ألوانها المبهجة تخطف أنظار المارين، ودقتها اللامتناهية تسلب معها الألباب، وبينما تظللك سماء شارع المعز لدين الله الفاطمي بوسط القاهرة بأقبية المساجد العالية ونقوشها البديعة، إذ بالأرض هي الأخرى تفترش لوحا فنية تعزف أعذب الألحان كلما اصطدمت بأقدام السائرين، غير أنها لم تكن أوتارًا تعزف لكنها قطع نحاسية مطعمة بالفضة والذهب.
أواني نحاسية عادية، تدخل غرفة الإنعاش على أيدي طبيب فنان، فتخرج لوحة فنية بارعة الجمال، حيث أطياف الفضة تتسلل خيوطها، وأشعة الذهب تخترق جنباتها، تتشابك أنسجتها بصورة متلاحمة، فتشعر أنها عمل فني من زمن الكبار الذي ولى، وحين هممنا بالسؤال عن هوية هذه الحلى، كانت الإجابة.. إنه فن “التكفيت”
التكفيت..أو فن الزخرفة على النحاس والحديد، واحدة من أبرز الحرف التي تميزت بها بعض العواصم العربية قديمًا، وكانت عنوانا للهوية العربية والإسلامة في كثير من الأوقات، ومع مرور الزمن وتلاشي أغلب الصناعات القديمة صمدت هذه الحرفة في وجه شلالات التطور الصناعي، فظلت حتى كتابة هذه السطور الفن الذي يحفظ للقاهريين والدمشقيين على وجه الخصوص أسرار هويتهم.
حين يجتمع الفن مع التاريخ
يعد التكفيت أحد أصعب الحرف اليدوية على مر التاريخ، كونه يحتاج إلى دقة عالية وذوق رفيع وإحساس عالي حتى تخرج القطعة وكأنها لوحة فنية متكاملة الأركان، وقديما كان يطلق عليه “التطعيم” أي تطعيم النحاس أو الحديد ببعض الذهب أو الفضة ما يضفي عليها جمالا ورونقا وأناقة تسر الناظرين.
هذا النوع من الفن هو أحد طرق الزخرفة على القطع والتحف، حيث إضفاء المزيد من الهيبة والقيمة على المعدن الأقل سعرًا من خلال تطعيمه بما هو غال ونفيس، ومن ثم تزداد قيمته، مادية كانت أو فنية، بحسب أحمد مروان، الباحث المتخصص في الآثار الإسلامية.
مروان لـ “نون بوست” أوضح أن هناك روايات عدة بشأن موطن هذا الفن وتلك الحرفة، غير أن معظم الدراسات تذهب إلى أن مدينة الموصل العراقية هي موطنها الأساسي ومنها انتقلت إلى القاهرة ودمشق وبعض العواصم العربية والإسلامية الأخرى، وإن نفت دراسات أخرى تلك الرواية مرجحة أن تكون القاهرة الفاطمية موطنها الأول.
وأي كان موطن هذه الحرفة التي تتمثل في استخدام رسوم يدوية على السطوح المعدنية بعد تحويلها إلى نقوش بارزة أو غائرة، تترك إثر معالجتها أثرا واضحا للبعد الثالث عبر إسقاطات الأضواء والظل، ثم تطعم بالذهب والفضة والنحاس الأحمر، فإنها الآن لم تعد موجودة بالشكل الكامل- كصناعة وحرفة- سوى في القاهرة ودمشق على وجه التحديد، بحسب الباحث الأثري.
هذه المهنة تعد واحدة من أبرز الصناعات التي تميز حضارة مصر الإسلامية، وأنها بسببها تحولت منطقة وسط القاهرة إلى قبلة للسائحين الذين يقصدون هذه الأواني على وجه التحديد
الرسوم القاهرة
في محل لا تتجاوز مساحته 3 أمتار، يجلس شاب ثلاثيني فوق كرسي خشبي، ممسكا بيده اليسرى قطعة من النحاس، يقوم بإحداث بعض الثقوب بها عن طريق قلم حفر، بطريقة هندسية متميزة، وأمامه بعض من ماء الفضة والنحاس الأحمر السائل، ثم يصب هذا الماء داخل تلك الثقوب ويتركها بعض الوقت، وماهي إلا دقائق معدودة حتى تتحول تلك القطعة النحاسية إلى برواز فني يجذب أنظار السائحين.
مجدي المصري، حرفي بدرجة فنان، متخصص في صناعة الحفر على النحاس والحديد، يقول في بداية حديثه لـ “نون بوست” “لقد ورثت هذه المهنة عن أجدادي، منذ عقود طويلة، وسأورثها لأبنائي ومن بعدهم أحفادي، فلا نعلم لنا سوى هذه الحرفة التي باتت دما يجري في شريان عائلتنا بالكامل”
وأضاف الحرفي الفنان أن هذه المهنة تعد واحدة من أبرز الصناعات التي تميز حضارة مصر الإسلامية، وأنها بسببها تحولت منطقة وسط القاهرة إلى قبلة للسائحين الذين يقصدون هذه الأواني على وجه التحديد، هذا بخلاف بعض المناطق الأخرى كما في المتحف المصري بميدان التحرير، لافتًا إلى أن هذا دليل واضح على قيمة ما نقوم به من عمل نراه شرفا لنا، على حد قوله.
وعن العائد المتوقع من هذه الحرفة، أشار إلى أنه عائد مربح لكنه غير مستمر، فقد تُرزق في اليوم الواحد بأكثر من 300 دولار لكن ربما تظل أسبوعا كاملا لا تبيع فيه قطعة واحدة، كاشفًا أن معظم زبائن هذه الصناعة من الخليجيين والأجانب، وقليل من المصرين الشغوفين بهذا الفن.
وأختتم المصري حديثه بالتحذير من انقراض هذه الحرفة كما غيرها، مطالبًا المعنيين من أجهزة الدولة والجهات المختصة بإعادة إحياء تلك الصناعات اليدوية التاريخية والتي قد تكون بابا – إن أُحسن توظيفه – لتنشيط السياحة في مصر، وتقديم صورة إيجابية عن هوية الفن المصري وأصالته.
أواني نحاسية مزخرفة بشارع المعز لدين الله الفاطمي بوسط القاهرة
السيف الدمشقي
ومن قاهرة المعز إلى دمشق، حيث صناعة السيف التي ارتبطت بحرفة التكفيت، وهناك يتم تزيين أنصال وأغماد السيوف بخيوط من الذهب والفضية مرسومة بأشكال هندسية مباشرة، حيث تصف الخيوط إلى جانب بعضها لتشكل الرسم المطلوب وبعد تعريضها للنار تظهر الرسوم قطعة واحدة.
كثير من الباحثين ربط بين هذا النوع من الفن وأسطورة الإله “حدد” (أحد آلهة سوريا القديمة، إله الطقس والعواصف والأمطار) حيث تقول الأسطورة: كان يضرب قاسيون بالبرق، فيترك ذاك البرق آثارا تتكون من نترات الحديد، فكان صناع السيوف يستخرجون من التراب تلك الآثار والمواد ليأخذوها ويبدأوا بها أولى الخطوات، فهذه النترات تعد العنصر الأول في صناعة السيف، وتخلط بمركبات سرية وسحرية غامضة، لا يعرفها أحد إلا كبير الصناع، والذي يعرف بـ”شيخ الكار”.
ما يميز دمشق في تلك الحرفة ليس السيف وفقط كما يتوقع البعض، فهناك بعض المنتجات الأخرى كاللباس التقليدي المرصع بالرسوم والنقوش الحفرية الجميلة
وبعد ذلك “تؤخذ العجينة وتوضع في بوتقة وتصهر بالنار حتى تلين، ويستطيع بذلك الصانع أن يدقها ويشحذها ويطوّعها بالصورة والشكل اللذين يريدهما، ويدخل في السيف تموجات تميزه عن غيره من السيوف، ثم يسنّ ويلمّع وتكتب عليه كلمات تتضمن صلوات وعبارات تشير إلى أن من يحمل هذا السيف لا يخسر حربا”، وقديما كانت تنقش فوق السيوف أبيات من الشعر لكن مع دخول الإسلام صار ينقش عليها بعض آيات القرآن الكريم.
فواز أبو شريف، حرفي متخصص في فن التكفيت، من دمشق، غير أنه مقيم في القاهرة منذ عامين تقريبًا، يقول إن “هذه الحرفة لم ولن تنقرض في سوريا” وتابع” دمشق تعرف بهذا الفن الذي وطأ إليها منذ مئات العقود، ورغم الصراعات المستعرة فوق الأراضي السورية فلن تمحو الحرب آثار هذا الفن الذي بات متأصلا في نفوس السوريين”.
رواج كبير لصناعة زخرفة الأواني النحاسية في دمشق
وعن مراحل زخرفة وتطعيم الأواني النحاسية، أضاف الحرفي السوري لـ “نون بوست” : نقوم برسم الشكل المطلوب على الورق أولا، ثم نجهزه، وبعدها نقوم بالحرف على النحاس إما بشكل يدوي أو عبر أقلام الحفر المخصصة لذلك، وأخيرًا تطلى بالفضة في تلك الحفر وتترك لتجف، وبعدها تكون جاهزة للبيع”.
وأشار في الوقت ذاته إلى أن ما يميز دمشق في تلك الحرفة ليس السيف وفقط كما يتوقع البعض، فهناك بعض المنتجات الأخرى كاللباس التقليدي المرصع بالرسوم والنقوش الحفرية الجميلة، إضافة إلى بعض أنواع الأسلحة كالخنجر الذي بات مطلبًا للكثير من الزبائن في عدد من الدول العربية كاليمن والإمارات وسلطنة عمان.
وفي المجمل.. يأتي كل عصر جديد وتحت إبطه أنماط جديدة من المهن والوظائف، وقد يهيل التراب على مهن أخرى، غير أن بعضها ربما يشذ عن هذا الناموس الاجتماعي، على رأسها “التكفيت” لكن يبقى السؤال: إلى متى ستقاوم هذه الحرفة في ظل هذا الشلال الغادر من التطور؟ وهل للجهات المعنية أن تتدخل لإنقاذ مايمكن إنقاذه حفاظا على تلك الصناعات التي ظلت لعقود طويلة حافظة لأسرار الهوية العربية والإسلامية؟.. أسئلة طرحها الحرفيون العاملون في هذه المهنة في انتظار الإجابة.. فهل من مجيب؟