دمار وأشلاء وبطون جائعة، محاولات لا تنفض لإرباك وإذلال الخصوم وسلب كرامتهم الوطنية، تحالفات لا تجري لرفاهية المواطن، بل تعزيزًا للسيطرة والرغبة في إخضاع دول وحكومات شقيقة للدوران في فلك بعضهم البعض، هكذا يعيش العالم العربي الذكرى الـ”70″ لإصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، تلك الوثيقة الإنسانية الرفيعة التي حاولت التوصل إلى صيغة موحدة، للاعتراف بكرامة جميع أعضاء الأسرة البشرية، وحقوقهم المتساوية الثابتة، على أساس الحرية والعدل والسلام في العالم.
ما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟
إعلان عالمي لحقوق الإنسان.. لماذا؟
رغم الحديث كثيرًا طوال أمس عن الإعلان والأسباب التي دعت إلى الإسراع في الاتفاق على بنوده، فإن خطورة تجاهله من بلدان العالم بأكمله، وليس العربي وحده، يجعل من الضرورة تعريض القارئ لجرعات مكثفة منه، وإعادة التذكير به، كمادة أساسية في مدخل لأي موضوع فرعي يتداخل معه، كما هو موضوع هذا المقال.
جاء التفكير في إنشاء مثل هذه الوثيقة، بحسب الديباجة الرسمية المدرجة في الإعلان التي صاغها المفكر العربي اللبناني شارل مالك عضو فريق المحررين، بسبب تناسي بلدان العالم حقوق الإنسان وازدراؤها، مما أفضى إلى أعمال همجية أذت الضمير الإنساني، وأدت إلى اشتعال صراعات عالمية، راح ضحيتها الملايين من البشر، ثمنًا لنزّعات حيوانية، فلم يكن أمام البشر إلا التأسيس لعالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، والتحرر من الفزع والفاقة، عبر سن قانون يحمي حقوق الإنسان، حتى لا يضطر آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم، عبر تمرد أو ثورة تكلفتها في علم الغيب وحده.
كانت شعوب العالم آنذاك، في مرحلة إنهاك شديد من تدمير مادي ومعنوي طال الجميع، تعززت الحاجة لميثاق جديد، يعيد إحياء الإيمان بحقوق الإنسان الأساسية، وكرامة الفرد وقدره، والحقوق المتساوية للرجال والنساء التي بدأ التفكير فيها عبر نقاشات متعمقة بين المفكرين والفلاسفة، منذ القرن الثاني عشر تحت شعار الحقوق الطبيعية، وجرى الاعتماد على الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتنادي بهذا الإعلان، واعتباره رغبة مشتركة ينبغي أن تستهدفها الشعوب والأمم كافة، لتوطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية، واتخاذ إجراءات مطردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها.
أغلب المنظمات المعنية بحقوق الإنسان في الدول العربية يحكمها الهوى وطبيعة الصراع في المنطقة ومراكز القوى والتمويل، سواء كانت حكومية أم خاصة
وبغض النظر عن الازدواجية التي تتعامل بها الدول الغربية مع الشرق الأوسط تحديدًا، واستغلال الإعلان للتدخل في شؤون الدول العربية والإفريقية والآسيوية بما فيها الدول الكبرى مثل الصين والهند، إلا أن الفاجعة الكبرى في الانتقاص دائمًا من حقوق الإنسان، والنظر إليه على أنه شخص غير كامل الأهلية، يحتاج إلى وصاية حكومية وملكية وأمنية، لا تخرج بهذه البشاعة إلا من الدول العربية.
ولأن أغلب المنظمات المعنية بحقوق الإنسان في الدول العربية يحكمها الهوى وطبيعة الصراع في المنطقة ومراكز القوى والتمويل، سواء كانت حكومية أم خاصة، يمكن الاعتماد على منظمة فريدوم هاوس الأمريكية، وتقريرها لعام 2018 عن حقوق الإنسان في دول العالم، وخاصة البلدان العربية، الذي هبط فيه الجميع درجات إضافية بما فيهم تونس التي تتمتع بوزن معتدل في مؤشر الحريات، بسبب استفادتها بنسبة كبيرة من رياح ثورتها على نظام بن علي الاستبدادي في 2011.
Just Released: Freedom in the World 2018 finds that democracy and freedom around the world has declined for the 12th consecutive year. Check out https://t.co/Vk49HiVPJL #FreedomReport pic.twitter.com/JGhKNUyBcj
— Freedom House (@freedomhouse) January 16, 2018
وضع العرب في تقرير منظمة فريديم هاوس عن الحرية في العالم عام 2018
العودة لمربع التوازنات القديمة
عادت الدول العربية إلى مربع التوزانات القديمة في الحريات، لبنان على كل ما فيه من صراعات عرقية، إلا أنه الأفضل عربيًا بعد تونس، يليهما المغرب، ثم الأردن، خليجيًا تصدرت دولة الكويت كما كانت دائمًا، في نفس الوقت، حافظت دول الجزائر والعراق ومصر وقطر وعمان والإمارات واليمن وليبيا والسعودية، على مواقعهم القديمة بالترتيب في مؤشر الحريات، رغم ثورة 25 يناير في مصر، ومرور ما يقرب من عقدين على نهاية نظام صدام في العراق، وثورة ليبيا التي أنهت حياة القذافي وليس حكمه فقط، وتربع محمد بن سلمان على ولاية عهد السعودية، والبروباغندا الكبيرة التي صاحبت مجيئه في الغرب، واعتباره مبعوث الحداثة الغربية في الجزيرة العربية، قبل أن يفيق العالم على كارثة مقتل خاشقجي، لتعود المملكة إلى صورتها القديمة المعروفة عنها في الحريات.
تتعامل جميع بلدان الدول العربية، مع حقوق الإنسان على أنها رفاهية وتضييع وقت، ومؤامرة على الأغلب الأعم، رغم انضمامها لاتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب، قبل أكثر من 30 عامًا، ومشاركة بلدان العالم المتقدم في مكافحة انتهاكات حقوق الإنسان وعلى رأسها التعذيب، إلا أن سجل البلدان العربية من الانتهاكات، وخاصة الأشهر الأخيرة، يشهد على الفنون العربية المبتكرة التي تنفرد بها دائمًا في إذلال الإنسان وليس السعي للدفاع عن حقوقه.
اليمن يواجه أزمات إنسانية خطيرة، ويدفع ثمن فواتير صراعات إقليمية تعززها كل يوم عن الآخر القبلية والمذهبية والنظام الأخلاقي المختل في العالم
دول الربيع العربي التي ثارت لإيجاد مكان دافئ لها في محور الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان بالعالم، كانت على رأس المنتكسين، ففي مصر ورغم العلاقة القوية التي تجمع إدارة الرئيس السيسي بترامب، وبعيدًا عن تقارير المؤسسات الدولية التي تعتبرها الحكومة المصرية ممولة من الإخوان وقطر وغيرهم من الدول والكيانات التي لا تريد الاستقرار للبلاد، فإن تقريرًا حكوميًا صادرًا عن الخارجية الأمريكية قبل أشهر، انتقد أوضاع حقوق الإنسان في مصر خلال العام الماضي.
رصد التقرير جملة من الانتهاكات، بينها تقييد حريتي التعبير والصحافة، والقتل خارج إطار القانون، والإخفاء القسري والتعذيب، وتحدث عن ظروف السجن القاسية، والمحاكمات العسكرية لمدنيين وسجناء سياسيين، كما اتهم الحكومة المصرية بعدم إجراء تحقيق شامل في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك حوادث العنف من قوات الأمن، واعتبرها مساهمة في خلق بيئة تحض على الإفلات من العقاب، وهي الاتهامات التي ردت عليها خارجية مصر واعتبرتها ترتيبات أمريكية تنطلق من اعتبارات داخلية تعكس وجهة النظر الأمريكية، ولا يرتبط بأي حال بالأطر القانونية التعاقدية التي تلتزم بها مصر أو منظمات الأمم المتحدة التي تتمتع مصر بعضويتها.
في بلد عمر المختار، دفعت مريم الطيب الناشطة الليبية حياتها ثمنًا لانتقادها عمليات القتل خارج القضاء، ووثقت منظمة العفو الدولية عملية تعرضها للخطف والضرب والتعذيب من ميليشيات مجهولة، وكذلك الحال في سوريا التي تشهد جرائم مروعة من جميع الأطراف، بما فيهم هؤلاء المحسوبين على مربع الثورة، حيث يستغل المتصارعين ضعف النظام القضائي، بسبب الترهيب وغياب مفهوم الدولة، بما يعيقه عن التعامل مع الجرائم التي ترتكب في حق المواطن، ورصدتها أيضًا الخارجية الأمريكية، بجانب المنظمات المحلية السورية، وعلى رأسها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي أكدت مقتل نحو 14 ألف سوري من جراء التعذيب فقط، بين مارس/آذار 2011 ويونيو/حزيران 2018.
في العراق تقارير دولية رصدت تعذيب محتجزين تشتبه السلطات الرسمية في تورطهم بجرائم إرهابية
اليمن الذي يواجه أزمات إنسانية خطيرة، ويدفع ثمن فواتير صراعات إقليمية تعززها كل يوم عن الآخر القبلية والمذهبية والنظام الأخلاقي المختل في العالم، رصدت فيه منظمة العدل الدولية إخفاق اللجنة الوطنية المشكلة حكوميًا من عبد ربه منصور هادي، للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، ولم تعط أي نتيجة حتى الآن، تتسق مع المعايير الدولية، رغم عشرات التقارير التي أكدت ارتكاب انتهاكات بشعة من جميع أطراف الصراع في اليمن.
حتى تونس التي تزاحم أوروبا حاليًّا على التطلع نحو الحداثة، وتتفوق عربيًا وبفارق كبير عن أقرب الدول لها، رُصدت فيها ممارسات وصفت بأنها “قاسية جدًا” من المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، التي وثقت ممارسات تعذيب في مراكز الأمن، وانتقدت غياب الالتزام الجاد من السلطة السياسية، للقضاء على هذه الظاهرة، بعدما تلقت المنظمة خلال العام الماضي فقط بلاغات عن انتهاكات غير مسبوقة في مراكز الشرطة والسجون والمناطق العامة بحق 80 مواطنًا ومواطنة.
العراق، ورغم الآمال الواسعة التي لم تتحقق حتى الآن، منذ رحيل نظام الرئيس الأسبق صدام حسين، فإن تقارير دولية رصدت تعذيب محتجزين تشتبه السلطات الرسمية في تورطهم بجرائم إرهابية، ووثقت منظمة هيومان رايتس ووتش، شهادة معتقل سابق في سجن بشرق الموصل عام 2018، وقالت إنه عُذب بشكل متكرر في أثناء الاستجواب، بجانب تسعة رجال كانوا يموتون أمامه، كما أن المفرج عنهم لا يبلغون القضاة بتعرضهم لسوء المعاملة خشية الانتقام لاحقًا.
لم يخل لبنان من وباء التعذيب، بعدما كشف الممثل اللبناني زياد عيتاني الذي تمت تبرئته من تهمة التجسس لـ”إسرائيل”، تعرضه للتعذيب على يد جهاز أمن الدولة اللبناني
في السعودية، رصدت العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش، تعرض ناشطين سعوديين محتجزين، بينهم نساء لتعذيب وحشي، شمل الصعق بالكهرباء والجلد والمعانقة والتقبيل القسريين، وكذلك الحال في الأراضي الفلسطينية، اتهمت الناشطة سهى جبارة، قوات الأمن التابعة لسلطة رام الله، بتعذيبها على مدار ثلاثة أيام في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وقالت إنها تعرضت للضرب ودُفعت إلى الجدار وهُددت بالتعرض لعنف جنسي، كما عوقبت بسبب الإضراب عن الطعام.
المغرب أيضًا كان حاضرًا في المأساة، وحكى ناشطون محتجزون في حراك الريف للعديد من منظمات حقوق الإنسان على رأسهم نوال بن عيسى عن أساليب إجبارهم على الإدلاء باعترافات تحت وطأة التعذيب، وتوقيع محاضر استنطاق تدينهم من دون قراءة محتواها.
ولم يخل لبنان من وباء التعذيب، بعدما كشف الممثل اللبناني زياد عيتاني الذي تمت تبرئته من تهمة التجسس لـ”إسرائيل”، تعرضه للتعذيب على يد جهاز أمن الدولة اللبناني، والضرب والإجبار على ممارسة وضعيات مؤلمة، وتعليقه من معصميه، وركله على وجهه والتهديد باغتصابه لانتزاع اعترافات منه.
أين الأزمة.. القوانين أم الممارسة؟
في العالم العربي لا يمكن اعتبار المشكلة في سن القوانين، فالدساتير العربية تكتظ بمواد عن الحرية وحقوق الإنسان وتقديسها دون تفعيل أو احترام لها، بل الأزمة في الثقافة والممارسة وتأصيلها في الثقافة العربية، التي تؤخر في عمومها قضايا الحريات إلى ذيل اهتماماتها، ويستوى في ذلك الدول التي انضمت إلى الاتفاقيات الدولية، أو تلك التي تحفظت على بعض البنود فقط، أو التي كانت صريحة مع نفسها ومتسقة مع ذاتها، ورفضت تقبل هذه الثقافة الغريبة عليها، ولفظت الاتفاقيات وامتنعت عن التوقيع عليها.
يعاني المواطن العربي من الجهل بحقوقه، ويبحث دائمًا عن مُضحٍ يأتي له بها وهو آمن على فراشه، وعلى امتداد رقعة البلاد العربية، ستجد العربي أسرع من يفرط قبل حكومته في الحق بالحياة والتعبير عن الرأي والحرية والتنقل والصحة والتعليم، وغيرها من الحقوق التي لا يوجد عليها أدنى خلاف في البلدان المتقدمة، بل والغريب أن الكثير منهم وخاصة في البلدان الخليجية، ستجده معاديًا لحقوقه بالفطرة، تحت وازع التعلل بالخصوصية، والفهم المغلوط لتعاليم الدين الاسلامي، واعتبار أي إنجاز حضاري يدعو إلى حقوق الانسان، منتج غربي ضار بالبلاد والوطن والعقيدة.
وتعظم الأزمات الإقليمية الحاليّة، وتغير خريطة الحكم في المنطقة، بل والمزاج الشعبي الذي أصبح متربصًقا بكل ما يدعو إلى الحرية ومنتجاتها، بسبب مراهقة المنادين بهذه الشعارات، وتخاذلهم عن تحمل المسؤولية في مرحلة فارقة من عمر الأوطان، من صعوبة العودة لزمن الربيع العربي، حيث إعلاء حقوق الإنسان لتشمل جميع صور الحياة، وغرس ثمرة حب واحترام الكرامة الإنسانية في النفوس، ومراعاة المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية للوصول إلى صياغات مناسبة ومتجددة تضمن توازن المصالح والعمل المشترك من أجل الخير العام، دون حاجة إلى فرض سلطان العنف المنظم أو العشوائي الذي يصادر حريات الناس جميعًا.