أسئلة حول أسبابها وكيفية حدوثها. ولكن، دافع القاتل كان بمثابة حرب السيطرة على المعلومات.
المصدر: واشنطن بوست