بعد عام واحد فقط من بدء سريان الرسوم الجديدة التي فرضت على العمالة الوافدة في السعودية التي من الواضح أنها جاءت عكس التوقعات، كشفت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية عن تشكيل حكومة المملكة لجنة لدراسة تلك الرسوم وإعادة النظر في بعض بنودها تمهيدًا لمراجعتها.
الوكالة نقلت عن أربعة مصادر رفضوا الإفصاح عن هويتهم أنه خلال الأسابيع القليلة القادمة ربما تصدر المملكة قرارات تتعلق برسوم الوافدين، متوقعة أن تتضمن تعديلات بخفضها وليس إلغاءها، هذا في الوقت الذي تنفي فيه الجهات الرسمية السعودية أي إجراءات جديدة بشأن منظومة الرسوم الجديدة.
عدول المملكة عن قرار فرض الرسوم أو تخفيضه أثار الكثير من التساؤلات عن مغازلة العمالة الوافدة مجددًا، وما تحمله هذه الخطوة من دلالات ومؤشرات تضع بعض علامات الاستفهام بشأن عدد من الملفات التي طالما عزفت الرياض على أوتارها في أعقاب فرض تلك الرسوم وعلى رأسها ملف السعودة.
الرسوم.. البداية
البداية كانت في يوليو 2017 حين أقرت وزارة المالية السعودية رسومًا جديدة على العمالة الأجنبية المقيمة فوق أرض المملكة، في إطار سياسة إعطاء الأولوية لتوظيف السعوديين في القطاع الخاص المتسقة مع “رؤية السعودية 2030” التي تهدف إلى تنويع موارد الاقتصاد وعدم الاعتماد على النفط وحده.
القرار الذي عرف بـ”المقابل المالي” وهو المصطلح المرادف للنظام المتعلق بفرض رسوم على العمالة الوافدة بالمملكة، يستهدف تحقيق عائدات مادية من وراء تطبيقه تصل إلى 65 مليار ريال (17.5مليار دولار) تقريبًا خلال أربعة أعوام من تطبيقه، هذا بخلاف تصاعد منسوب التوقعات بدوره في تقليل معدلات البطالة بين السعوديين.
خروج 1.1 مليون موظف أجنبي من القطاع الخاص من وظائفهم خلال 18 شهرًا، أي منذ مطلع 2017 وحتى نهاية يونيو/حزيران الماضي
100 ريال شهريًا (26.6 دولار) كانت قيمة الرسوم المفروضة على العامل الوافد خلال عام 2017، تصل إلى 400 ريال (1.6 دولار) في 2018 وصولاً إلى 600 ريال (162.1 دولار) في 2019، بينما تصل في 2022 إلى 800 ريال (216.2 دولار) شهريًا.
في حينها.. أثار هذا القرار في صيغته التي كان عليها حالة من الهلع لدى الملايين المقيمين بالمملكة، خاصة أنه لم يعد يتعلق بالعمالة الموجودة في الشركات التي تفوق العمالة الوافدة بها عمالتها الوطنية فحسب، إذ بات ينسحب إلى العمالة الأجنبية بشكل عام حتى ولو كان عددها أقل من الوطنية في الشركات، وهو ما يدفع للتساؤل عن مصير هذه العمالة.
ارتفاع معدلات البطالة في السعودية إلى 12.8%
الهروب الكبير
في ديسمبر 2017 طرح “نون بوست” تساؤلاً عبر تقرير جاء تحت عنوان: “بعد تطبيق الرسوم الجديدة: هل يكون 2018 عام هجرة الوافدين من السعودية؟ هذا التقرير توقع هروب ما يقرب من نصف عدد العمالة الأجنبية في المملكة والبالغ عددها 12.2 مليون نسمة وهو ما يمثل نحو 37% من إجمالي عدد السكان الذي بلغ وفق إحصاء النصف الأول من 2017 نحو 20.4 مليون سعودي.
التقرير وضع عددًا من التساؤلات كذلك عن مصير هذه العمالة بعد فرض الرسوم الجديدة، خاصة أنه تضمن عدة شهادات لمقيمين داخل المملكة أكدوا دراستهم لفكرة مغادرة السعودية بعد إجبار مرافقيهم على الخروج تقليلاً للنفقات، هذا بخلاف قدرة السوق السعودية على تحمل هذه الهزة العنيفة، إذ أنه ليس من السهل خروج هذا الكم من العمالة في وقت واحد، في الوقت الذي لم تتضح الصورة بعد بشأن إمكانية السعوديين تعويض هذا النقص.
تحت عنوان “العمالة الأجنبية تغادر السعودية بمعدلات غير مسبوقة” نقلت “بي بي سي” عن صحيفة “فاينانشال تايمز”، مقالاً جاء فيه أن العمالة الأجنبية بدأت تغادر المملكة بأعداد كبيرة مع بداية سريان قرار فرض الرسوم وتسريح الشركات التي تعاني من تباطؤ الاقتصاد لعمالتها.
المقال كشف أن أكثر من 667 ألف أجنبي غادروا السعودية منذ بدء 2017، وفقًا للبيانات الحكومية، وهي “أكبر مغادرة للعمالة الأجنبية في التاريخ” بحسب وصف كاتب المقال الذي قال إن مسحًا لسوق العمالة في المملكة نُشر مؤخرًا كشف أن السعوديين ما زالوا لا يشغلون الوظائف التي أصبحت شاغرة بمغادرة الأجانب.
وفي السياق ذاته كشفت وكالة “الاناضول” وفق بيانات رسمية عن خروج 1.1 مليون موظف أجنبي من القطاع الخاص من وظائفهم خلال 18 شهرًا، أي منذ مطلع 2017 وحتى نهاية يونيو/حزيران الماضي، فيما تراجع عدد الأجانب إلى 7.4 ملايين موظف بنهاية الربع الثاني من العام الحاليّ مقابل 8.49 مليون نهاية 2016، استنادًا إلى بيانات المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية.
معظم السعوديين في سن العمل غير مؤهلين لسد الفجوة الناجمة عن هروب العمالة الوافدة
السوق السعودية.. هل تتحمل؟
كثير من المحللين يرون أن السوق الاقتصادية السعودية ستتعرض لهزة خطيرة حال مغادرة هذا العدد المتوقع من العمالة الأجنبية الموجودة بالمملكة، حيث تتأثر العديد من القطاعات التي يشغل الوافدون حيزًا كبيرًا من تشغيلها ساهموا على مدار العقود الأخيرة في دعم ونمو الاقتصاد السعودي، حسبما أشار الأكاديمي والخبير الاقتصادي السعودي الدكتور حمد التويجري.
ومع دخول القرار حيز التنفيذ قبل عام غادر عشرات الآلاف من العمالة تاركين وراءهم أماكن شاغرة في شتى المجالات، لكن مع مرور الوقت ظلت هذه الأماكن خالية في ظل عزوف الشباب السعودي عن العمل في بعض المهن التي يرى أنها لا تناسبه أو أنه غير مؤهل للقيام بمتطلباتها.
ويمكن الوقوف على حجم الكارثة بتقييم قطاع واحد فقط من القطاعات الحيوية الاقتصادية داخل المملكة التي كانت تعتمد على الوافدين بصورة كبيرة، وهو قطاع العقارات الذي شهد هزة كبيرة خلال العام الماضي، خاصة أن الأسر الأجنبية تشكل 35.9% من إجمالي عدد المساكن المشغولة في المملكة بنحو 1.96 مليون مسكن بحسب البيانات الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء للعام الحاليّ.
جدير بالذكر أن استطلاعًا لـ”بلومبيرج” توقع أن يصل معدل النمو في الناتج المحلي إلى 2.2% هذا العام وهو ما يراه محللون معدلاً متواضعًا جدًا مقارنة بمعدلات النمو قبل الهزة التي شهدها سوق النفط في 2014، وهو ما يؤثر بشكل كبير على رؤية “2030”.
فشل السعوديين في سد العجز الناتج عن مغادرة العمالة الوافدة
3 سيناريوهات
أستاذ الاقتصاد بجامعة المنوفية الدكتور أحمد فتح الباب، أرجع ما أثير بشأن دراسة المملكة لمنظومة قرارات زيادة الرسوم المقررة على العمالة الوافدة، إلى 3 سيناريوهات، لافتًا إلى أن المستجدات الإقليمية والدولية الأخيرة لعبت دورًا محوريًا في دفع الرياض إلى التراجع عن بعض السياسات والقرارات القديمة.
فتح الباب لـ”نون بوست” أشار إلى أن السيناريو الأول تمثل في فشل ملف السعودة بصورة نسبية، إذ إن معظم السعوديين في سن العمل غير مؤهلين لسد الفجوة الناجمة عن هروب العمالة الوافدة، كاشفًا النقاب أنه ورغم هذه الأعداد الكبيرة من الوظائف الشاغرة فإن معدل البطالة في السعودية وصل إلى 12.9% وهو الأعلى منذ عشر سنوات تقريبًا.
قضية خاشقجي كانت حاضرة وبقوة، ليست وراء هذا القرار فحسب، بل حزمة من القرارات والإجراءات المتوقع اتخاذها خلال الفترة القادمة، تصب جميعها في تحسين صورة المملكة خارجيًا
فيما أضاف أن الفشل في سد الأماكن الشاغرة كان له أبلغ الأثر على منظومة الاقتصاد وهو ما أصاب العديد من الأنشطة الاقتصادية المحورية في مقتل، كما هو الحال في قطاع العقارات، هذا بخلاف القطاعات الأخرى التي تم تفريغها من عمالتها الأجنبية بشكل كامل كالاتصالات وتجارة الذهب وغيرها، التي تعاني الآن من قلة أعداد الموظفين وهو ما انعكس على أدائها إلى الحد الذي تحولت فيه بعض الشوارع في داخل الرياض وجدة إلى شوارع أشباح حيث أغلقت معظم المحال التجارية بها.
ولم يغفل الخبير الاقتصادي قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في هذا الشأن، إذ أكد أنها كانت حاضرة وبقوة، ليست وراء هذا القرار فحسب، بل حزمة من القرارات والإجراءات المتوقع اتخاذها خلال الفترة القادمة، تصب جميعها في تحسين صورة المملكة خارجيًا ومحاولة تفنيد الاتهامات الموجهة إليها بانتهاك حقوق الإنسان بها وعلى رأسها العمالة الوافدة التي تضيق الخناق عليها بصورة كبيرة.
ويندرج ضمن تحسين صورة المملكة محاولة رسم صورة ذهنية إيجابية لولي العهد داخليًا، وذلك عبر مغازلة الوافدين المتضريين من قرار رفع الرسوم والتي على إثرها اضطرت نسبة كبيرة منهم إلى مغادرة العمل وترحيل أهليهم، وذلك في محاولة لتقديم محمد بن سلمان في صورة الأمير الرحيم بالوافدين الساعي لتخفيف الأعباء عنهم وهو ما سيكون له مردود إيجابي على المستوى البعيد.
وفي المجمل.. تعاني السعودية من حالة من فقدان توازن خلال السنوات الأخيرة، بدأت مع القرارات غير المدروسة التي اتخذتها السلطات السعودية، داخليًا وخارجيًا، وتعززت بصورة أكبر مع مقتل خاشقجي وتوريط ابن سلمان في الجريمة، وهو ما كان له تداعيات سلبية على صورة المملكة في الخارج ومستقبل الأمير الشاب الذي وجد نفسه مدفوعًا للعدول عن بعض السياسات المتخذة سابقًا في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.