منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي عام 1981 من القرن الماضي التأمت القمة الخليجية في عدد من المرات وسط ظروف صعبة ومعقدة كحروب الخليج المختلفة، مرورًا بالحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي والأحداث التي شهدتها البحرين، لكن هذه المرة ربما تكون أعقد تلك الظروف التي تمر بها القمة الخليجية، فالأزمات السابقة كانت في أغلبها آتية من خارج المجلس، أما هذه المرة تنبعث أزمة اندلعت من الداخل وتمثل تهديدًا وجوديًا للمجلس ذاته.
فرص جديدة ضائعة لإنقاذ المجلس
القمة الـ39 لدول مجلس التعاون الخليجي تأتي هذه الأيام وسط استمرار الحصار المفروض على دولة قطر منذ يونيو/حزيران 2017، من دول أعضاء بمجلس التعاون، هي السعودية والبحرين والإمارات، بالإضافة إلى مصر، على خلفية ما قال “التحالف الرباعي” إنها اتهامات للدوحة بدعم “الإرهاب”، واتخاذها إجراءات اختلفت الأطراف في تسميتها بين حظر أو حصار، ثم وضعوا شروطًا لرفع ذلك الحصار، الذي قالت قطر إنه يهدف إلى المساس بسيادتها.
تخلت الهيئة الرمزية بشكل كبير لسنوات عن دورها الفعال في بناء علاقات أوثق بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي
ومنذ اندلاع الأزمة الخليجية، وما أعقب ذلك مما قامت به دول مجلس التعاون، دخل مجلس التعاون الخليجي كمشروع وحدوي تقدمي على المستوى العربي والمنطقة إلى طريق مظلم وضيق وحرج، ليس في حاضره فقط بل ومستقبله أيضًا.
ومع تعقد الأزمة، ما زال من غير الواضح كيف ستؤثر القمة القادمة على النزاع الخليجي المستمر، حيث تخلت الهيئة الرمزية بشكل كبير لسنوات عن دورها الفعال في بناء علاقات أوثق بين الدول الأعضاء، ومنذ أول أزمة في مجلس التعاون الخليجي عام 2014، أظهر المجلس عدم قدرته على التوسط أو القيام بدور مهم في تخفيف التوترات بين الدول الأعضاء.
وفي ظل الحصار عقدت قمة بالكويت نهاية عام 2017، قمة وُلدت ولادة عسرة، وكانت الأقل تمثيلاً والأقصر زمنًا، إذ لم تستغرق سوى ساعتين، وربما لم يكن لها من إنجاز سوى الإبقاء على الحد الأدنى من تماسك جدران المجلس من الانهيار، بعد ما شهده من انقسام حاد بين دوله إلى قطبين كل منهما يسير في اتجاه لا يسير فيه الطرف الآخر.
في ذلك الوقت، وفي صباح يوم انعقاد القمة، أعلنت الإمارات منفردة تشكيل شراكة اقتصادية وعسكرية مع المملكة العربية السعودية منفصلة عن دول مجلس التعاون الخليجي، في رسالة واضحة لم يقرأها المتابعون سوى أنها محاولة للتشويش على قمة الكويت والعبث من أجل إضعاف كيان أصيل هو مجلس التعاون الخليجي.
مرت الأيام، وها هي القمة الثانية لمجلس التعاون في ظل الأزمة على وشك الانعقاد وقد تبدلت الأحوال وتغيرت ثوابت وقناعات ليس على مستوى الخليج فقط بل ربما على مستوى العالم، لا سيما بعد أن أثبتت قطر قدرتها على تجاوز ما أريد لها من وراء الحصار، وأيضًا بعد أزمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول وملابساتها وتوابعها.
وقبل ذلك تسببت الأزمة الخليجية في اتساع فجوات الاختلاف في وجهات النظر بين دول المجلس إلى اختلاف التوجه كليًا من الداخل والخارج، أزمة أدت إلى ما يوصف بشلل شبه تام لآليات عمل المجلس ورسخت الحقيقة أنه لن يكون هناك أي دور فعال للمجلس ما دامت الأزمة مستمرة، والحديث عن تحالف خليجي قوي لن يرى النور ما دام الخلاف بين الدول لا يزال قائمًا.
لا منطق ولا عقل في عقد قمة داخل دولة حاصرت دولة عضوة في المجلس وتآمرت عليها ضاربة بصلة الرحم والجيرة وكل الأعراف الإنسانية عرض الحائط، لاحج ولا عمرة، لا غذاء ولا دواء، ووصل الأمر إلى التخطيط إلى غزو عسكري، عن أي قمة تتحدثون؟!#القمة_الخليجية
— عبدالرحمن القحطاني (@qahtani76) December 3, 2018
إلقاء الكرة في ملعب قطر
بالنظر إلى مجريات قمة ديسمبر الماضي، يتساءل الكثيرون عمَّا إذا كان تجمع هذه السنة سيحدث كليًا، وهل سيكون لدى الأطراف النضج لإدراك أن الكل خاسر في ضوء الانقسام والتشرذم الحاليّ بعد أن استعصت الأزمة الخليجية على الحلول وأتعبت الوسطاء؟
سعت السعودية بذكاء لتُصوِر للعالم أن الكرة في ملعب قطر، وعملت على تجنب هذه الانتقادات
قمة العام الماضي شهدت إرسال السعودية والإمارات والبحرين وزراء أو نواب رؤساء وزارة على رأس وفودها، ولم يحضر ملوك أو رؤساء هذه الدول، وتغيب العاهل السعودي عن القمة الأخيرة، وحضر من الجانب السعودي وزير الخارجية عادل الجبير، فيما حضر من الجانب الإماراتي وزير الدولة للشؤون الخارجية أنور قرقاش، وهو ما تسبب في انتقادات لدول الحصار بعدم رغبتها في إنهاء الأزمة.
أما هذا العام، فقد سعت السعودية بذكاء لتُصوِر للعالم أن الكرة في ملعب قطر، وعملت على تجنب هذه الانتقادات، فقبل أيام قليلة، جاءت دعوة العاهل السعودي إلى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، لحضور القمة الخليجية التي تنعقد في الرياض اليوم الأحد 9 من ديسمبر/كانون الأول 2018، وهو أول خطاب رسمي من الملك السعودي إلى الشيخ تميم منذ بداية الخلاف الخليجي.
وقبل أن تعلن الدوحة أن الأمير تميم لن يشارك في القمة هذا العام، وسيعطي بدلاً من ذلك وزراء دولة لتمثيل البلاد، كما قال مسؤول قطري رفيع لوكالة “الأناضول” مساء السبت، رأى البعض أن هذه الخطوة مؤشر على قرب انتهاء الأزمة الخليجية، وليس إشارة إلى استعداد المملكة لحل الأزمة، في حين سارع مسؤولون في دول الحصار محسوبون على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى التقليل من شأنها.
جدول أعمال القمة الخليجية المقبلة في الرياض
في المقابل، وصف آخرون هذه الدعوة التي أثارت الجدل في الشارع الخليجي ما بين مؤيد ورافض لها بأنها مجرد إجراء شكلي، ويؤكد ذلك ما كشفته السعودية عن برنامج القمة الذي دعت قطر لكشفه، ليتضح أن الأزمة الخليجية لن تكون أولوية قصوى، وأكد أمير قطر سابقًا أن استمرارها يكشف عجز مجلس التعاون ويهمش دوره الإقليمي والدولي.
ومن الناحية الدبلوماسية، لا يخرج ذلك عن كونه تقليدًا، فيجب على الدولة المضيفة أن تدعو جميع أعضاء المجلس إليه، لكن هذا “التقليد” أصبح الآن أداة للسعودية للحفاظ على دورها كقوة إقليمية، فبدون المجلس لا تملك المملكة أي سلطة في المنطقة، فهو يضع السعودية في موقع القيادة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي بدرجة أكبر؛ لذلك يصر السعوديون على الحفاظ على مجلس التعاون الخليجي.
هناك “غُمة” تلف الخليج.. وهناك “قمة” خليجية يُفترض أن تعقد.. فمن باب أولى أن “القمة” تعمل على إزالة “الغمة”.. ولكن الواقع يقول أن “الغمة” – كما الشعوب – مُغيبة عن “القمة”.. فلماذا تعقد “القمة” أصلا..؟#القمة_الخليجية
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) December 8, 2018
ورغم أنه من المرجح ألا تعالج القمة الخلاف بفاعلية، فإنه إذا تم رفض الدعوة بالكامل، فقد تتهم البلدان المحاصرة قطر بعدم وجود إرادة للجلوس والتحدث، لكن قطر لا ترغب في تقديم نفسها على أنها بعيدة عن المجلس، ما دعاها لإرسال “وفد أقل” – كما فعلت دول الحصار في القمة السابقة – لكنه سيظهر أن الحكومة القطرية لم تكن مترددة أبدًا في الدخول في حوار مباشر.
وعلى النقيض من أن “التعنت الرباعي” لا زال واضحًا وجليًا، فإن مشاركة قطر في القمة ستسمح للبلاد بالحفاظ على الطريق المرتفع في الأزمة الدبلوماسية الحاليّة، كما سيعطي الدوحة أيضًا فرصة لدحض الادعاءات بأنها غير داعمة بشكل كافٍ لملكياتها الخليجية.
مجلس التعاون كمنصة سعودية
إلى جانب الإجراءات الشكلية، يحتفظ مجلس التعاون الخليجي بقيمته كمنتدى للتنسيق الاقتصادي بين دول الخليج، على الرغم من افتقاره إلى السلطة السياسية، فكل من السعودية وقطر – رغم خلافاتهما السياسية – تحصلان على شيء من الاستمرار في المشاركة في هذه المنظمة.
الإشارة هنا إلى مشروع ضريبة القيمة المضافة الموحدة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي الذي كان يهدف إلى مساعدة دول الخليج التي تعاني من عجز في الميزانية وكوسيلة لزيادة الإيرادات غير النفطية، وتود السعودية أن تلتزم قطر بتنفيذها في عام 2019، لأن ذلك سيوفر بعض التغطية السياسية لحاجة المملكة المالية لهذه الضريبة.
قد تستخدم الرياض قمة هذا العام كمنصة لتقديم نفسها كضحية للضغط الدولي، بما في ذلك مقتل خاشقجي وحرب اليمن
من ناحية أخرى، تأتي قمة هذا العام أيضًا وسط الأزمة الدبلوماسية بشأن اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي الذي وضع الرياض في قفص الاتهام، وتحت ضغط متزايد بشأن مقتل خاشقجي، أشاد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الشهر الماضي باقتصاد قطر في تصريحات تصالحية نادرة، زادها حديث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بإيجابية عن قطر بعد أيام قليلة من حديث ولي العهد.
وباعتباره القائد الفعلي للمملكة، فقد تعرض محمد بن سلمان على وجه الخصوص للتدقيق في تورط بلاده بالحرب على اليمن التي تسببت بمقتل الآلاف من المدنيين، فضلاً عن تشديد إجراءات القمع ضد المعارضة في المملكة العربية السعودية، وبالتالي قد تستخدم الرياض قمة هذا العام كمنصة لتقديم نفسها كضحية للضغط الدولي، بما في ذلك مقتل خاشقجي وحرب اليمن.
سياسيًا أيضًا، يأتي اجتماع هذا العام وسط ضغوط من الغرب والولايات المتحدة – حليفة دول مجلس التعاون الخليجي – التي ترى أن المجلس حيوي للحفاظ على المنطقة آمنة من تحركات إيران في المنطقة، وهو ما يدفع السعودية للإصرار على أنه من مصلحة الرياض والدوحة البقاء بالمجلس في الوقت الراهن.
وبالنظر إلى القمة المرتقبة وجدول أعمالها الذي لا يتضمن أي من القضايا الأكثر خلافًا، سيكون هناك تكرار للأحداث من دون مضمون ولا شيء جديد، ومع عدم قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على تجاوز الأزمات، تثبت المنظمة نفسها أنها غير مجدية من الناحية السياسية كما هي من الناحية الاقتصادية.