حين يتعلّق الأمر بتطوّر دماغ طفلك وشخصيته، فإنّ الوقت الذي يقضيه في الفصل أو في واحدٍ من دروسه يعدُّ أقلّ أهميّةً من الوقت الذي يقضيه في الشارع أو الملعب. هذا ما يراه العديد من خبراء التربية والباحثين في تطوّر الطفل بكلّ تأكيد. لكن لو نظرنا إلى الأطفال اليوم، لوجدنا أنّ معظمهم يقضون جلّ أوقاتهم ما بين المدرسة أو المؤسسات التي قد تقدّم لهم أنشطة منهجية منظمة يديرها عددٌ من البالغين ويضعون القواعد والقوانين لها.
أما في المنزل، فغالبًا ما يكونون أمام شاشة التلفاز أو الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية وألعاب الفيديو، على خِلاف ما اعتادت عليه الأجيال السابقة من قضاء الوقت خارج جدران المنزل، ينتقلون من حيّ لآخر ومن ملعبٍ لغيره، مستمتعين بالخيارات المتعددة أمامهم للتسلية واللعب مثل ركوب الدراجات أو القفز بالحبل أو الألعاب الحرّة أو الشعبية العديدة التي تختلف من مكانٍ لآخر.
في الآونة الأخيرة، يستخدم علماء النفس مصطلح “عجز اللعب” لوصف عجز أطفال اليوم عن الحصول على امتيازات اللعب التي كانت الأجيال السابقة تحصل عليها نظرًا للتطوّر التكنولوجي الكبير والتغيّرات في طبيعة الحياة والأسرة والتربية، مؤكّدين أنّها تشكّل مشكلةً حقيقية على تطوّر دماغ الطفل وشخصيته على أصعدة مختلفة.
الألعاب الحديثة: افتقارٌ للمخيّلة وتقييدٌ للحريّة
يأخذ الخيال مساحةً كبيرة من اللعب الحرّ؛ فالكثير من الأطفال غالبًا ما يلجأون إلى تخيّل شخصياتٍ أو سيناريوهات عديدة أثناء لعبهم تساعدهم على أداء العديد من الأدوار المختلفة في الوقت نفسه. ويرى علماء النفس أنّ اللعب التخيّلي هذا يساعد الطفل في التنمية الاجتماعية، نظرًا لأنّ الطفل يتصرّف كنفسه وكغيره أثناء اللعب، ما يمنحه القدرة على استكشاف الأشياء من وجهات نظر مختلفة.
يلجأ الطفل لاستخدام خياله في اللعب كوسيلة تعلّمه المهارات البدنية والعقلية اللازمة للبقاء والاستمرار، فعندما يتخيّل الطفل نفسه في مواقف متغيّرة غير واقعية، فهذا يعني أنّه يدرّب نفسه على الاستعداد لتلك المواقف في حال حدوثها
فعلى سبيل المثال، قد تتخيّل ابنتك بأنها أمٌّ ولديها أطفال، ما يعني أنّها أيضًا ستتخيل مواقف عديدة حيث يكون طفلها يبكي فيها، أو يلعب أو يصرخ أو يقع أرضًا، الأمر الذي يساعدها بالفعل بتخيّل العالم من وجهة نظر أمّها في الواقع. أمّا حين يتخيّل طفلك بأنه حيوانٌ أليف، لنقل كلب على سبيل المثال، فهذا يعني أنّه يحاول التواصل مع من حوله دون حديثٍ أو كلام. وقد يتخيّل الطفل نفسه شخصيةً خارقة تعمل على مساعدة الآخرين من حوله وتقوم بمهمّاتٍ صعبة وجريئة، وهكذا.
من وجهة نظر علم النفس التطوّري، يلجأ الطفل لاستخدام خياله في اللعب كوسيلة تعلّمه المهارات البدنية والعقلية اللازمة للبقاء والاستمرار، فعندما يتخيّل الطفل نفسه في مواقف متغيّرة غير واقعية، فهذا يعني أنّه يدرّب نفسه على الاستعداد لتلك المواقف في حال حدوثها، ما يعني قدرةً أكبر على التعامل معها وحلّ مشكلاتها وصعوباتها إنْ وجدت.
باختصار، يسمح الخيال لطفلك بإنشاء العديد من الصور المرئية في عقله دون أيّ تقييدٍ لحدود العالم المادّي من حوله، الأمر الذي يساعدهم، بحسب العديد من الأدلّة والدراسات، على تطوير مهارات حلّ المشكلات والتواصل الاجتماعيّ والتعاطف واتخاذ القرارات وتطوير طرق جديدة للرؤية والوجود. كما يساهم في تطوير القدرات النفسية والعاطفية الحاسمة التي تساعد الطفل على فهم العالم الذي يعيش فيه وعلاقته به. كما يتيح لهم اللعب الخيالي استكشاف العالم المادي والنفس الداخلية في نفس الوقت، ممّا يساعد على التعرف على الاستجابات العاطفية للأشياء، وهي عملية صحية للغاية قد يعجز الطفل على تحصيلها بعيدًا عن اللعب.
اللعب الاجتماعي: ماذا يخسر طفلك ببقائه في البيت أمام الشاشة؟
كانت عالمة الاجتماع الأمريكية ميلدريد بارتن نيوهال مهتمةً بالدور الاجتماعي الذي يقوم به اللعب في حياة الطفل والمجتمع، إلى جانب الدور النفسيّ والفرديّ. ولهذا تُعتبر المرحلة الرابعة في نظرّيتها “مراحل اللعب” واحدة من أهمّ المراحل التي يعتمد عليها تطوّر الطفل ودماغه وشخصيته بشكلٍ صحيّ في المراحل اللاحقة من حياته، وأيّ خلل في هذه المرحلة سيعود سلبًا على الطفل.
يساعد اللعب في نضوج الهوية الذاتية والفردية وسط المجموعة من خلال تحديد الأدوار التي قد يؤدّيها الطفل، ما يتطلب المزيد من النضج الاجتماعي والمهارات الاجتماعية
تسمّى تلك المرحلة بمرحلة “اللعب التعاوني”، وتبدأ ما قبل المدرسة وتستمرّ بالنضوج شيئًا فشيئًا، إذ يصبح الطفل قادرًا على التعاون مع غيره من الأطفال لتحديد أهداف منظمة ومحددة للعب، والأطفال هنا إمّا بداخل مجموعة اللعب أو خارجها، وبذلك تتشكل شخصية الطفل الاجتماعية بشكلٍ واضج وجليّ عن طريق قدرته على التعاون مع الأطفال الآخرين من حوله.
تتشكل شخصية الطفل الاجتماعية بشكلٍ واضج وجليّ عن طريق قدرته على التعاون مع الأطفال الآخرين من حوله أثناء لعبهم سويةً
كما تساعد هذه المرحلة على نضوج الهوية الذاتية والفردية وسط المجموعة من خلال تحديد الأدوار التي قد يؤدّيها الطفل، ما يتطلب المزيد من النضج الاجتماعي والمهارات الاجتماعية الأكثر تقدّمًا مثل تقاسم أو تشارك الألعاب والالتزام بالأدوار وقواعد اللعبة والرضوخ للقوانين والتفاوض والتسوية وغيرها من المهارات التي تشكّل جزءًا من السلوكيات الإدراكية المهم اكتسابها في تلك المرحلة من العمر.
يتفق العلماء الحديثون أنّ نظرية بارتن ساهمت بشكلٍ كبير في فهمنا للعب وأهميته لنموّ الطفل وتطوّره على عدة أصعدة، وعلى الرغم من اقتراح تصنيفات بديلة لتلك المراحل إلا أنها ما زالت تُستخدم على نطاق واسع لا سيّما مع الاتفاق الكبير على قدرتها في بناء شخصية الطفل الذاتية والاجتماعية.