منذ نشأته التي تزامنت مع الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان عام 1982، كان “حزب الله” محور جدل كبير. وعلى مدى نحو 40 عامًا انقسم الناس في العالمين العربي والإسلامي في الموقف منه، بين من رآه ميليشيا طائفية عابرة للحدود، ومن عده فصيلًا مقاومًا يحارب الاحتلال الإسرائيلي ويقاومه، الحزب الذي قدم نفسه ليس كفصيل مسلح فحسب، بل كمنظمة خيرية إغاثية وكحزب سياسي أيضًا.
قد يمكن تقسيم المراحل التي مر بها “حزب الله” إلى خمس: منذ تأسيسه مطلع ثمانينيات القرن الماضي وحتى 1990 بعد اتفاق الطائف ووقف الاقتتال في لبنان، ومن وقف الاقتتال وحتى انسحاب “إسرائيل” في مايو/أيار 2000، ومن ذلك التاريخ وحتى حرب يوليو/تموز 2006، ثم ومن وقت انتهائها وحتى اندلاع الثورة السورية 2011، وأخيرًا من العام التالي لاندلاعها أي في 2012 – منذ تدخل الحزب بشكل مباشر في سوريا – وحتى هذا الوقت، وتقلب المزاج العربي والسوري تجاه الحزب وفق الأحداث والمواقف والأدوار التي لعبها خلال أكثر من 40 سنة.
“حزب الله” بطل المسلسل الإيراني الطويل
ظهر “حزب الله” خلال الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان الغارق في حرب أهلية طائفية وفي مناخ سياسي لبناني وإقليمي متوتر وعنيف، تبنى “الإسلام الشيعي” في ظل الصراع اللبناني بين الدين والدولة، بالتزامن مع شروع إيران بتنفيذ سياسة تصدير الثورة التي كان “حزب الله” أهم من يستوردها في الشرق الأوسط بل والعالم، كمنظمة إسلامية عسكرية سياسية وخيرية مبنية على التبعية لإيران “الخميني”، الولي الفقيه وروح الله الذي قال: “إن أردنا تصدير الثورة فيجب أن نفعل شيئًا حقيقيًا ليتمكن الناس من السيطرة على الحكومات بأيديهم”.
وتبنى الحزب -عندما واتته الفرصة- نهج التدخل المباشر في شؤون الدول المجاورة، بحجج تهميش الشيعة في البحرين، واضطهاد الشيعة في السعودية، ومظلمة الشيعة السياسية والتاريخية في العراق، محاربة الإرهاب في سوريا، ومقاومة الكيان الصهيوني من لبنان.
وكانت الطائفية هي البوصلة التي وجهت المشروع الإيراني الشعبوي-الشيعي في مسلسله الطويل الذي كان “حزب الله” في معظم حلقاته مُمثلًا يؤدي دور البطولة، لتبقى أرباح شركة الإنتاج الإيرانية مستمرةً مع تكرار عرض المسلسل!
تقلب المزاج العربي والسوري تجاه “حزب الله”
لم يكن العرب عمومًا والسوريون خصوصًا قد التفتوا عند نشأة “حزب الله” وبعد ذلك بسنوات طويلة إلى مسألة طائفيته الحزبية، فلقد قدم نفسه كحزب مقاوم محارب للاحتلال الإسرائيلي ولحلفائه، ولم يقدمها على أنه حزب شيعي يتبع سياسات وأوامر الولي الفقيه في طهران، وأقلُه أنه لم يُعلن بوضوح وبشكل مباشر أنه حزب تسوسه إدارة أجنبية بأدوات محلية مصنعة على أساس طائفي.
بعد 25 مايو/أيار 2000 والانسحاب الإسرائيلي من لبنان، دخل “حزب الله” مرحلةً جديدةً، فلقد زادت شعبيته في العالم العربي وفي سوريا (قلعة الصمود والتصدي لـ”إسرائيل”)، وأصبح وكيلًا حصريًا لتنفيذ سياسة النظام السوري وحليفه الإيراني في الضغط على “إسرائيل” لتحقيق مكاسب إقليمية واستراتيجية، خاصةً أن الانسحاب الإسرائيلي قد تم دون اتفاق سياسي مع الدولة اللبنانية أو مع “حزب الله” نفسه.
بدأ الحزب العمل حثيثًا للاندماج في الحياة السياسية اللبنانية، وفاز بالتعاون مع “حركة أمل” العلمانية ذات التوجه والأغلبية الشيعية بـ11 مقعدًا من أصل 128 في انتخابات 2005، فكانت هذه مرحلة توسع سياسي داخل لبنان وخارجه، بالإضافة إلى تحقيق جملة من الإنجازات العسكرية التكتيكية كعملية أكتوبر/تشرين الأول 2000 التي أُسِر فيها ثلاثة جنود إسرائيليين ومبادلتهم مطلع 2004 بأكثر من 400 أسير عربي، وحافظ الحزب على سياسة “توازن الرعب مع إسرائيل” كما أمن مناطق نفوذه جنوب لبنان، فارتفعت أسهمه وتوسعت قاعدته الشعبية الحاضنة في لبنان، وزاد مؤيدوه وداعموه في سوريا والعالم العربي.
بعد اندلاع حرب يوليو/تموز 2006 تباينت المواقف بين الشعوب العربية وأنظمتها الحاكمة، ففي حين انتقدت أنظمة مصر والأردن والسعودية الحرب لما سببته للبنان من خسائر بشرية ومادية رهيبة بل وخوفًا من تعاظم الدور الإيراني في المنطقة العربية، كان موقف النظام السوري موقف الحليف الداعم علنًا للحزب وسياساته وحربه.
أما على الصعيد الشعبي فلقد أصبح دعم “حزب الله” كرمز للمقاومة دعمًا عارمًا، وتصدرت شخصية حسن نصر الله المشهد العربي باعتباره القائد الذي وقف في وجه “إسرائيل” عكس قادة الأنظمة العربية المتخاذلة.
الثورة السورية و”حزب الله”
اندلعت الثورات العربية أخيرًا، وخرجت الجماهير مطالبةً بالحرية والعدالة والإصلاح، وأصبحت المنطقة منذ بداية 2010 على موعد مع التغيير، وإن كانت ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن قد قدمت الكثير من التضحيات والخسارات، كان للثورة السورية شأن آخر على كل الأصعدة، القمع والبطش، القتل الممنهج، استخدام كل أنواع الأسلحة الحربية ضد السوريين الثائرين، التشريد والتهجير الديموغرافي، واستدعاء التدخل العسكري الخارجي، ولقد كان “حزب الله” سباقًا في قتل السوريين وتدمير حواضرهم وتشريدهم.
مع بداية الربيع العربي منذ أواخر 2010 كان الحزب قد وصل إلى أوج قوته العسكرية وتأثيره السياسي، ومع أول هتاف يطلقه السوريون للمطالبة بإسقاط النظام، كان “حزب الله” حاضرًا متأهبًا بكل قوته وإمكانياته العسكرية لدعم النظام في مواجهة الثورة السورية، وساق مجموعةً من الذرائع الواهية لتبرير تدخله العسكري السافر ضد الثورة السورية ودفاعه المستميت عن النظام لدعمه وإبقائه، وتناوب قادته الادعاء بأن ذهاب قواتهم إلى سوريا كان لحماية المواقع والمزارات الشيعية، ومواجهة الجماعات الإرهابية المسلحة، ولأن مصلحة “محور المقاومة” تتعلق ببقاء الحليف الأسد، وهزيمته ستوقف الدعم الإيراني والسوري بالتأكيد.
أثمان وتداعيات.. كيف أضعف التدخل في سوريا قدرة “حزب الله” على مواجهة “إسرائيل”؟
صعد “حزب الله” من نبرة الطائفية وتصدرت هذه المسألة مشهد الصراع، حتى بات يُنظر إلى هذا الصراع غير المتكافئ وكأنه حرب مشتعلة بين السنة والشيعة، وليس ثورةً شعبيةً قوبلت بأقسى أساليب القمع، ورغم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي تكبدها الحزب، فإن هذا التدخل فرض صورةً جديدةً مضافةً إليه، وهي صورة القوة المؤثرة في الصراعات الخارجية التي لا تمت إلى “إسرائيل” بصلة.
ويبدو أن رمز المقاومة، حسن نصر الله، الذي قتلته “إسرائيل” مؤخرًا، قد أدرك خطورة أن يرى العالم العربي هذه الصورة، فبرر ببساطة التدخل في سوريا بأنه الطريق إلى القدس، الذي يمر من الحسكة وحلب ودرعا وحمص..، (يمر الطريق إلى القدس بسوريا عن طريق إبقاء نظام أسد، هذه هي الخلاصة!).
هل تفاجأنا؟
كان تدخل “حزب الله” مفاجأةً غير كاملة للسوريين، وتشكل هذا الانطباع أيضًا لدى من كانوا يراقبون المشهد السوري وصيرورته إلى العنف والتدخل الخارجي العسكري بشكل ممنهج ومضطرد، وفي حين رأى السوريون أن دعم الحزب للنظام السوري كان متوقعًا بسبب التحالف الوظيفي القديم بينهما منذ تأسيس الحزب ودعم حافظ الأسد القوي له، ليقف الحزب مع النظام السوري ضد أي مواجهة تستهدفه، فكيف إن كانت تستهدف بقاءه ووجوده؟
لكن توقع حدوث تدخل بهذا الزخم وبكل هذه الوحشية، لم يكن في الحسبان، خاصةً حين تحول ذلك بسرعة إلى عمل عسكري واسع داخل الأراضي السورية وفي مناطق واسعة تمتد على كل التراب السوري، في القصير، القلمون، الزبداني ومضايا، الغوطة الشرقية، وفي حلب وإدلب، وفي درعا والقنيطرة، وفي تدمر وسط سوريا وغيرها، وباستخدام كل أنواع الأسلحة الحربية، ارتكب “حزب الله” مجازر القتل والإبادة والتهجير الجماعي، ما فاق حدود التصور.
حدث الأمر نفسه على المستوى العربي والإقليمي والدولي، وكانت المفاجأة في حجم تدخل الحزب واتساعه، إذ بدد كل التوقعات والفرضيات بتدخل محدود سريع وقصير، حين ظهر أنه ذاهب إلى سوريا ليكون جزءًا لا يتجزأ من العمل العسكري المباشر، وسببًا رئيسيًا في تحقيق انتصارات عسكرية مهمة لنظام بشار على شعبه.
ببساطة.. لقد وضعت الثورة السورية وتدخل “حزب الله” لمحاربتها مفهوم المقاومة الذي ادعاه وشعارات التحرير التي رفعها تحت بصر وسمع العالم، وانكشف بوضوح أن مصداقية هذا التنظيم العسكري والسياسي والاجتماعي لم تكن سوى مرآة تعكس الصور مقلوبةً.
فمن مقاومة “إسرائيل” دفاعًا عن الحرية ووقوفًا إلى جانب المظلومين، إلى دعم نظام قمعي مجرم واجه شعبه المظلوم المطالب بالحرية بوحشية خيالية، ومن “حركة إسلامية جهادية مناضلة” كما يصر الحزب على تقديم نفسه في أدبياته وبياناته وتصريحاته، إلى تنظيم طائفي بغيض يستهدف قوى الثورة والمعارضة السورية لأنها تنتمي بمعظمها إلى الأغلبية السنية في سوريا، ومن حركة مقاومة وتحرر، إلى مجرد ذراع إقليمية عسكرية طائفية تتناول وتخدم مصالح إيران وسياساتها وأهدافها في المنطقة العربية.
بعد كل الذي عاناه أغلب السوريين بشكل مباشر من أفعال “حزب الله” في سوريا، وما عاناه كل السوريين من سياساته التي أدت إلى تعاظم المقتلة السورية، كانت منطقيةً وعادلةً هذه المواقف السلبية تجاه الحزب، فلم يعد السوريون يرون فيه سوى شكل بشع من أشكال النفاق السياسي والديني الذي مارسه على مرّ عقود، ليخدع أجيالًا كانت تراه بطلًا في مقاومة الاحتلال الصهيوني ورمزًا من رموز الحرية والكرامة، حتى انكشفت الخطابات الكاذبة حول التحرر والمقاومة، وازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا الوجودية، وأهمها الحرية والكرامة.