في محاولة منه لاحتواء الاحتجاجات المتصاعدة التي قادتها في فرنسا حركة أصحاب “السترات الصفراء”، أطل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على شعبه بخطاب زاوج فيه بين الاعتراف بفداحة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الراهنة والدعوة إلى حوار شامل ومفتوح بحثًا عن الحلول الأنسب لما وصفها بأنها مرحلة تاريخية تمر بها البلاد.
ماكرون لم يكتف بذلك بل أعلن سلسلة إجراءات ترمي إلى تعزيز القدرة الشرائية للفرنسيين، في رسالة تنتظر رد المحتجين عليها، وهم الذين يؤكدون أن مشكلات الدولة الفرنسية بنيوية لا تنفع مع خطورتها مسكنات سيتبدد مفعولها سريعًا، فهل يستمر تراجع ماكرون مع ارتفاع سقف المطالب؟
تنازلات ماكرون في معركة “السترات الصفراء”
“أريد أن أعلن حالة طوارئ اقتصادية واجتماعية اليوم، نريد بناء فرنسا تعتمد على العمل والجدارة، نريد فرنسا يمكِّن العمل من العيش فيها بكرامة، وعلى هذا المستوى تحركنا ببطء، أريد أن أتدخل بسرعة، أطلب من الحكومة والبرلمان القيام بما يجب، من أجل أن يمكِّن العمل من عيش أفضل مع بداية السنة القادمة”.
سُجلت كلمة ماكرون مسبقًا في قصر الإليزيه على أنها حاسمة للرئيس ولقدرته على إعادة إحياء ولايته
كان ذلك جزءًا مما أراده وطلبه ماكرون في أول كلمة متلفزة من نحو 13 دقيقة، التي سجلت مسبقًا في قصر الإليزيه على أنها حاسمة للرئيس ولقدرته على إعادة إحياء ولايته بالتغلب على الأزمة السياسية الأخطر منذ وصوله إلى السلطة، لكنه كان عليه في الوقت نفسه أن يقدم شيئًا مما أراده وطلبه الفرنسيون.
في خطابه، كشف ماركون سلسلة إجراءات تهدف للتخفيف من وطأة الغضب الشعبي، منها مثلاً إلغاء الضريبة على ساعات العمل الإضافية في محاولة لرفع القدرة الشرائية لدى الفرنسيين، كما أعلن أيضًا إلغاء الزيادة الأخيرة على ضرائب التأمين الاجتماعي لأرباب المعاشات الذين يتقاضون أقل من ألفي يورو، وتقديم منحة للأسر المعوزة.
وضمن الإجراءات التي من المحتمل أن تكلف خزانة الدولة مليارات الدولارات، أعلن ماكرون زيادة بالحد الأدنى في الرواتب بمقدار 100 يورو شهريًا ابتداءً من الشهر القادم (بلغ الحد الأدنى للأجور في فرنسا 1498 يورو شهريًا قبل اقتطاع الضرائب و1185 يورو بعد اقتطاعها)، كما طلب من أرباب العمل تقديم منح لعمالهم مع بداية السنة، أما المتقاعدون الذين يحصلون على أقل من ألفي يورو فسيعفون من بعض الضرائب.
ولم يخل خطاب ماكرون من العاطفية، فبعد مطالبات عدة باستقالته، يؤكد أنه يتحمل جزءًا من هذه المسؤولية عن الوضع الذي أدَّى إلى الأحداث الأخيرة في فرنسا، ويأسف لعدم تأكيد أجوبة مناسبة خلال عام ونصف، ويبرر بقوله: “يمكن أن أكون قد أعطيتكم الانطباع أنني لا أهتم وأن لدي أولويات أخرى، أريد أن أكون واضحًا معكم هذه الليلة، مشروعيتي لا استمدها من أي منصب أو حزب، إنني استمدها منكم فقط”.
هل هذه الإجراءات كافية؟
في بداية هذه الأزمة أعلن ماكرون أنه لن يتراجع عن سياساته وموقفه، لكن قبل أيام أعلن تجمد قرار الزيادة في ضريبة الوقود، الذي اندلعت على إثره احتجاجات عنيفة في أرجاء البلاد، ومع ارتفاع سقف المطالب، أعلن ماكرون الرد على الوضع الاقتصادي والاجتماعي الملح بإجراءات قوية من خلال خفض الضرائب بشكل أسرع ومن خلال استمرار السيطرة على تكاليف الرفاهية التي يقول منتقدون إنها تجعله يبدو منعزلاً ومتغطرسًا.
في حين تحدث ماكرون عن رصد اعتمادات مالية، لا يقول من أين سيأتي بتلك الموارد المالية للقيام بالإصلاحات التي تعهد بها
لكن في الوقت الذي اعترف فيه ماكرون بأنه ربما أذى الناس ببعض تصريحاته، فإنه لم يتحدث عن الضرائب الخاصة بالمصارف والأثرياء، وتجنب إعلان تدابير لا تلقي بثقلها على الأكثر ثراءً ولا على الشركات، بل رفض صراحة رفض إعادة فرض ضريبة على الثروة والتراجع عن أجندته الإصلاحية التي قال إنها ستستمر عام 2019، وهو ما جعل إصلاحاته التي أفصح عنها “منقوصة”.
يُضاف إلى ذلك القصور، عدم توضيح عناصر عديدة، منها تحديد المعنيين بكل من التدابير، وتاريخ بدء تطبيقها وسبل تمويلها، وهو ما يزيد من مهمة ماكرون الصعبة، وهي إقناع الطبقة المتوسطة والعمال بأنه يستمع إلى غضبهم بشأن الضغوط على النفقات الأسرية مع حرصه في الوقت نفسه على تفادي اتهامه بالخضوع لسياسة احتجاجات الشوارع.
وعن تداعيات هذه الإجراءات، يري البعض أن الإجراءات التي أعلنها ماكرون تستجيب بعض الشيء إلى مطالب أصحاب “السترات الصفراء”، ويمكنها أن تهدّئ الأمور، ففرنسا بشكل عام تحتاج إلى تهدئة الأجواء حتى لا تنزلق الأمور إلى ما لا يُحمد عقباه.
Comme je m’y étais engagé pendant la campagne, le salaire d’un salarié au SMIC augmentera au total de 100 euros par mois, sans qu’il en coûte un euro de plus à l’employeur, et cela dès 2019 au lieu que ce soit étalé pendant tout le quinquennat.
— Emmanuel Macron (@EmmanuelMacron) ١٠ ديسمبر ٢٠١٨
في المقابل، يخشى البعض ألا يساهم خطاب ماكرون في تهدئة الأجواء، فهو لم يقدم إصلاحات حقيقية، ففي حين تحدث ماكرون عن رصد اعتمادات مالية، لا يقول من أين سيأتي بتلك الموارد المالية للقيام بالإصلاحات التي تعهد بها، في وقت تعاني فيه بلاده من مديونية كبيرة، وهو ما جعل كلمته بها قصور كبير.
وبحسب وزير فرنسي، فإن الإجراءات التي اتخذها الرئيس ستكلف الخزينة ما بين 8 و10 مليارات يورو، ولعل ذلك ما دفع المفوضيّة الأوروبية لإعلان أنّها ستدرس بعناية آثار الإجراءات الجديدة المحتملة التي جرى إعلان الميزانية الفرنسية، ولطالما كان موقف المفوضية الأوروبية واحدًا في هذا الصدد: أيّ إنفاق من خارج الموازنة الوطنية يجب أن يتمّ تمويله من وفر أو تقشف.
“ماكرون ارحل”.. وتستمر التعبئة
في أول رد فعل للخطاب المنتظر، قابل محتجو حركة “السترات الصفراء” الإجراءات التي اتخذها ماكرون مساء الإثنين سعيًا لتهدئة احتجاجاتهم، بتحفظ شديد، وتراوح استقبالهم لها بين من رأى فيها بوادر تقدم، ومن اعتبرها دليلاً على عدم اكتراث السلطة بالمحتجين، بينما سخرت المعارضة السياسية من أقصى اليمين وأقصى اليسار من التدابير التي أعلنها ماكرون.
بحسب غالبية المحتجين، فإن وعود الرئيس “غير كافية” أو “غير كاملة” لإيقاف التحركات الاحتجاجية لحركة لا زعيم محدد لها ومطالبها متنوعة ومتعددة
وبحسب غالبية المحتجين، فإن وعود الرئيس “غير كافية” أو “غير كاملة” لإيقاف التحركات الاحتجاجية لحركة لا زعيم محدد لها ومطالبها متنوعة ومتعددة، وهو ما يؤكده آروان، وهو أحد المتحدثين باسم “السترات الصفراء” في مدينة رين (غرب)”، بقوله: “هذه المرة هناك بالفعل تقدم، بينما كان ماكرون يمضي في الكلام، كانت ابتسامتي تزداد عرضًا”.
وبعد إنهاء ماكرون كلمته، أعلن العديد من المحتجين عزمهم على الاستمرار في قطع الطرقات وإقامة السواتر لا سيما عند المستديرات، ودعوا إلى “فصل خامس” من التعبئة السبت في جميع أنحاء فرنسا، ليكون خامس يوم سبت على التوالي يشهد تحركات على المستوى الوطني منذ انطلاق الحركة في 17 من نوفمبر/تشرين الثاني.
وفيما أعلن العديد من المحتجين خيبة أملهم وعزمهم على مواصلة حركتهم، تسعى الدولة لتفادي وقوع تجاوزات خطيرة جديدة كالتي شهدها أيام السبت السابقة، كما تسعى الحكومة لإقناع الفرنسيين بأن التدابير التي أعلنها الرئيس الفرنسي تستجيب لمطالب “السترات الصفراء”، فمن المقرر أن يلقي رئيس الوزراء إدوار فيليب كلمة أمام مجلس النواب يفصل فيها الإجراءات التي كشفها الرئيس في كلمته التليفزيونية إلى الفرنسيين.
الظاهرة التي تُديم انتفاضة#السترات_الصفراء الفرنسية، وتحوّلها إلى مأزق للسلطة والأحزاب والنقابات، تتمثل في أن أحدًا لا يملك شرعية التفاوض باسمها ولا قائمة بمطالبها.
الاستياء الشعبي لا ينتدب أحدًا…
— Fares Khachan (@faresk2002) ٩ ديسمبر ٢٠١٨
وكانت ردود فعل النقابات الأولية شديدة الانتقاد للرئيس، ورأت الكونفدرالية العامة للعمل “سي جي تي” أن ماكرون “لم يفهم شيئًا عن الغضب الذي يتم التعبير عنه”، أما المعارضة السياسية، فقد سخرت من التدابير التي أعلنها ماكرون، وقال جان لوك ميلنشون زعيم اليسار المتطرف: “ماكرون اعتقد أن توزيع النقود يمكن أن يهدئ تمرد المواطنين الذي اندلع”، واعدًا بمظاهرة جديدة السبت المقبل “ستشهد تعبئة كبيرة”، ومن ناحيتها قالت مارين لوبان، رئيسة التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقًا): “ماكرون يتراجع لكي يقفز بشكل أفضل”.
رجل من السترات الصفراء يرتدي زي بابا نويل يتناول القهوة مع محتجين آخرين قرب لو مان بشمال غرب فرنسا
فوبيا الثورة من فرنسا إلى العالم العربي
رغم تأكيدات البنك المركزي الفرنسي أن هذه الاحتجاجات ستقود النمو في الربع الأخير من هذا العام إلى الصفر – وسط انخفاض التوقعات للنمو خلال هذه الفترة من 0.4% إلى 0.2% – يواصل الفرنسيون احتجاجاتهم، كما أن وصف وزير المالية الفرنسي برونو لومير الاحتجاجات بأنها “كارثة” للاقتصاد الفرنسي، قد لا يؤخذ على محمل الجد، فالفرنسيون يبحثون عن الولوج إلى الخدمات الصحة والتعليم والمساواة.
ومع مرور الوقت يتسع سقف المطالب التي يرفعها المحتجون، فبعد أن بدأت برفع ضريبة الوقود، وصلت في فصلها الرابع يوم السبت الماضي إلى حد المطالبة برحيل ماكرون، وقال بعض أنصار احتجاجات “السترات الصفراء” في منطقة أميان، مسقط رأس ماكرون، لـ”بي بي سي” إنه ينبغي أن يقيل ماكرون رئيس الوزراء إدوار فيليب، ووزير الداخلية كريستوف كاستانير في أقرب وقت.
الأمن المصري يفرض إجراءات صارمة على أصحاب متاجر معدات وسترات الأمن الصناعي بالقاهرة والإسكندرية ويحذرهم من بيع كميات كبيرة منها خوفًا من انتقال عدوى احتجاجات #السترات_الصفراء في فرنسا إلى #مصر .. pic.twitter.com/RoUjmUPc5D
— جابر الحرمي (@jaberalharmi) ٩ ديسمبر ٢٠١٨
كما رفع بعض المحتجين لافتات تدعو إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي، وحمل متظاهرون من أصحاب “السترات الصفراء” مناهضين للمهاجرين لافتات كُتب عليها “لا لمراكش”، في مطالبة للرئيس الفرنسي بعدم التوقيع على ميثاق مراكش ضمن مؤتمر الهجرة العالمي الذي عُقد يوم الإثنين بالمدينة المغربية.
ولا تزال المنطقة العربية تتابع احتجاجات السترات الصفرا بترقب بالغ، لا سيما بعد تجلي تأثيرها الذي وصل إلى عدة بلدان عربية، حيث استلهم ناشطون في دول عربية فكرة السترات، وارتدى محتجون عراقيون سترات صفراء خلال تجدد المظاهرات في البصرة، وفي الأردن، دعا ناشطون إلى حركة “الشماعات الحمراء عن مطالبهم”، وأطلق ناشطون تونسيون حملة “السترات الحمراء” لاستمرار نضال الشعب.
أما في مصر، أثار الإعلامي عزمي مجاهد الموالي للنظام المصري جدلاً في منصات التواصل بعد إعلان خطاب ماكرون، وقال في مداخلة هاتفية مع الإعلامي سعيد حساسين المحسوب على النظام: “مشكلة فرنسا تكمن في حاجاتها لقائد مثل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي أنقذ المصريين من الوحل الذي كانوا فيه”، وبحسب تعبيره، الرئيس الفرنسي ليس له ظهير سياسي وليس له شعبية، معتبرًا “الرضوخ في القرار إشارة للتسليم والضعف”.
حظرت السلطات المصرية بيع السترات الصفراء خوفًا من اندلاع مظاهرات مشابهة لحراك السترات الصفراء الجاري منذ عدة أسابيع في فرنسا
وقبل عدة أسابيع من الذكرى الثامنة لثورة 25 يناير/كانون الثاني التي أطاحت بحكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 2011، حظرت السلطات المصرية بيع السترات الصفراء خوفًا من اندلاع مظاهرات مشابهة لحراك السترات الصفراء الجاري منذ عدة أسابيع في فرنسا، كما قال عدد من بائعي منتجات حماية العاملين في مصر لوكالة “أسوشيتد برس”.
وأيًا كانت النتائج فإن مستقبل الرئيس الفرنسي بعد هذه الأزمة لن يكون كما كان سابقًا، وبحسب استطلاع “yougov“، فإن شعبية ماكرون ورئيس الوزراء الفرنسي شهدت انخفاضًا ملحوظًا في الأيام الأخيرة، مقابل ظهور حركة ليس لها هيكل تنظيمي أو قائد أو متحدث والانتساب إليها سهل فقط “ارتدِ سترة صفراء وانزل إلى الشارع”.