تتجه الحرب على الجبهة الشمالية بين “حزب الله” والكيان المحتل، يومًا تلو الآخر، نحو منحنى تصعيدي مختلف، يتجاوز في كل مرة – ولو بخطوات قليلة – السقف المتوقع، حاملًا معه حزم من الرسائل، وإن كانت لا تزال – على الأقل من جانب الحزب اللبناني – ملتزمة بحسابات ومقاربات خاصة تحيل بينها وبين توسيع دائرة الصراع.
جاء استهداف منزل رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، في قيساريا جنوب حيفا، بمسيرة أطلقت من الأراضي اللبنانية، أمس السبت، وأحدثت بعض الأضرار والتلفيات، كتحول نوعي لافت في مسار تلك المواجهة، كونها المرة الأولى التي يصل فيها منسوب الاستهداف إلى منزل رأس هرم السلطة في إسرائيل.
الاستهداف – وإن لم يوقع إصابات بشرية – أحدث جدلًا كبيرًا لدى الشارع الإسرائيلي، فوصول مسيرة انطلقت من لبنان وحلقت في الجو على مدار 70 كيلومترًا لتصيب منزل رئيس الحكومة مباشرة، مخترقة كل أنظمة الدفاعات الجوية المتطورة، كفيلة أن تُحدث خللًا كبيرًا في الجبهة الداخلية التي تلقت ضربات مؤثرة منذ بداية حرب غزة، تعززت أكثر خلال الأشهر القليلة الماضية.
وتأتي تلك العملية النوعية بعد أقل من أسبوع على استهداف معسكر تدريب للواء غولاني في بنيامينا جنوب حيفا (شمال الأراضي المحتلة) بسرب من المسيّرات الانقضاضية، أسفرت عن مقتل 4 جنود وضباط إسرائيليين وإصابة ما يقرب من 70 آخرين، بعضهم في حالة حرجة، بحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الجانب الإسرائيلي.
ويحمل هذا التطور تحولًا نوعيًا في سير الحرب الإسرائيلية على لبنان، يتزامن ذلك مع مواصلة ارتكاب جيش الاحتلال لجرائم الإبادة الوحشية ضد مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، على مدار أكثر من أسبوعين تقريبًا، فأي دلالة يحملها استهداف منزل رئيس الحكومة العبرية وإصابته بشكل مباشر؟
تصعيد تدريجي
يتبنى “حزب الله” في تعاطيه مع الحرب الإسرائيلية سياسة التصعيد التدريجي، متجنبًا إلقاء كل الأوراق مرة واحدة، ملتزمًا في الوقت ذاته بمقاربات عدم توسعة الصراع والولوج في حرب مفتوحة قد يفقد فيها الحزب المكتسبات التي حققها على مدار سنوات مضت.
البداية كانت بإثبات الحضور في المشهد كـ”جبهة إسناد” للمقاومة في غزة، عبر المناوشات والاستهدافات التي تركزت في شمال الأراضي المحتلة، منطقة الجليل الأعلى ومحيطها، لكن بعد الضربات التي تلقاها على أيدي الاحتلال، بداية من استهداف كبار القادة ثم تفجيرات “البيجر” وصولًا إلى اغتيال الأمين العام حسن نصر الله، انتقل الحزب بشكل طبيعي من جبهة الإسناد إلى طرف حرب.
وحاول الحزب قدر الإمكان الالتزام بالمنطقة الدافئة في مسار المواجهة مع جيش الاحتلال، مكتفيًا بالرشقات الصاروخية والمسيرات التي لم تتجاوز مناطق الشمال المسموح بها، مع الدخول في معارك ضارية للحيلولة دون تحقيق الجيش الاحتلال أي تقدم ميداني في التسلل للداخل اللبناني، حيث نجح في إيقاع خسائر كبيرة في صفوف الاحتلال، دفعته لإعادة تقييم العملية برمتها.
ومع إصرار نتنياهو وجنرالاته على التصعيد، استثمارًا للضربات التي تلقاها الحزب، واعتبار المشهد الحالي فرصة مواتية لتغيير قواعد الاشتباك وتقليم أظافر الحزب كمصدر تهديد للكيان، بعد ضرب بنيته الهيكلية القيادية وإعطاب عدد كبير من منصاته الصاروخية وقواعده التسليحية، اضطر الحزب المدعوم إيرانيًا للرد حفاظًا على معادلة الردع وتوازن القوى التي يحاول التمسك بها قدر الإمكان.
ومن ثم جاء التصعيد رويدًا رويدًا، فكان استهداف حيفا، المدينة الاقتصادية اللوجستية، بالصواريخ الباليستية، ثم الوصول إلى قلب تل أبيب، وإيقاع خسائر وإصابات مباشرة في صفوف الإسرائيليين، وصولًا إلى استهداف منزل بنيامين نتنياهو نفسه في قيساريا، تلك البلدة التي تعتبر إحدى الحواضن المهمة لرجال الأعمال والاقتصاد الإسرائيليين، في تحول هو الأخطر منذ بداية الحرب بين الطرفين.
جدير بالذكر أنه حتى الساعة لم يصدر عن حزب الله أي بيانات بشأن تبنيه لتلك العملية، إلا أن المسيّرة التي أصابت منزل نتنياهو في قيساريا – بحسب الإعلام العبري -من طراز “صياد 107″، وهو نفس النوع الذي استخدمه الحزب في استهداف قاعدة غولاني، ما يشير إلى مسؤولية الحزب عن تلك العملية التي حمل نتنياهو طهران مسؤوليتها رغم نفيها لذلك بشكل رسمي.
الرمزية ورسائل التحذير
تحمل العملية الأخيرة دلالات ورسائل عدة على رأسها التأكيد على أن الحزب ومن قبله طهران لديهما القدرة على الوصول إلى أبعد نقطة متوقعة في الداخل الإسرائيلي، بما فيها منزل رأس هرم السلطة، وفي منطقة تشكل أهمية لوجستية على المستوى الاقتصادي والسياسي بالنسبة للكيان.
كما تؤكد كذلك على أن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي، بما فيها منظومة “ثاد” الأمريكية التي ركبتها قبل أيام، ليس بمقدورها إيقاف المسيرات اللبنانية والإيرانية عن الوصول إلى أهدافها، مع التأكيد على أن تل أبيب وحيفا قد تصبحان بمرور الوقت هدفًا دائمًا لضربات محور المقاومة.
ويحاول الحزب من خلال تلك العمليات التي تأتي في سياق “رسائل التعافي” استعادة معادلة الردع مع الاحتلال بعد الضربات التي تعرض لها مؤخرًا، وأن ينتقل من مرحلة الدفاع إلى المباغتة والهجوم، حيث يسعى نحو تدشين معادلات ميدانية جديدة، من بينها الضاحية – حيفا، بيروت – تل أبيب.
وتسعى طهران من خلال عمليتي “غولاني” و “قيساريا” إلى إيصال رسائل تحذير استباقية لحكومة نتنياهو بشأن الرد الإسرائيلي المحتمل، والذي يبدو أنه بات قريبًا بعد اتخاذ القرار ومناقشة السيناريوهات المحتملة مع الحليف الأمريكي، خاصة بعد حالة الانتشاء التي عليها نتنياهو وجنرالاته عقب استهداف يحيى السنوار، فهي رسالة مفادها أن إيران وفي حال تلقيها أي ضربة تتجاوز الخطوط الحمراء سيكون لديها القدرة على الوصول إلى قلب الكيان المحتل.
هل استنفد الحزب أوراقه كافة؟
يمتلك “حزب الله” وفق التقديرات ترسانة أسلحة متطورة، تتنوع بين الصواريخ الباليستية التي يتجاوز مدى بعضها 300 كيلومتر، كذلك المسيرات الانقضاضية المتطورة والتي تستطيع تجاوز الأنظمة الدفاعية الإسرائيلية والأمريكية، بخلاف الصواريخ المضادة للدبابات والسفن، فيما تذهب بعض المصادر إلى امتلاك الحزب أكثر من 150 ألف صاروخ وقذيفة، وهو رقم قد لا تمتلكه جيوش نظامية بأكملها.
ومن هنا ورغم نوعية العملية الأخيرة واستهداف منزل رئيس وزراء الاحتلال لا يمكن القول بأن الحزب ألقى بكل أوراقه، فلديه الكثير من الأدوات التي من الممكن في حال استخدامها أن تقلب الطاولة ويستعيد بها معادلة الردع وتوازن القوى مرة أخرى بعدما مالت كفتها ناحية جيش الاحتلال، لكنه مقيد بسلاسل الحسابات والمقاربات التي تقيد تحركاته بشكل كبير.
فالحزب الذي تلقى خسائر كبيرة منذ بداية حرب غزة لا يريد التضحية بكل ما لديه من ترسانة تسليحية دشنها على مدار عقود طويلة، إذ يسعى لمسك العصا من المنتصف، يثبت حضوره كجبهة إسناد أو حتى طرف حرب، لكن دون أن يترتب على ذلك توسعة المواجهة بما يستنزف كل قدراته وإمكانياته وُيعرض مستقبله للخطر، خاصة في ظل المتربصين به في الداخل والخارج.
وعلى الجانب الإيراني، تحاول طهران قدر الإمكان الإبقاء على ذراعها الأقوى في المنطقة، وتجنيب استنزافه حاليًا، والحفاظ عليه كورقة محورية يمكن استخدامها إذا اندلعت حرب مفتوحة، ومن ثم تكتفي بمرحلة المناوشات دون التصعيد الذي تعتبره تهديدًا مباشرًا لما حققته من مكاسب على مدار سنوات طويلة.
وهنا التساؤل: هل كان الحزب وطهران يستهدفان نتنياهو فعلًا؟ بالطبع لا، فتلك مغامرة قد لا يقويا على تحمل تبعاتها في الوقت الراهن، إذ من المؤكد أن كلا الطرفين يعرفان أن رئيس الوزراء الإسرائيلي وزوجته لم يكونا في المنزل المستهدف، وإنما كان الهدف هو إيصال الرسالة الرمزية: “قادرون على الوصول لكننا لا نريد التصعيد”.
ماذا عن الوضع في غزة؟
يؤمن الحزب -أو هكذا يُفترض- أن غزة هي رمانة ميزان الصراع في المنطقة، وأن أمن لبنان القومي ينطلق ابتداءً من رفح جنوب القطاع، وصولًا إلى الحدود مع الكيان المحتل، وبالتالي فإن استعادة المقاومة في غزة قوتها وتوازنها يعني باختصار تأمين الجبهة الجنوبية اللبنانية من المخاطر الإسرائيلية.
ومن هذا المنطق، بجانب مقاربات أخرى تتعلق بطهران، دخل “حزب الله” المعركة كـ”جبهة إسناد”، لتخفيف الوضع على القطاع وإرباك جيش الاحتلال عبر تشتيت تركيزه وتفتيت قواه، وذلك قبل أن ينتقل إلى وضعيته الجديدة كـ”طرف حرب” وهي الوضعية التي فرضتها التطورات التي شهدتها الساحة الشهرين الماضيين.
ورغم ما يتعرض له الحزب من ضغوط داخلية وخارجية لفك ارتباطه عن غزة، عبر الحديث عن مبادرات ثنائية بينه وبين حكومة الاحتلال لا تضع في الاعتبارات المشهد الغزي، فإنه حتى اليوم ما زال متمسكًا بموقعه كجهة داعمة للمقاومة في القطاع، وهو ما أكد عليه نائب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، خلال كلمته في 15 أكتوبر/تشرين الأول، بصرف النظر عن التداخل الحادث الآن بين كونه جبهة إسناد أو طرف حرب.
ومن ثم فإنه من الخطأ بمكان قراءة تطورات المشهد على الحدود اللبنانية الفلسطينية بمعزل عن الوضع في قطاع غزة، لا من حيث السياق العام ولا الترابط بينهما، إذ إن ما يحدث في إحداهما ينعكس على الآخر بشكل كبير، حتى لو بدا للبعض غير ذلك، وهو ما يؤكد عليه المراقبون على طول الخط، من أن إنهاء الحرب بين الحزب و”إسرائيل” لا بد أن يبدأ أولًا من إنهاء الحرب في غزة، كونها المتغير المستقل الذي يقود خلفه كل المتغيرات التابعة الأخرى، سواء في لبنان أم اليمن أم العراق.
ومن هنا يمكن القول إن بداية طي صفحة الحرب في غزة مرهون بشكل أو بآخر بالوضع على الجبهة اللبنانية الفلسطينية، وعليه فإن التصعيد الذي يقوم به “حزب الله” ضد “إسرائيل” يقابل في الغالب بتصعيد إسرائيلي مضاد ضد شمال القطاع، في معادلة “عض أصابع” تحتاج إلى نفس طويل وإن كان الثمن فادحًا.
وفي الأخير فإن التصعيد المتدرج لـ”حزب الله” في استهداف الكيان المحتل، وإن كان تطورًا نوعيًا لكنه لم يرتق بعد لدرجة التصعيد الاستراتيجي الذي يغير المعادلة، إذ ما زال أسير مقاربات وحسابات خاصة ملجمة، فهل من الممكن أن يتحول الحزب من التحول النوعي إلى الاستراتيجي؟ وهل يتحمل كلفتها؟ ومتى؟