اتسعت الهوة بين العسكريين والمدنيين في السودان -مجددًا- بعد وصول المعركة بين الطرفين إلى سوح الشرطة الجنائية الدولية “الإنتربول”، ما يؤكد على حقيقةٍ واحدةٍ بأن الاختلافات في طرائق العمل بين الطرفين هائلة، ومع سيرهما في قضبانٍ متوازية، كثيرًا ما تتقاطع وتشتبك تطلعات ورغبات كل طرف متسببة في حوادثٍ وصداماتٍ مدوية.
التوصيف الدقيق لعلاقة قادة الجيش السوداني، وتنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، أنها علاقة متوترة على الدوام، وآخر فصول هذا التوتر، تمظهرت في هيئة سجال قانوني، امتد إلى خارج الحدود، إثر مطالبة السلطات في بورتسودان -العاصمة المؤقتة- للبوليس الدولي بإصدار 16 مذكرة توقيف حمراء بحق قادة التنسيقية، وعلى رأسهم رئيس وزراء الحكومة الانتقالية المعزولة بقيادة المدنيين، دكتور عبد الله حمدوك، وعدد من وزرائه من أمثال: مريم المهدي وخالد عمر يوسف ومحمد الفكي سليمان، وبعض من أبرز القادة والنشطاء في منظومة التحالف من أمثال: ماهر أبو الجوخ وحنان حسن.
وأرجع النائب العام، الفاتح طيفور، المذكرة الرسمية المقدمة للأمانة العامة للإنتربول، بتوقيف قادة “تقدم”، إلى كونهم “شركاء في الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم السريع”، بحسب ما جاء في تصريحات صحافية.
وزاد على قائمة الاتهامات ما ظلّ يكرره قادة الجيش، بأن التنسيقية ما هي إلا “الظهير السياسي للتمرد”، و”لولا دعم قادتها للتمرد لما استمرت الحرب حتى الآن”.
وتجاوزت الحرب بين الجيش ومليشيا الدعم السريع شهرها الـ18، مخلفةً أزمة إنسانية غير مسبوقة، وما يزيد على 16 ألف قتيل، وفوق 10 ملايين نازح، وسط تحذيرات من سقوط 25.6 مليون شخص في براثن الجوع، ببلادٍ لا يتعدى سكانها 46 مليون نسمة، وذلك طبقًا لمراصد الأمم المتحدة.
علاقة مأزومة
رغم شراكتهما التي امتدت لأكثر من عامين، تظل العلاقة بين الجيش والتنسيقية (قوى الحرية والتغيير سابقًا)، علاقة مأزومة، إن لم تكن شديدة السُمية، فبعد الإطاحة بالرئيس عمر البشير (30 يونيو/حزيران 1989 – 11 أبريل/نيسان 2019) بموجب ثورة شعبية استمرت قرابة النصف عام، ظهرت التجاذبات بين الطرفين على أشدها، بشأن مسألة تموضع العسكر إبان فترة انتقالية تسبق إجراء انتخابات عامة لتمرير السلطة إلى المدنيين.
ووسط هذه الأجواء المشحونة، حاول المجلس العسكري المكون من الجيش والدعم السريع وبقية الأجهزة الأمنية، السيطرة على السلطة باستخدام القوة المميتة، وبالفعل فضت عناصر ترتدي الزي العسكري، اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو/حزيران 2019 ما خلّف مئات الضحايا، وأكثر من 200 قتيل، طبقًا لمراصد غير حكومية.
وبدأ اعتصام القيادة العامة في 6 أبريل/نيسان، وتواصل لعدة أشهر عقب الإطاحة بالبشير في 6 أيامٍ من بدء التجمع، بمطالب جديدة على ذروة سنامها المناداة بالحكم المدني الخالص. وبعد أشهرٍ من الاحتجاجات التي أعقبت فض الاعتصام، توصل العسكر والمدنيون إلى اتفاقٍ هش لتقاسم السلطة، وإدارة البلاد في فترة انتقالية، قُرر لها أربعة أعوام.
وكانت الاضطرابات هي السمة الحاكمة لفترة الشراكة، ما قاد إلى تحرك الجنرالات في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وإطاحتهم بالحكومة الانتقالية، قُبيل أيامٍ من موعد نقل قائد الجيش، الجنرال عبد الفتح البرهان، لسلطاته في سدة مجلس السيادة إلى المدنيين، وهي خطوة وصفها المكون المدني وحلفاؤه بأنها “انقلاب عسكري”، فيما أصر العسكر ومناصروهم بأنها “خطوة لتصحيح مسار الانتقال”.
ورغم إيداعه لقادة الحرية والتغيير في غياهب السجون والمعتقلات، عجز قائد الجيش، طوال عام كامل عن تشكيل حكومة لتصريف شؤون البلاد، جراء استعار الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني، ليوافق في نهاية المطاف، ونهايات العام 2022 على توقيع إطار اتفاق -مرعي دوليًا- لنقل السلطة إلى المدنيين، وإحالة العسكر إلى الثكنات، مع إجراء إصلاحات داخل المؤسسات العسكرية، بمباركةٍ وترحيب كامل من قائد المليشيا، الجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي).
وبعدما أيامٍ من التفاؤل بإمكانية تأسيس مرحلة جديدة ترصف حدود العلاقة بين العسكر والمدنيين، وتوضح مسارات كل فريق، تفاجأ السودانيون بحروب كلامية شرسة بين المكونات العسكرية (الجيش والدعم السريع) جراء خلافات – كان في المقدور تجاوزها – حول مسألة إدماج الجيوش، ومواقيتها. وبالطبع نابت المدنيين اتهامات معتادة بتورطهم في صياغة اتفاق ملغوم بمعاونة قوى خارجية للسيطرة على مقاليد السلطة، وإن كان الثمن نسف استقرار البلاد برمتها.
وبعد أشهر من الحديث بأنَّ الإطاري يمهد للحرب، تحولنا عمليًا من حروب الكلام والحشود، إلى مرحلة المواجهات العسكرية في أوساط المدنيين بحلول يوم 15 أبريل/نيسان 2023.
ورغم استمرار العمليات العسكرية طوال هذه المدة، ما زالت الاتهامات التي وصمت فترة ما قبل منتصف 15 أبريل/نيسان حاضرة بقوة، حيث يرى المدنيون بأن العسكر يسعون إلى الحكم بكل ما أوتوا من قوة ورباط خيل بدعمٍ من مناصري نظام المعزول البشير، بينما ترى الدعم السريع أن الجيش مختطف من ذات الفئة (الإسلاميين)، فيما يؤمن قادة الجيش بأن الدعم السريع تقود مخططًا ضخمًا، إنابة عن دول خارجية على رأسها الإمارات للسيطرة على البلاد ومُقدّراتها، وتكوين وطن جديد لعربان الشتات (في إشارة إلى مجموعات العرب الرحل في غرب وشمال إفريقيا) بدعمٍ كاملٍ من تنسيقية تقدم.
قفزة للحاضر
تعد مذكرة الإنتربول امتدادًا للبلاغات التي دونتها النيابة ضد 40 من قادة “تقدم” في أبريل/نيسان الماضي، بتهم: إثارة الحرب ضد الدولة وتقويض النظام الدستوري، وإثارة التذمر بين القوات النظامية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وهي اتهامات تصل عقوبتها إلى الإعدام.
واستندت النيابة في اتهاماتها على مخرجات اللجنة الوطنية لجرائم الحرب وانتهاكات قوات الدعم السريع، وعمدت إلى تعزيز ما يشاع عن كون التنسيقية تمثل الجناح السياسي للميليشيا، واستشهدت باتفاق إعلان المبادئ بين الطرفين في أديس أبابا (يناير/كانون الثاني 2024) لـ”إنهاء الحرب، واستكمال الثورة السودانية والحكم المدني الديمقراطي”.
واعتبر النائب العام، بعد مذكرة الإنتربول، بوجود تبادل للأدوار بين “التمرد والظهير السياسي له من خلال الظهور في المحافل المختلفة”، ونعت قادة تقدم بأنهم “شركاء حقيقون في الجرائم التي وقعت على الشعب السوداني”.
وكما هو متوقع، رفضت التنسيقية ما جاء في الاتهامات جملةً وتفصيلًا، واعتبرت أن التهم الموجهة إلى قادة التحالف تفتقر إلى الأدلة القانونية.
وفي هذا السياق، قدمت اللجنة القانونية التابعة للتنسيقية مذكرة رسمية إلى منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول)، تطالب فيها برفض طلب النيابة العامة. وجاء في المذكرة أن الاتهامات الموجهة لقادة التحالف “كيدية، وذات طابع سياسي بحت، وتهدف إلى تشويه السمعة والإضرار بالمصداقية السياسية للقادة المعنيين”.
كما أكدت اللجنة أن هذه الإجراءات تمثل تصعيدًا غير مبرر، يهدف إلى إضعاف المعارضة وتثبيت سلطة الجهات المتهمة بإشعال الحرب، وممارسة الانتهاكات، والفساد.
في سياق متصل، شددت التنسيقية على أنها ستستمر في اتخاذ كل التدابير القانونية والدبلوماسية لحماية قادتها من أي ملاحقات قضائية غير عادلة.
واعتبرت أن هذه الاتهامات تأتي ضمن حملة أوسع تستهدف القوى المعارضة والمناوئة لسياسات الحكومة، التي وصفتها بأنها “غير ديمقراطية” و”تفتقر للشرعية الشعبية”، وأشارت إلى أن هذا التصعيد لن يثنيها عن الاستمرار في نضالها من أجل تحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يطالب بها الشعب.
وفي أولى المترتبات على مذكرة التوقيف التي انطوت على اتهامات خطيرة، قالت القيادية بالتنسيقية، ووزيرة الخارجية في الحكومة المعزولة، مريم المهدي، أن سفارة بلادها في القاهرة رفضت تجديد جواز سفرها، وعدد من أفراد أسرتها، دون سوق أي مبررات.
واتهمت اللجنة القانونية في تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية، الأجهزة الأمنية، بتوقيف المسؤول عن هيئة الدفاع عن قيادات التنسيقية، المحامي منتصر عبد الله، في بورتسودان، إثر تقدمه بطلب قانوني للاطلاع على يومية التحقيق في البلاغ رقم 1613/2024 الموجه ضد الدكتور عبد الله حمدوك وعدد من القادة السياسيين والناشطين.
اتهامات متبادلة
أيد المحامي وعضو اتحاد المحامين، إبان حقبة نظام المعزول البشير، زاهر النور، المطالبة الدولية بتوقيف قادة “تقدم”، وقال لـ”نون بوست” إن “وجود المطلوبين خارج البلاد، استدعى ملاحقتهم عبر البوليس الدولي”، مضيفًا “هذا الوجود مع استمرار المطلوبين في الممارسة المؤيدة للميليشيا يستدعي ملاحقتهم حيثما كانوا لضمان وقف هذه الممارسات الخطيرة على البلاد وأمنها واستقرارها”.
ويتوزّع قادة التنسيقية بين عدة دول على رأسها: الإمارات وإثيوبيا ومصر وأوغندا، وسبق أن طلبوا مقابلة البرهان -داخل أو خارج البلاد- وهو ما رفضه الأخير، مستخدمًا ذات مسوغات النيابة العامة.
وأعرب النور عن أمله في أن يقوم الإنتربول بأداء مهامه كاملة في إنفاذ القانون الدولي بكل حيادية وشفافية، كما شدد على ضرورة أن يتحمل قادة التنسيقية مسؤولية أفعالهم بشجاعة، بما في ذلك عودتهم إلى الوطن لمواجهة التهم الموجهة إليهم عبر القنوات القانونية المناسبة.
وأكد أن معالجة هذه الاتهامات من خلال النظام القضائي ستسهم في تعزيز العدالة واستقرار الوطن، داعيًا إلى أن تسود روح القانون والنزاهة في هذه القضية.
من جانبه اعتبر عضو مبادرة محامو الطوارئ “مستقلة”، أزهري بدوي، أن مذكرة النائب العام، انطوت على كيد سياسي، وأن التهم الموجهة إلى قادة التنسيقية هي مزاعم باطلة ولا يمكن إثباتها بالقانون.
وقال بدوي لـ”نون بوست” إن محاولات تصوير التنسيقية وقوات الدعم السريع على أنهما وجهان لعملة واحدة هي “افتراء بائن”، لا يستند إلى أي حقائق واقعية.
وأوضح أن هذا الادعاء يمكن تفنيده بسهولة من خلال مراجعة المواقف الرسمية للتحالف وقادته الذين دأبوا على انتقاد جميع الانتهاكات التي يرتكبها العسكريون ضد المدنيين العزل، دون تمييز أو تحيز لأي طرف.
وأشار إلى أن المذكرة المرفوعة تأتي ردًا على ما وصفه بـ”استمرار العسكر في جهودهم الرامية إلى وأد الثورة السودانية”، ومحاولة “شيطنة قادتها من خلال قولبة الحقائق وتحميلهم وزر الحرب، في وقتٍ يتم ضمان إفلات المكونات العسكرية من المساءلة عن دورها في إشعال الحرب واستمرارها لفترة طويلة”.
وفي ختام تصريحاته، أكد بدوي على ثقته الكاملة في نزاهة واستقلالية الإنتربول، مشددًا على أن “الإنتربول مؤسسة عدلية راسخة لا يمكن أن تساوي بين السياسيين المطالبين بالسلام والحكم المدني وبين المجرمين والإرهابيين الدوليين”، وأعرب عن أمله في أن يكون التعامل مع هذه القضية قائمًا على الحقائق والقانون،ء وليس على التشويه السياسي أو الضغوط الخارجية.
الصراع بين التنسيقية والمكونات العسكرية في السودان لم يعد مقتصرًا على المواجهات الميدانية، بل انتقل إلى ساحات جديدة تشمل المعارك القانونية والدبلوماسية، حيث تسعى الأطراف المتنازعة إلى توظيف المؤسسات الدولية، مثل الإنتربول، لتحقيق أهداف سياسية وتوجيه الاتهامات المتبادلة، ما يطرح تساؤلات مهمة حول قدرة هذه المؤسسات على البقاء محايدة وإرساء العدالة بعيدًا عن التسييس، فيما يبقى التحدي الأكبر في ضمان محاسبة المتورطين بالانتهاكات خلال فترة الحرب، وعدم إفلاتهم من العقاب، سواء كان ذلك داخل أو خارج البلاد.