يمتلئ الأدب العالمي بفحول الكتاب والمبدعين في شتى المجالات والكتابات الفنية المتنوعة، أما اليوم فحديثنا سيشمل كاتب النمسا الأشهر ستيفان زفايغ، الروائي والكاتب المسرحي والصحفي ومجسد السير الذاتية، الذي درس الفلسفة ووصف علاقته بدينه على أنه جاء يهوديًا بالصدفة.
يُعد زفايغ واحدًا من أفضل كتاب النمسا الذين اتجهوا للعالمية بسرعة وشقوا طريقهم نحو النجاح بلا هوادة، وأكثر ما اشتهر به هو ترجمة أعمال الشعراء والكتاب العالميين وعمل دراسات تاريخية عدة بجانب كتاباته المسرحية التي ملأت أرجاء ألمانيا كلها.
بجانب ذلك كله، كان أبرز ما وصلنا من نتاجاته الأدبية كتاباته في الرواية القصيرة أو كما يسميها البعض القصة الطويلة، وأيًا يكن اسمها فنجد أنه أبدع في أن يجسد لنا مشاعر النفس الإنسانية ويسبر أعماقها بمزيج من التشويق والإمتاع وقصر الحجم في الآن نفسه، وبجانب كل ذلك فقد كان غزيرالإنتاج؛ فنجد أنه كتب عددًا كبيرًا من الروايات لم يُترجم كله إلى العربية وتم تحويل العديد من أعماله إلى السينما والمسرح العالمي، ولم تغفله السينما العربية كذلك.
اسم رواية “لاعب الشطرنج” ذائع الصيت وغالبًا هي مدخل الكثيرين لعالم زفايغ الخصب، كما تعد أحد أسباب شهرته العالمية منقطعة النظير
أثرت دراسة زفايغ للفلسفة على كتاباته، بجانب قراءته الفنية واهتمامه بالأدباء العالميين أمثال دستويفسكي وتولستوي بجانب الحرب العالمية التي عاشها والصراع بين ألمانيا وأوروبا الذي أثر عليه وجعله يُنهي حياته مقتنعًا بنهاية السلام العالمي وانتهاء الحضارة الإنسانية التي عرفها، وهنا سنلقي نظرة على بعض ما أبدع.
لاعب الشطرنج
اسم هذه الرواية ذائع الصيت وغالبًا هي مدخل الكثيرين لعالم زفايغ الخصب، كما تعد أحد أسباب شهرته العالمية منقطعة النظير، وقد برزت مكانة هذه الرواية أكثر عندما ترجمها الأديب المصري الكبير يحيى حقي وكتب عنها مقدمة شيقة، يمكنكم الرجوع إليها في أي وقت، ويمكننا تحليل الرواية بسؤال ما وهو: ماذا لو جلست لفترة طويلة من عمرك في غرفة فارغة لا يوجد بها إلا طعامك! لا شيء تفعله أو شخص تحدثه أو أي طريقة لقضاء الوقت دون أن يخالطك الجنون، سوى كتاب عن الشطرنج!
هكذا ببساطة يسرد لنا زفايغ قصة شخصين من خلفيتين اجتماعيتين مختلفتين أحدهما قروي متعجرف والثاني محام متعلم ماهر في وظيفته، يتم اعتقاله من النازيين، لا ليُعذب بوحشية كما توقع الجميع، بل ليلقى نوعًا آخر من العذاب وهو الفراغ المستفز، إلى أن يقرر سرقة كتاب ما ليتسلى به، ليجد أن هذا الكتاب عن الشطرنج لا أكثر، وبعدها يحفظ الكتاب عن ظهر قلب لكثرة الملل الذي يحيط به.
وفي الناحية الأخرى نجد القروي المتعجرف فتى كبر وهو لا يعرف أي شيء إلا خوض مبارايات الشطرنج والفوز بها، إلى أن أصبح مغرورًا غليظًا لا يهدف لشيء إلا جمع المال عن طريق الشطرنج، وتجمع الأقدار بين هذين الشخصين في مباراة تاريخية تنتهي نهاية غير متوقعة، لن أحرقها عليكم.
يمكننا أن نقول إن زفايغ كان يرتكز هنا على العقل البشري وقدرته ومحدوديته، وكيف يؤثر الفراغ في النفس البشرية وكيف يمكن أن يُعذب الإنسان دون أن يفعل أي شيء، كما لم تخل الرواية من البُعد السياسي الذي كان يعيشه زفايغ ودور النازيين به.
السر الحارق
ليس شائعًا أن نجد روايات أبطالها أطفالاً يتركهم الكاتب يخوضون غمار الرواية بأسرها، هنا نظرة على عدم نمطية زفايغ في اختيار أبطاله واهتمامه بكل ما حوله وتجسيده في رواياته، في السر الحارق يرسم لنا زفايغ صورة غير تقليدية عن حياة طفل ما، في الوقت الذي يلعب فيه أقران هذا الصغير، نجده يهتم بشيء آخر هو لغز يعجز عن كشفه.
كثيرون يعرفون أن “رسالة من امرأة مجهولة” فيلم مصري قديم من بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز، ولكن لا يعرف الجميع أن هذا الفيلم في الأساس واحدة من أشهر الروايات العالمية التي ألفها كاتبنا العبقري
قصة الرواية تكمن في تعارف يحدث في أحد الفنادق بين رجل ثري يلهو ويلعب ويصاب بحالة ملل ولا يعرف ماذا يفعل، فيقرر أن يصطاد امرأة تعجبه في ذلك المكان، ولكن تكمن المشكلة في طفلها المرافق لها، فيتقرب الرجل للسيدة عن طريق ابنها وتعجب المرأة به من الناحية الأخرى، إلى أن ينتهي دور الطفل ويصبح عائقًا بينهما وبين علاقتهما الغرامية، يحاول الطفل إفساد علاقتهما بأي شكل من الأشكال، ويظل يعذبه ويلح عليه، السر الحارق، السر الذي يخفيه الكبار عن الصغار! ماذا يفعلان في غيابه ويرفضان أن يعرفه!
رسالة من امرأة مجهولة
كثيرون يعرفون أن “رسالة من امرأة مجهولة” فيلم مصري قديم من بطولة فريد الأطرش ولبنى عبد العزيز، ولكن لا يعرف الجميع أن هذا الفيلم في الأساس واحدة من أشهر الروايات العالمية التي ألفها كاتبنا العبقري، وفي هذه الرواية كان الحب والموت حليفين، فنجد أن الرواية قصة تراجيدية مأساوية، وعند الحديث عن قصص الحب واختلاجاته نجد أن ستفايغ الأبرع في وصف قصص كهذه.
تحكي الرواية عن رجل ثري أرستقراطي مُثقف ولكنه مُحبًا للنساء وله علاقات متعددة وعثرات كثيرة، إحداهما هي قصة البطلة، وفي الأساس الرواية عبارة عن رسالة، رسالة طويلة من امرأة لا يتذكرها الكاتب الشهير ولكنها تقص عليه تفاصيل حياتها التي نساها، وكانت إحدى علاقاته العابرة التي لا يكاد يتذكرها أصلاً.
تعد رواية “الخوف” واحدة من الروايات التي تخبرنا الكثير عما حدث في حياة زفايغ نفسه
تكتب البطلة حكايتها بالقرب من ابنتها وثمرة علاقتها العابرة من هذا الرجل، الذي لم يدركها بسرعة، ولكنها كانت بسبب حب تلك الفتاة له، فقد عرفت الكاتب وهي في الثالثة عشرة من عمرها وظلت تحبه طيلة حياتها وأفنت عمرها في حبه حتى وقعت في الشرك والإثم، فقط لتلتقي به وتستطيع الوصول إليه، وعلى عكس نهاية الفيلم العربي السعيدة، نجد أن الرواية قصة مأساوية تراجيدية من الدرجة الأولى ولا نستطيع إلا أن نُشفق على مثل هذا الحب.
مانديل بائع الكتب القديمة
يعتبر هذا الكتاب أشبه إلى المجموعة القصصية ولكنه يحتوي على قصتين فحسب، “مانديل بائع الكتب القديمة” و”المجموعة الخفية”، وبعيدًا عن حبكة القصص الواضحة التي تتحدث عن بائع الكتب المثالي الذي يتمنى كل قارئ حقيقي مقابلته، وبطل القصة الثانية التي تحكي لنا عن رجل مهووس بجمع التحف والقطع الثمينة، نجد بُعدًا آخر لهذه القصص، وهو ما أراد زفايغ توضيحه في كتابته وهو أثر الحرب على الأفراد، حتى المسالمين المنعزلين الذين لا يدرون أن هناك حربًا من الأصل في المدينة، وكانت كتابة هذه القصص من أثر الحرب العالمية التي عاشها زفايغ وأثرت به بشدة.
الخوف
تعد رواية “الخوف” واحدة من الروايات التي تخبرنا الكثير عما حدث في حياة زفايغ نفسه، وعما عجز عن قوله، فيسقطه على أبطاله، الخوف تروي قصة زوجة ثرية تعيش في سعادة وارفة مع زوجها المحامي الذي يبذل ما بوسعه ليجعلها أسعد إنسانة في الوجود، ولكن هذا لا يكفي فتظن أن حياتها تحتاج إلى نوع من المغامرة وشيء من الفضول في العالم الخارجي، فتقوم بإقامة علاقة غير شريفة مع موسيقار تعرفت عليه صدفة، هي لا تُحبه ولا تجد فيه شيئًا أفضل من زوجها ولكنها تُفضل روح المغامرة، ووسط كل هذا تظهر لها سيدة تخبرها بأنها سرقت رجلها وتهددها بإفساد حياتها.
ومع الوقت تظهر المبتزة من وقت لآخر، إلى أن تنتزع منها خاتم زواجها، وسط كل أحداث الرواية تشعر البطلة بالخوف من معرفة زوجها ويشير لها زوجها بأن الاعتراف به الكثير من التخفيف من الألم، ثم تخبره في جملة تعبر عن تبرير الخوف من الاعتراف للبشرية جمعاء: “هل تعتقد أن الخوف وحده دائمًا هو الذي يوقف الناس؟ ألا يمكن أن يكون الخجل، الخجل من أن يفتح المرء قلبه، أن يتعرّى أمام الجميع؟”.
أدب ستيفان زفايغ لا يمكن أن يكون أدبًا يعبر عن دولة بمفردها (النسما)، بل هو أدب البشرية جمعاء
وتفشل البطلة في الاعتراف وتخشاه وترغب في الانتحار تلاشيًا للمشكلة برمتها إلى أن تظهر مفاجأة لا يتوقعها الجميع.
في هذه الرواية نجد انعكاسًا لفترة من حياة زفايغ نفسه؛ في ظل الحياة العصيبة التي عاشها وخاف من إعلانه الصريح ضد هتلر والنازيين؛ لأنه كان شخصًا مسالمًا يفضل الهدوء ويبتعد عن الصراعات، ثم لجأ إلى الخوف من المواجهة وأقدم على الانتحار في البرازيل في آخر مرحلة من حياته.
تميزت كتابات زفايغ بالعمق والتفرد، فتجد كتاباته من النوعية التي يبدأ بها حدث عادي بسيط يمكن أن يحدث في حياة أي منا، ثم تتصاعد الحبكة لنجد أن هناك حكاية غير تقليدية ستُقدم إلينا في كتابات صغيرة الحجم غالبًا، كما أثرت حياة زفايغ التي عاشها على كتاباته فنجد أن رحلاته وسفرياته الكثيرة المتنوعة انعكست في أغلب رواياته مثل آموك سعار الحب ولاعب الشطرنج وأربع وعشرون ساعة في حياة امرأة وغيرها، بجانب ذلك فقد انعكست رحلة الطبيب الذي سافر إلى إحدى الدول النامية في رواية أموك سعار الحب، على حياة زفايغ نفسه الذي زار الهند من قبل رغبة منه في التعرف على حياة الشعوب المختلفة.
بالإضافة إلى أننا نجد أن أثر النساء في كتاباته لم يخل من الواقع وحياته الشخصية، فلم يكتف في حياته بزيجة واحدة بل طلق زوجته الأولى وتزوج بأخرى كانت سكرتيرته في أحد الأوقات، ومن المؤكد أن لهاتين السيدتين قصصًا وخيالات كثيرة اعتمد عليها في أدبه، ولا ننسى أن معظم أبطال زفايغ كانوا من الطبقة الثرية التي انتمى إليها وانحدر منها، ويظهر ذلك جليًا في رواية الخوف التي تدور أحداثها عن حياة امرأة من أسرة ثرية، كما نجد أن أغلب أبطال زفايغ لا تعتريهم الأزمات الاقتصادية أو الفقر إلا في استثناءات بسيطة مثل مانديل بائع الكتب القديمة، ورغم فقره لم يكن شغوفًا بجمع المال أو البحث عن الثراء، كان زفايغ كثير الهرب من المدرسة ولا يحب التعلم بالطرق التقليدية العقيمة وهو ما أسقطه على بطل قصته “فوضى الأحاسيس”.
أدب ستيفان زفايغ لا يمكن أن يكون أدبًا يعبر عن دولة بمفردها (النسما)، بل هو أدب البشرية جمعاء وما يُقام في حياة أبطال رواياته يمكن أن يحدث في حياة أي دولة في العالم، كان زفايغ أديبًا عبقريًا ومثالًا حيًا للإبداع والذكاء المطلق، لكنه فشل في أن يكون إنسانًا مواجهًا للأزمات معبرًا عن استيائه من ألمانيا والنازية فآثر أن ينتحر مع زوجته، بعدما أطبق هتلر على دولته ودمر كل صلاته بحياته القديمة وأحرق دار النشر التي كان يطبع بها، اختار الرحيل بهدوء، ظنًا منه أن الإنسانية قد انتهت إلى هذا الحد، تاركًا وراءه هذه الرسالة:
“ولكن الذي بلغ الستين من العمر يحتاج إلى طاقات غير عادية حتى يبدأ بداية جديدة كل الجدة، وما لدي من طاقات قد استنزفتها أعوام التشرد المديدة، لذلك من الأفضل في اعتقادي أن أختم في الوقت المناسب، وأنا منتصب القامة، حياة كان العمل الفكري فيها يعني الفرح الأصفى، والحرية الشخصية الأنقى، والخير الأسمى على الأرض، تحياتي إلى كل أصدقائي! عسى أن تتسنى لهم رؤية الفجر بعد هذا الليل الطويل! وها أنا ذا أتقدمهم وقد فرغ صبري تمامًا“.