ما زالت أزمة مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، تُلقي بظلالها الملموسة على مسارات الحراك الدبلوماسي العالمي، خاصة في أوساط المؤسسات الأمريكية التي تُعارض بعضها، لا سيما الكونغرس بشقيه النواب والشيوخ.
ويتجلّى الطرح أعلاه في الزيارة الأخيرة لرئيس جهاز الاستخبارات القومية التركي هكان فيدان، لواشنطن، التي التقى خلالها عددًا من أعضاء مجلس الشيوخ وبعض مسؤولي المخابرات، وفيما لم تخض الصحافة التركية في تفاصيل الأسماء التي التقى بها فيدان، أشارت، لا سيما صحيفة حرييت، إلى أن اللقاء تمحوّر حول قضية خاشقجي ومسألة تسليم فتح الله غولن، والتطورات الأخيرة على الساحة السورية.
بالاطلاع على تصريحات عدة مصادر مُطلعة، فإن المحور الأساسي للزيارة كان مناقشة مسار التعاون المُشترك بين البلدين داخل حلف الشمال الأطلسي “الناتو”، وفي الغالب، تحاول أنقرة من خلال مُناقشة هذه القضية تطمين الطرف الأمريكي وكسب ثقته فيما يتعلق بتوجه أنقرة العسكري والأمني الإستراتيجي، لتحاول التأكيد على أن اتفاقها مع موسكو بشأن استخدام منظومة الدفاع الجوي آس 400 لا يعني تحولها الإستراتيجي عن التعاون مع “الناتو”، ويأتي ذلك في الإطار الطبيعي لمحاولة الطرفين تحسين علاقاتهما بعد حالة التدهور التي طغت عليها منتصف تموز/يوليو المُنصرم.
تسعى أنقرة، على الأرجح، لكسب ثقة المخابرات وأعضاء مجلس الشيوخ، لتنال مساندتهم في مسار أزمتها مع الرياض
وفي إطار ذلك، لا يمكن إغفال محاولة الجانب التركي كسب الثقة لدى مجلسي النواب والشيوخ، بعد الانتخابات التجديدية الأخيرة، إذ يُشار إلى أن الديمقراطيين يحملون موقفًا متحاملًا على تركيا أكثر من الجمهوريين، وبحسبان أن التوقعات تُشير إلى أن نانسي بالوسي ـ المعروفة بمحاباتها للقضية الأرمنية على حساب تركيا ـ فإن أنقرة رأت، على الأرجح، أنها بحاجة لسبق الخطى وتحسين العلاقات مع عددٍ من النواب وأعضاء الشيوخ، في سبيل موازنة موقفها داخل المجلسين في المرحلة المُقبلة، وتزيد حاجة تركيا لهذه الخطوة، في ظل توقع تولي رئاسة العلاقات الخارجية في الكونغرس، أنجيل إليوت، أحد أبرز “الصقور” في واشنطن.
في المقابل، تسعى أنقرة، على الأرجح، لكسب ثقة المُخابرات وأعضاء مجلس الشيوخ، لتنال مساندتهم في مسار أزمتها مع الرياض، جراء إقدام الأخيرة على اغتيال الكاتب الصحفي السعودي جمال خاشقجي، على أراضيها.
ولعل ما يُساند تناول اللقاءات قضية خاشقجي حالة الغليان التي هيمنت على جلسات الكونغرس، لا سيما مجلس الشيوخ، في الآونة الأخيرة، حيث تم الاستماع لشاهدة رئيسة وكالة المخابرات المركزية جينا هاسبل، التي أعقبها خروج عدد من أعضاء الكونغرس بتصريحات حادة ضد مسار تعامل الرئيس ترامب مع الأزمة، وفي ضوء ذلك، تجدر الإشارة إلى مجلس الشيوخ يُحضر 3 مسودات، تمس إحداهم ولي العهد بشكلٍ مباشر، وهذا، في الغالب، ما دفع رئيس الاستخبارات التركي ليلتقي بعددٍ من أعضاء المجلس، ليُضيف لهم المزيد من المعلومات الخاصة بقضية الاغتيال، ويجعل ميلهم للوقوف لجانب تركيا شبه مضمون.
لقد وضع الرئيس ترامب حينما قال في تقريره عن جريمة مقتل خاشقجي: “من المحتمل أن ولي العهد كان على علم بالحادث وربما لا”، الكرة في ملعب الكونغرس ليُحدد ما إذا كان سيتخذ إجراءات تصعيدية أو إجراءات عادية بحق ولي العهد أو المملكة العربية السعودية، فمُنذ نشر ترامب تقريره، في 20 من نوفمبر/تشرين الثاني، والكونغرس يعقد جلساته، لينظر في الأمر، ويحدد طبيعة الإجراءات التي يُمكن اتخاذها، لا سيما فيما يتعلق بإجراء تفعيل قانون “ماغنيتسكي” الذي صدر بالتوافق بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري عام 2012، بهدف مُعاقبة الشخصيات الروسية المسؤولة عن وفاة مُحاسب الضرائب سيرغي ماغنيتسكي في سجنه عام 2009، وقد بات يُشكّل هذا القانون المرجع القانوني الذي يتم تفعيله من الكونغرس الأمريكي لمعاقبة الذين يتنهكون حقوق الإنسان حول العالم.
تحاول أنقرة الاستفادة من توجه مجلس الشيوخ المعارض لترامب بانتهاج سياسة شمول الملفات وليس فصلها
ربما كان يثق ترامب بمجلس الشيوخ ذي الأغلبية الجمهورية، لذلك خرج بتقرير غير واضح المعالم، ليُخرج مسؤوليته من الموضوع، ويستكمل مجلس الشيوخ الأكثر مسؤولية عن مسار السياسة الخارجية الأمريكية، وما تُبرمه من اتفاقيات ومُعاهدات، مشوار ترامب في تجاوز مسألة فرض عقوبات على ولي العهد والدولة السعودية، لكن يبدو أن عددًا من أعضاء المجلس، من ضمنهم أعضاء جمهوريون، لا يتفقون مع الرئيس ترامب، ويرمون لفرض عقوبات على المملكة وولي العهد.
وعلى الأرجح، التقطت الجمهورية التركية ذلك التوجه المؤسسي البرلماني المُغاير لتوجهات ترامب، متجهةً نحو استكمال “عملية توعية” أعضاء مجلس الشيوخ من خلال مدهم بالمزيد من المعلومات الاستخباراتية، حتى لا يكون هناك نقص بعد تقديم هاسبل شهادتها أمام المجلس.
ومن خلال هذه الخطوة، تحاول أنقرة الاستفادة من توجه مجلس الشيوخ المعارضة لترامب بانتهاج سياسة شمول الملفات وليس فصلها، فقد ربط فيدان أزمة خاشقجي المُختلف فيها بين واشنطن وأنقرة، بملفي إعادة غولن ورفع مستوى التنسيق في سوريا، لتخلق نوعًا من الربط المباشر بين جميع القضايا العالقة بينها وبين واشنطن، وتحقق، من خلال التعاون مع مجلس الشيوخ، مكسبًا وفرصةً لتعريف أعضائه المُعارضين لترامب، وربما غير المُلمين بكل تفاصيل الملفات العالقة بينها وبين واشنطن، لتظهر هذه الملفات على أنها ملف واحد يضمن لها، في نهاية المطاف، تحسُن واسع لعلاقاتها المتوترة مع واشنطن، وبالأخص فيما يتعلق بتوجهها حيال القضية السورية والمسارات الأمنية لحلف “الناتو”.
كما ويُستقى من توجه أنقرة نحو الكونغرس، محاولتها للظفر بدعم مؤسسي ضد التوجه الفردي لترامب الذي يحابي المصلحة النفعية البراغماتية وحدها، وقد تم اختيار مجلس الشيوخ بالتحديد نظرًا لمدى تأثيره الفعلي في السياسة الخارجية الأمريكية.
في الختام، ما زالت أنقرة ترغب في الخروج من الأزمة الفاعلة بما يحفظ لها ماء وجهها من حيث الهيبة الدبلوماسية التي اُنتهكت بفعل اختيار أراضيها مسرحًا للجريمة، دونًا عن المناطق الأخرى، وترمي للخروج من الأزمة بما يُكمل توجهها الأخلاقي، وبما يُحقق لها كمًا ملموسًا من المُكتسبات السياسية التي تُظهر الرياض حيالها اللامبالاة، حيث وضعت، أي الرياض، كل ثقلها في السلة الأمريكية، للخروج من الأزمة عبرها، ولكن تبقى مناورات تركيا داخل الكونغرس، في الفترة الحاليّة على الأقل، إعلامية أكثر منها فعلية، فحتى لو أصدر الكونغرس قانونًا ضد المملكة العربية السعودية، فالإدارة الأمريكية الحاليّة، بقيادة ترامب، لا يبدو أن تسعى لمحاسبة القيادة السعودية بشكلٍ جاد.