يقول الكاتب البريطاني إليوت كراوشاي وليامز: “أي إنسان يولع بعالم الطبيعة والبشر، يتملكه شوقُ مفعمُ بالقلق لدراسته، وقضاء جُل وقته كمراقب لحركة الحياة الزاخرة، وأن يعيش ويرى ويتعلم ويعرف ويشعر فقط، وعندما يسافر يصبح مواطنًا فقط في هذا العالم يتمتع بحرية بحاره وغاباته وصحاريه الرملية وشوارعه المضطربة، ويقضي حياته متأمّلًا مزاياه المتعددة سابرًا أسراره التي لا حصر لها”.
سنسافر اليوم معًا إلى مدينةٍ بألف لون وألف وجه، مدينة طاغية الجمال والأنوثة، أحبّها أهل السودان جميعًا بمختلف مشاربهم وأعراقهم وثقافاتهم المتنوعة، كما كانت الملاذ المفضل للجاليات الأجنبية التي استوطنت على مرّ التاريخ في أرض النيلين، فالزائر للمدينة الجميلة التي ترقد على ساحل البحر الأحمر تذهله كورنيشاتها وشاليهاتها العتيقة والباهرة إلى جانب القهاوي التقليدية والحديثة المنتشرة على مد البصر في لوحة فخمة نادرة الوجود.
بورتسودان ..ثغر السودان الباسم
إنها بورتسودان، المدينة التي اشتهرت بعدة أسماء من بينها عروس البحر الأحمر وثغر السودان الباسم، واحدة من أجمل المدن السودانية لوقوعها المتاخم لساحل البحر الأحمر على ارتفاع 6 أقدام فوق سطح البحر، وتبعد عن العاصمة الخرطوم نحو 700 كيلومتر وبها الميناء البحري الرئيس في السودان.
تقع المدينة على هضبةٍ ساحليةٍ تنحدر من جهة الغرب نحو الشرق، عرضها 60 كيلومترًا تقريبًا على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتتكون من صخور رسوبية سطحية في الجزء الشرقي وكثبان رملية ثابتة في الغرب والجنوب الغربي
المنطقة التي عليها الآن عاصمة ولاية البحر الأحمر “بورتسودان”، كانت قديمًا عبارة عن مرسى تقليدي عرفت باسم مرسى الشيخ برؤوت، وتم تحويله إلى ميناء بحري حديث خلال فترة الاستعمار الإنجليزي للسودان وتم تغيير الاسم حينها إلى بورتسودان، وهو لفظ يعنى “ميناء السودان” أسوة بالموانئ الأخرى التي كانت تحت سيطرة المستعمر البريطاني في ذلك الوقت، تم انشاؤها في العام 1909 بافتتاح أول ميناء حديث أنشأه البريطانيون في السودان مربوطًا بخطٍّ حديديّ ومزود بمرافق خدمية وسكن للعاملين.
وتقع المدينة على هضبةٍ ساحليةٍ تنحدر من جهة الغرب نحو الشرق، عرضها 60 كيلومترًا تقريبًا على الساحل الغربي للبحر الأحمر، وتتكون من صخور رسوبية سطحية في الجزء الشرقي وكثبان رملية ثابتة في الغرب والجنوب الغربي، وتتخللها مجارٍ في شكل أودية وخيران (جمع خور) تتدرج من التلال في غرب المدينة نحو ساحل البحر، أهمها خور موج وخور كلاب اللذان يمتلآن بالمياه في موسم الأمطار ويصبان في البحر الأحمر، وهناك خليج طبيعي طوله نحو 6 كيلومترات وعرضه كيلومتران ونصف، يفصل المدينة إلى جزأين شرقي وغربي، وهو الذي يقوم عليه الميناء، بينما يجري خور موج الذي يصب فيه من غرب المدينة نحو جنوبها.
صورة جوية لمدينة بورتسودان
تنوع وسلام اجتماعي
تعتبر بورتسودان واحدة من المدن السودانية التي تتنوع فيها التركيبة السكانية، وأشهر القبائل السودانية التي تقطن المدينة هم البجا والهدندوة والبني عامر سكانها الأصليين الذين استوطنوا مناطق شرق السودان منذ عصور قديمة، ويُقال إنهم ينتسبون إلى كوش بن حام، واشتهروا منذ القدم بأنهم محاربون أشداء صدّروا الذهب من بلادهم إلى مصر خلال العصور الفرعونية، والبجا قوم رحل يرعون الإبل وغيرها من البهائم.
وبالإضافة إلى البجا، توجد في بورتسودان كل القبائل السودانية التي جذبتها روح المدينة وحركتها الاقتصادية المزدهرة نسبة لوجود الميناء الضخم، وقيل إن من يأتي إلى بورتسودان لن يخرج منها، واستقطبت منذ القدم الهنود والإغريق والبرابرة والأقباط فأصبحوا من سكانها ومواطنيها، ولذا تعيش في حالة فريدة من الأمن والسلام الاجتماعي قلّ أن تجده في منطقة شرق إفريقيا التي استفحلت فيها الصراعات ذات الطابع العرقي.
مناخ البحر المتوسط يجعلها وجهة مفضلة للسياحة الشتوية
في ظاهرة فريدة من نوعها بالمنطقة الواقعة جنوب الصحراء، تتمتع بورتسودان بمناخ البحر الأبيض المتوسط المعروف بحرارة وجفاف الصيف وبرودة الشتاء المطير، إلا أن تأثير هذا المناخ لا يمتد كثيرًا داخل ولاية البحر الأحمر إذ يقتصر على السهل الساحلي الذي تقع فيه المدينة ويتميز فضلًا عن ذلك بارتفاع درجة الرطوبة في أثناء الصيف بما يشبه مناخ دول الخليج.
لكن، شتاء بورتسودان في غاية الروعة، إذ لا تزيد درجة الحرارة فيه على 27 درجة مئوية، وتهطل معظم الأمطار في الفترة ما بين أكتوبر/تشرين الأول ويناير/كانون الثاني ويبلغ متوسط معدل هطول الأمطار السنوي 80 مليمترًا ولكن مع التغيرات المناخية الآخيرة أصبحت هذه الـ80 مليمترًا تهطل في يوم واحد أحيانًا، وفي كل الأحوال تستمر الأجواء المعتدلة في عاصمة البحر الأحمر حتى نهاية مارس/آذار.
رغم الهدوء الظاهر على عروس البحر الأحمر نهارًا، تجدها عامرة بالحركة والأنشطة الترفيهية خاصةً على سواحلها مساءً
ويسهل الوصول إلى بورتسودان من العاصمة الخرطوم عن طريق الطيران الداخلي أو برحلات النقل البري، كما ترتبط المدينة بخطوط طيران مباشرة مع عدد من مدن العالم إذ يستقبل مطارها الدولي رحلاتٍ من دبي عبر الناقلة الاقتصادية “فلاي دبي”، وبجدة عن طريق الخطوط السعودية، وبسودانير التي تربط بورتسودان بالقاهرة، وهناك رحلات غير منتظمة تربط المدينة بالعاصمة الإرترية أسمرة، وهناك مساعٍ لتشغيل خط مباشر بين بورتسودان ومدينة إسطنبول التركية بعد النقلة التي شهدتها علاقات السودان مع أنقرة مؤخرًا وزيارة الرئيس التركي أردوغان إلى جزيرة سواكن القريبة من بورتسودان.
قهوة فريدة من نوعها
لا شك أن زائر مدينة بورتسودان يلاحظ من الوهلة الأولى كثرة المقاهي الشعبية والحديثة، فبائعو القهوة منتشرون على الطرقات وعلى طول كورنيش البحر، ومن المؤكد أن مذاق قهوة البجا من أفضل ما يمكن أن يتذوقه زائر المدينة، وتتميز القهوة التي يسمونها محليًا “الجَبَنة” برائحتها المعبقة المُضاف إليها التوابل القوية، ومما يزيد سحرها الطقوس التي تصاحب إعدادها وشربها خاصة رائحة البخور التي تنتشر في أرجاء المكان، وتزداد الأجواء شاعرية وجمالًا مع صوت المغني البجاوي وهو ينطلق مدندنًا من آلات التسجيل أو الراديو، والقهوة (الجبنة) بالفناجيل وليس بالأكواب من أساسيات الحياة في بورتسودان ولا يبدأ اليوم إلا بتناولها صباحًا وعدة مرات خلال فترتي الظهيرة والمساء، ومن فرط عشق السكان للقهوة أقاموا لها مجسمًا تذكاريًا ضخمًا في قلب المدينة.
مجسم القهوة في بورتسودان
ورغم الهدوء الظاهر على عروس البحر الأحمر نهارًا، تجدها عامرة بالحركة والأنشطة الترفيهية خاصةً على سواحلها مساءً، وتكثر على الشواطئ الأندية والأماكن الترفيهية التي تجذب الأسر والأفراد، وتُقام فيها الحفلات والملتقيات الاجتماعية ويزداد جمال تلك الملتقيات في الأمسيات الشتوية مع أضواء السفن المارة تتلألأ من على بعد.
منتجعات سياحية عالمية بدعم من محمد طاهر إيلا
ارتبطت نهضة بورتسودان بوالي البحر الأحمر الأسبق محمد طاهر إيلا ، الذي قاد ثورة تطويرية في مجال النظافة والبنية التحتية حتى تغيّرت معالم المدينة وأصبحت قبلة للسياحة المحلية والعالمية خاصة في مثل هذه الأيام من العام حيث تعيش أجواء جميلة منعشة لا تتوفر في أي مدينة سودانية أخرى، لذا تمكنت بورتسودان من إطاحة كسلا الولاية الشرقية الثانية في السودان التي كانت الوجهة المفضلة للسياح المحليين، فمع النهضة التي تبنّاها إيلا وتشجيعه للسياحة، أصبحت بورتسودان المدينة الأولى بلا منازع لطالبي الراحة والاستجمام، خاصة مع ارتفاع تكلفة التنزه خارج السودان وكثيرًا ما تتوافد الآلاف من الأسر السودانية لعاصمة البحر الأحمر لأجل قضاء عطلة رأس السنة الميلادية هناك حيث ترتفع أسعار الشقق الفندقية بصورة غير مسبوقة خلال تلك الفترة.
كورنيش بورتسودان
والقادم إلى المدينة يحسب لأول وهلة أنه في أحد المنتجعات السياحية العالمية بفضل الجهود التي بذلتها السلطات المحلية في تهيئة البيئة والبنية التحتية، واستغلال الموارد السياحية التي أتاحتها الطبيعة في المنطقة، إذ إن ولاية البحر الأحمر عمومًا تتميز بالكثير من الجوانب الجاذبة ما يجعل تعدد البرامج وتنوعها عاملًا مهمًا في استقطاب السياح ليس من السودانيين فحسب، بل من كل أقطار العالم إذا ما وجدت تسويقًا مناسبًا.
أهم المنتجعات السياحية في بورتسودان :
شاليهات الرقبة: تقع إلى الشمال من مدينة بورتسودان على بعد 17 كيلومترًا منها بمساحة ضخمة، ويتكون المشروع السياحي من 1000 شاليه يتم بناؤهم وتشغليهم بواسطة شركة متخصصة في إدارة وتشغيل المنتجعات السياحية.
قرية عروس: تتكون من أربعة منتجعات سياحية وفندق خمسة نجوم، و10% من مساحة المشروع تم حجزها للطرق الداخلية، والمنطقة محاطة بخليج طبيعي من الجانبين الجنوبي والشرقي وبها شاطئ للغوص.
تشتهر بورتسودان بمنتجعاتها الخلابة
منتجع إيمان: أسسته سيدة سودانية منذ العام 2005، يقع في الكيلو 27 على الطريق الساحلي لبورتسودان، روّجت لمشروعها بكل اللغات ونجحت في اجتذاب مئات السياح والزوار، من مختلف أنحاء العالم.
منتجع جبل السِّت: يقع بمنطقة أركويت السياحية بالقرب من بورتسودان، ويعد واحدًا من أجمل منتجعات ولاية البحر الأحمر.
منتجع أمواج: يتميز بأنه قريب من جامعة البحر الأحمر جنوب شرق بورتسودان على ساحل البحر الأحمر مباشرة.
وإذا تأمّل الزائر سواحل بورتسودان يجد أنها تحتوي على 12 خليجًا تصلح جميعها لرياضة الغطس والتصوير تحت الماء ومشاهدة الأحياء البحرية المختلفة، وما يزيد ذلك جمالًا وبهجةً، الشعب المرجانية النادرة، إلى جانب هدوء الأمواج وتناسُب درجات الحرارة بين السطح والأعماق إلى جانب الجزر التي تعتبر مقصدًا للسياح الأجانب، وتمتلك شواطئ البحر الأحمر في بورتسودان ميزة أخرى هي وجود الأحياء المائية نادرة الأنواع ومنها أسماك القرش والدلافين والأسماك الملونة التي لا تجدها إلا في ثغر السودان الباسم.
الشعب المرجانية والأسماك الملونة التي تشتهر بها سواحل بورتسودان
أشياء لا تفوتك عند زيارة عروس البحر الأحمر:
1- التمتع بالطقس الجميل وهطول الأمطار في فترة الشتاء من أكتوبر/ تشرين الأول حتى فبراير/شباط.
2- المشى على الكورنيش واقتناء أصداف البحر بسعر زهيد.
3- وأنت في بورتسودان لا تنسَ تناول الوجبات البحرية الطازجة، عليك زيارة سوق السمك في منطقة (سلبونا) أو ردهة مطاعم السمك والجمبري بشاطئ “السقالة”، لتجربة وجبة من المأكولات البحرية مثل سمك البياض أو القُشر أو أبوجبة وتحديدًا نوصيك بأطيبهم الذي يحمل اسم الناجل.
4- استمتع بشرب الجَبَنة (القهوة) على طريقة أهل بورتسودان وخاصة على الواجهة البحرية.
5- المنتجعات التي سبق ذكرها كلها جميلة ورائعة، لكن إذا فضّلت الإقامة بداخل المدينة في أحد الفنادق المتوسطة فلا يفوتك قضاء يوم في منتجع إيمان أو قرية عروس أو أي من باقي المنتجعات لتعش تجربة فريدة من نوعها في الهدوء وراحة البال بعيدًا عن صخب المدينة.
إنسان شرق السودان يتمسّك بالزي الوطني وهو السديري والعرّاقي ويحمل السيف والخنجر دليلًا على الفراسة والرجولة
6- إن لم تكن من محبي الأسماك وكنت تحب اللحوم الحمراء ستجد مبتغاك في بورتسودان، فقط اسأل من منطقة المدينة عرب، هناك يمكنك اختيار قطع اللحم التي تريدها وسيتم شوائها أمامك مباشرة على الجمر.
7- ما دمنا على ذكر الأكل ننصحك بتجربة وجبة “المُخبازة” المحلية التي تصنع من الفطيرة والسمن والعسل والموز والطحنية، لكنها دسمة جدًا وخطرة على مرضى السكر، إذا كنت تعاني من زيادة في معدله لا تخاطر بتناولها مطلقًا.
8- ستلاحظ أن إنسان شرق السودان يتمسّك بالزي الوطني وهو السديري والعرّاقي ويحمل السيف والخنجر دليلًا على الفراسة والرجولة، كما ترتدي النساء الثوب التقليدي الذي يشبه الساري الهندي، ويحمل مواصفات الجمال، والمادة المصنوع منها الثوب باردة، كما أن بعض النساء يلبسن الزمام.
9- عليك أيضًا، القيام برحلة بحرية عن طريق اللنشات الصغيرة، فلن تكتشف جمال البحر الأحمر إلا بهذه الرحلة حيث ينظم أصحاب اللنشات رحلاتٍ منتظمة مقابل تكلفة مالية زهيدة.
10- استمتع بجمال المدينة وطيبة أهلها وبساطتهم وهي المعاني التي خلّدها كثير من الفنانين والشعراء في أغانيهم وأجمل من جسّد هذه الأحاسيس، الفنان حيدر بورتسودان في رائعته الشهيرة “عروس البحر” التي يقول فيها:
عروس البحر يا حورية
يا بورتسودان يا حنية
من قلبي التايه في حبك
أهدي سلامي وألف تحية
يا شوق الفرحة النشوانة
يا أماسي الحب الشرقية
لرقصة رشيقة (بجاوية)
لغنوة حزينة (سواكنية)
لعيون أحبابنا الحلوين
لليالي الفرح الوردية
لدروبك في الحب نديانة
تخضر لحظات رائعة هنية
والبحر الهايم في ريدك
يرسم خديك بحنية
يا ثغر البهجة بذكراك
مالية حياتي وجوة عينيا
يا عروس البحر يا حورية
يا بورتسودان يا حنية
من قلبي التايه في حبك
أهدي سلامي وألف تحية