“رضينا بالهم لكن الهم مش راضي بينا”.. بهذا المثل الشعبي استهلت فاطمة ذات الـ60 عامًا حديثها معلقة على حذف اسمها من قوائم المستحقين لمعاش “تكافل وكرامة” دون إبداء أسباب، ورغم تواضع قيمة هذا المعاش التي لا تتجاوز 400 جنيه (22.28 دولار)، فإن الكثير قد رتب نفسه وحياته عليه.
لم تتوقع فاطمة ابنة محافظة الشرقية (شرق القاهرة) أن يأتي اليوم الذي تشعر فيه بأنها باتت عالة على المجتمع، هكذا أضافت بصوت يخنقه الألم، حيث لا دخل ثابت يسد رمقها وحفيدتها ذات العشرة أعوام التي فارقت والدتها الحياة إثر ولادتها بساعات، لتجد نفسها فجأة خارج دائرة اهتمامات الدولة بصورة كاملة في الوقت الذي تخطط فيه حكومة بلادها لرفع الدعم نهائيًا بداية العام القادم.
ورغم المبالغ الهزيلة التي يتقاضاها المستحقون لمثل هذا المعاش التي لا تضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الآدمية الكريمة، فبانقطاعها باتت فاطمة ومعها ملايين غيرها على أبواب السقوط في فوهة بركان الجوع والعوز، ليأخذ سرطان الفقر مساره التصاعدي في نهش جسد المجتمع المصري بصورة لم يشهدها منذ عقود طويلة.
تساؤلات عدة فرضت نفسها عن دوافع إلغاء معاش التضامن الذي كان يضم قاعدة جماهيرية أكبر، واستبداله بمعاش آخر أقل قيمة منه
تكافل وكرامة
أقرت الدولة المصرية منذ ستينيات القرن الماضي ما سمي بـ”المعاش” وهو عبارة عن راتب شهري يتقاضاه الفقراء والمحتاجين، تطور في مسماه من معاش ناصر إلى السادات ومنه مبارك وصولاً إلى معاش “التضامن الاجتماعي” الذي ظل حتى قبل ثلاث سنوات قبل أن يتم إلغاؤه واستبداله بما سمي “تكافل وكرامة”.
تبلغ قيمة الدعم المقدم لمعاش “تكافل” 325 جنيهًا في الشهر، بالإضافة إلى 60 جنيهًا لطفل المرحلة الابتدائية، و80 جنيهًا لطالب المرحلة الإعدادية و100 جنيه للمرحلة الثانوية وكان يصرف سابقًا بشكل تراكمي كل 3 أشهر عن طريق الأم، شرط استمرار الأبناء في المدرسة وتلقيهم خدمات صحية، إلا أنه بعد قرار تعويم الجنيه في نوفمبر الماضي بدأت الحكومة في صرفه شهريًا.
أما برنامج “كرامة” فهو عبارة عن مساعدات نقدية شهرية، بمبلغ 350 جنيهًا لكبار السن، فوق 65 عامًا، ولمن لديهم عجز كلي أو إعاقة، ولا يستطيعون العمل، أو ليس لديهم دخل ثابت، وبعد قرار تعويم العملة المحلية في 2016 رفعت الحكومة المصرية قيمة معاش كرامة مئة جنيه، فيما رفعت القيمة المحددة لكل طفل في معاش تكافل بواقع 20 جنيهًا لكل طفل.
تساؤلات عدة فرضت نفسها بشأن دوافع إلغاء معاش التضامن الذي كان يضم قاعدة جماهيرية أكبر، واستبداله بمعاش آخر أقل قيمة منه، غير أن الغالبية العظمى ذهبت إلى أن كل نظام يسعى لأن ينسب لنفسه إنجازًا يزيد من شعبيته عند الفقراء ومحدودي الدخل وهم الشريحة الأكبر في المجتمع المصري.
وزيرة التضامن الاجتماعي، غادة والي
صرخات مدوية
رغم نفي المركز الإعلامي لمجلس الوزراء ما تردد بشأن حذف واستبعاد عشرات الأسر من معاش تكافل وكرامة، وما يحدث ليس أكثر من مراجعات وتقييمات، فإن شهادة الكثير من ضحايا تلك المجزرة كذبت هذا النفي مؤكدة أن عملية الحذف طالت بعضهم دون معرفة أسباب ذلك حتى الآن.
محمود، فلاح في العقد الخامس من عمره، من محافظة الدقهلية (شمال شرق القاهرة)، يقول: زوجتي تعاني من السرطان منذ 5 سنوات تقريبًا، وتقدمت لمشروع تكافل بعدما تم إلغاء معاشات التضامن الاجتماعي، وبالفعل صرفوا لي معاشًا قدره (500 جنيه) واستمرينا على هذا الوضع حتى يوليو الماضي”.
يتابع محمود في حديثه لـ”نون بوست”: “لكنني فوجئت وأنا ذاهب لصرف معاش يوليو أن بطاقتي الذكية لا تعمل، وحين سألتهم، أخبروني أنه ليس لديهم علم بالمشكلة، ثم توجهت إلى الإدارة التابع لها معاشي، فأخبروني كذلك أنهم لا يعرفون السبب، ومنذ هذا الوقت وأنا بين الإدارة والمديرية بالمنصورة، وأخيرًا عرفت عن طريق أحد الموظفين أنهم يستكملون بعض الأوراق والثبوتات والقيام ببعض المراجعات التي تستهدف حذف غير المستحقين”.
“أخشى أن يمر الوقت وتنقضي الشهور والسنين وأنا في هذه الدائرة دون أن أحصل على معاشي الذي لا أملك غيره حتى الآن، فكالعادة عودتنا الحكومة أن دائرة استكمال الأوراق ليس لها نهاية”، هكذا أكمل الفلاح المصري صرخته، مطالبًا المسؤولين بالاستماع لهم ومناقشة شكواهم.
أما عمر الطفل الذي لم يتجاوز 5 أعوام، فيتقاضى راتبًا شهريًا قدره 65 جنيهًا (14 دولارًا)، هكذا أشارت والدته، التي أكدت أنها سعت كثيرًا لأجل زيادة قيمة هذا المعاش غير أن رد المسؤولين كان “احمدي ربنا”.
تقول أم عمر لـ”نون بوست”: “حين توفي زوجي في 2014 كنا نتقاضى أنا وعمر معاشًا قدره 550 جنيهًا، لكن بعد زواجي فوجئت بتقليص قيمة المعاش إلى 65 جنيهًا، متسائلة : ماذا يمكن أن يفعل هذا المبلغ مع طفل يحتاج إلى طعام ودواء وكساء؟ وتابعت: أخشى أن أتركه للشارع فيتحول إلى متسول أو بلطجي.
تقدر أموال الصناديق المخصصة للمعاشات في مصر بمبلغ 700 مليار جنيه، 17 مليار منها مخصص لمعاش تكافل وكرامة، تحصل عليه 2.2 مليون أسرة بقيمة تتراوح بين 360 : 450 جنيه شهريًا
تلاعب وتزوير
حتى أموال الفقراء لم تسلم من التلاعب والفساد والسرقة، هذا ما أكده حامد، مدير إحدى المدارس الثانوية، حين أراد استكمال أوراق معاش تكافل لأرملة من قريته بمحافظة الغربية (غرب القاهرة).
حامد في حديثه لـ”نون بوست” كشف أن بعض الموظفين طلبوا منه رشوة من أجل إتمام أوراق الأرملة، وحين رفض بدعوى أن من حقها الحصول على هذا المعاش رفضوا الطلب بحجة عدم استكمال الثبوتات، وأعادوه مرات ومرات دون جدوى حتى الآن، كاشفًا: “المرأة طلبت مني أن أعطيهم الرشوة لإتمام الورق لكني رفضت وأخبرتها أن تتحرك بنفسها أو تكلف أحد غيري”.
من الواضح أن ما تعرض له حامد لم يكن موقفا شخصيًا، بل ظاهرة عامة، وهو ما أكدته الدكتورة غادة والي، وزيرة التضامن الاجتماعي، عبر تصريحات لها بأن الوزارة حولت أكثر من 50 موظفًا إلى النيابة العامة بسبب المخالفات والتلاعب في الأوراق، بالإضافة إلى معاقبة عدد من الموطنين الذين قدموا بيانات مزورة وغير صحيحة.
تصريحات والي جاءت ردًا على طلب الإحاطة الذي عرضه النائب مجدي ملك بأن هناك تلاعبًا من موظفي الوزارة في معاش تكافل وكرامة وأنه يمتلك فيديو يرصد موظفًا يتقاضى رشوة من مواطن من أجل المعاش.
حذف عشرات الأسر من معاش تكافل وكرامة
غير دستوري
أثارت الأنباء المتداولة عن حذف بعض الأسر من معاش تكافل وكرامة الجدل داخل الشارع المصري ما دفع بعض أعضاء مجلس النواب تقديم طلبات إحاطة للحكومة للاستفسار عن حقيقة ما يتردد، حيث أشار النائب ثروت بخيت، عضو لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية في مجلس النواب وأمين سر لجنة القيم، أنه من الجانب الدستوري لا يجوز إيقاف برنامج “تكافل وكرامة” الذي يأتي ضمن برامج المعاشات الاستثنائية التي تتبناها مصر لتخفيف العبء عن الفقراء ومن لا يملكون دخولًا شهرية ثابتة.
النائب أضاف في تصريحاته أن ما يحدث هو تنقية لمستحقي المعاش، لافتًا أن أعدادًا كبيرة من قاطني المدن في الصعيد يمتلكون حيازات زراعية ضمن جداول الحاصلين على المعاش، الأمر الذي تطلب مراجعة للمنظومة ككل في طريق وصول الدعم لمستحقيه إذ قدرت آخر إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أعداد المواطنين تحت الفقر بأكثر من 30 مليون مواطن.
وتقدر أموال الصناديق المخصصة للمعاشات في مصر بمبلغ 700 مليار جنيه، 17 مليار منها مخصص لمعاش تكافل وكرامة، تحصل عليه 2.2 مليون أسرة بقيمة تتراوح بين 360 : 450 جنيه شهريًا، ومن المفترض أن يصل عدد مستحقي معاش التضامن الاجتماعي في الموازنة العامة للعام الحالي إلى 3.5 مليون أسرة.
هذا الوضع قد يدفع الكثير إلى البحث عن حلول فورية وسريعة، بصرف النظر عن شرعيتها وقانونيتها، منها زيادة نسب التسول وارتفاع معدلات الجريمة وتفشي الأمراض المجتمعية في الشارع المصري
24 مليون فقير.. ما مصيرهم؟
بحسب وزيرة التضامن الاجتماعي فإن عدد أفراد الأسر المسجلة على قواعد بيانات برنامج تكافل وكرامة، بلغ 24 مليون و835.418 ألف، فيما يقدر عدد الأسر المستفيدة حتى الآن مليونين و213.219 ألف أسرة، 62% من الأميين، وهو ما يدفع للتساؤل عن مصير باقي المسجلين هذا إن كانت الحكومة تفكر في تقليص العدد وحذف شرائح من المستفيدين وفق شهادات بعضهم.
الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، حذر من تداعيات مثل هذه الإجراءات والسياسات على المجتمع المصري واستقراره، لافتًا إلى أنه إذا كان عدد من هم دون خط الفقر الآن قرابة 30 مليون مصري وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن هذا العدد مرشح للتضاعف خلال الفترة المقبلة.
أستاذ علم الاجتماع لـ”نون بوست” كشف أن اتساع رقعة الفقر تمثل خطرًا محدقًا بمستقبل المصريين بصفة عامة، مبينًا أن هذا الوضع قد يدفع الكثير إلى البحث عن حلول فورية وسريعة، بصرف النظر عن شرعيتها وقانونيتها، منها زيادة نسب التسول وارتفاع معدلات الجريمة وتفشي الأمراض المجتمعية في الشارع المصري.
وتوقع صادق تصاعد منحنى الفقر ليواصل دهسه لشرائح أخرى من المصريين خلال الفترات القادمة حال استمر الوضع على ما هو عليه، داعيًا إلى الاستفادة من التجارب الإقليمية والدولية المحيطة بمصر، تجنبًا للوصول إلى مرحلة يصبح الرجوع فيها دربًا من دروب المستحيل.