لسنواتٍ طويلة، اعتادت بعض المنصات الإعلامية إبراز الجانب المشرق فقط من الحياة في اليابان، مما أدى إلى خلق حالة من الهوس بهذه البلاد البعيدة، إلا أن القارئ أو المتابع الجيد للأخبار والتطورات العالمية يعي أنه على الضفة الأخرى تعاني اليابان من أزمات حادة على المستوى الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية لن تقيها تمامًا من بعض الثغرات التي قد تؤثر على صمودها الاقتصادي وصيتها الخارجي بين دول العالم ومنظماته في المستقبل، مثل نقص العمالة والشيخوخة السكانية وانخفاض عدد المواليد.
وحلًا لهذه المشكلات التي تزيد من الضغوطات المادية على الميزانية الحكومية وتهدد نموها الاقتصادي، سعت الحكومة إلى التركيز على تمكين المرأة في سوق العمل ورفع سن التقاعد واستخدام الذكاء الاصطناعي والروبوتات لملء النقص الذي فشلت بتعبئته في قطاعات البناء والزراعة والتشييد والرعاية، لكن من الواضح أن هذه البدائل لم تكن كافية لسد حاجتها.
وتبعًا لذلك فقد جاءت موافقة البرلمان الياباني الأخيرة على مشروع قانون لإصلاح نظام التأشيرات من أجل السماح بدخول مئات الآلاف من العمال المهاجرين والاستفادة من إمكاناتهم وخبراتهم، كدفعة جيدة للاقتصاد الياباني للاستمرار، علمًا بأن هذا المشروع تعرض للكثير من الانتقادات الشديدة والمعارضة القوية، من المجتمع الياباني والأحزاب السياسية المعارضة، ما يدفعنا إلى التساؤل عن أسباب هذا الرفض والتردد الدائم في استقبال الأجانب والحذر المبالغ في إدماجهم بالمجتمع.
الأجانب في اليابان.. آفاق مهنية غير واضحة وشروط صارمة
تلخص بيانات الإحصاءات الرسمية علاقة اليابان بالأجانب، إذ تبين الأرقام أن اليابان واحدة من أكثر الدول الغنية في العالم التي لا تتعدى فيها نسبة الأجانب 2%، أي نحو 1.3 مليون أجنبي في بلد يبلغ عدد سكانه 127 مليون، وذلك مقارنة مع أكثر من 20% في المملكة المتحدة و16% في فرنسا أو 1.4 مليون أجنبي في سنغافورة التي يبلغ عدد سكانها تقريبًا 5.6 مليون نسمة، وامتدادًا لهذه الصورة الواقعية تأثر اللاجئين بهذه السياسة فلم تستضف اليابان سوى أعداد معدودة من اللاجئين، فقد استقبلت 20 لاجئًا فقط من بين 20 ألف متقدم عام 2017.
يشكل الأجانب 1.4% من القوة العاملة مقارنة مع 5% في معظم الاقتصادات المتقدمة حول العالم، وذلك بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي
تدلنا هذه الأرقام على مدى حساسية هذه الدولة من الوجود الأجنبي وانغلاقها فكريًا وسياسيًا على هذه المسألة، إذ يرى العديد من أعضاء مجلس الشيوخ الياباني أن تبني سياسة الهجرة “سيترك اليابان في حالة يرثى لها”، فقد صرح رئيس الوزراء شينزو آبي، العام الماضي أن حكومته “لا تنوي تخفيف سياسة الهجرة الصارمة في البلاد” رغم جميع التحذيرات والتداعيات التي تنتظرها بسبب تقلص عدد السكان، ولكنهم في نفس الوقت يقبلون العمال الأجانب ذوي المهارات العالية والقادرين على المساهمة في اقتصاد اليابان وبنيته التحتية، حيث يشكل الأجانب 1.4% من القوى العاملة مقارنة مع 5% في معظم الاقتصادات المتقدمة حول العالم، وذلك بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي.
وهو ما أكد عليه أمين مجلس الوزراء يوشيهيد سوجا، حيث قال: “لا توجد سياسة للهجرة، وإنما خطة لاستغلال المهارات الأجنبية”، وبصرف النظر عن الألفاظ ودلالتها، فمن الواضح أن الحكومة تحاول أن تمتص أي موجة غضب لميلها إلى اللاجئين في السنوات الأخيرة بسبب حاجتها إلى قوى عاملة وفاعلة، ومع ذلك، أصرت الحكومة على تنفيذ هذه الخطة ضمن قيود صارمة مثل اختيارها للعاملين من إندونيسيا والفلبين وفيتنام بشكل خاص وعدم اعترافها بالتدريبات السابقة في مجال الرعاية الصحية وإجبار العاملين على تعلم اللغة اليابانية وعدم إحضار أسرهم معهم والعودة إلى بلادهم فور استقالتهم أو انتهاء مدة إقامتهم.
“لا توجد سياسة للهجرة في اليابان، وإنما خطة لاستغلال المهارات الأجنبية”، وبصرف النظر عن الألفاظ ودلالتها، فمن الواضح أن الحكومة تحاول أن تمتص أي موجة غضب لميلها إلى اللاجئين في السنوات الأخيرة بسبب حاجتها إلى قوى عاملة وفاعلة
علمًا بأن اليابان سبق واستقبلت أعدادًا كبيرة من العمالة الأجنبية في أزماتها الكارثية مثل الركود الاقتصادي وحادثة تسونامي وغيرها من الكوارث الطبيعية، ما ساعد على زيادة أعداد العمال الأجانب بنسبة 40% منذ عام 2013، وكان الصينيون ويليهم الفيتناميون والفلبينيون والبرازيليون من أوائل المختارين للعمل لديها، وذلك رغم الآفاق المهنية غير الواضحة، وهبوط عملتها المحلية (الين)، مقارنة مع الدولار الأمريكي بنسبة 40% منذ عام 2012.
لماذا تعد اليابان أقل دول العالم ترحيبًا بالأجانب؟
تتنوع أسباب هذا الموقف ما بين السياسة ومصالحها والتخوفات الاجتماعية التي تنظر إلى الأجنبي على أنه تهديد مباشر لتجانسها الثقافي والعرقي واستقرارها السياسي والاجتماعي الذي تتباهى به، وفي بعض الأحيان قد تفسر هذه النظرة على أنها تمييز وعنصرية ضد اللاجئين، إلا أن تاريخ هذه البلاد قد يغير نظرتنا لأحكامهم الاجتماعية والسياسية.
ففي حوار خاص لـ”نون بوست” مع جمانة خليل، وهي أجنبية مقيمة في اليابان قالت: “جاءت هذه النظرة من فترة سيطرة “الشيوغون توكوغاوا” على البلاد، وهي الفترة التي بقت فيها اليابان معزولة عن العالم بشكل تام، لم تكن تصدر أو تستورد من الدول الأخرى ولم تدخل عملات أو منتجات أو لغات أجنبية على أرضها لمدة 4 آلاف عام تقريبًا”.
البُعد الجغرافي عزز هذا الميول والانغلاق التجاري والسياسي ما أثر تلقائيًا على التركيبة المجتمعية والثقافية لدى الشعب الياباني، وساهم في خلق نسخة موحدة منهم ما جعلهم من أكثر الشعوب نقاءً من الناحية العرقية
مشيرةً إلى أن البُعد الجغرافي عزز هذا الميول والانغلاق التجاري والسياسي ما أثر تلقائيًا على التركيبة المجتمعية والثقافية لدى الشعب الياباني، وساهم في خلق نسخة موحدة منهم ما جعلهم من أكثر الشعوب نقاءً من الناحية العرقية، فهم لا يتشابهون بالمظهر الخارجي فقط، بل يتكلمون ويتصرفون ويتفاعلون بطريقة واحدة، وهذا على العكس من الدول والشعوب الأخرى التي تضم عرقيات وجنسيات وثقافات مختلفة داخل تركيبتها المجتمعية الواحدة.
جدير بالذكر أن اليابانيين حافظوا على هذا التشابه والتجانس إيمانًا منهم بمبدأ المساواة مع أبناء بلدهم وإلغاءً لمفاهيم الطبقية والتكبر في مظاهر حياتهم وسلوكياتهم اليومية، ولكن هذه القيم اتخذت طابعًا متطرفًا نوعًا ما ومنعتهم من استيعاب الأجانب والتعامل مع اختلافاتهم، فهم يرفضون الزواج من غيرهم ولا يحبذون إعطاء الجنسية اليابانية كذلك للأجانب، على أساس أنه يهدد حالة الاستقرار الذين وصلوا إليها ويشوه نقاءهم العرقي والثقافي.
وفي حال استطاع الأجنبي مطابقة شروط الجنسية، تجبره السلطات على التخلي عن جواز سفره الأصلي لأنهم لا يسمحون بالجنسية المزدوجة (أن تكون يابانيًا وأمريكًا على سبيل المثال)، وإنما يابانيًا فقط.
وتضيف “أمضيت 5 سنوات في اليابان ولم ألحظ إطلاقًا أي تصرفات عنصرية خاصةً أنني مسلمة ومحجبة، ولكن هذا لا يعني عدم وجود بعض التمييز والحواجز، فهم يذكرونك دومًا بأنك مختلفًا عنهم وأن هناك حواجز لا يمكن كسرها أو التقرب منها”، وتشير إلى أنها لم تنجح إلى الآن بأن تقيم علاقة عميقة وودية معهم، إذ تبقى العلاقات معهم سطحية للغاية وتسير بوتيرة بطيئة وحذرة للغاية، في محاولة منهم للحفاظ على أنفسهم وهويتهم من التدخلات والتغيرات الثقافية الغريبة عنهم، ولذلك تعد مسألة الاندماج معهم أمرًا معقدًا.
تبقى العلاقات معهم سطحية للغاية وتسير بوتيرة بطيئة وحذرة للغاية، في محاولة منهم للحفاظ على أنفسهم وهويتهم من التدخلات والتغيرات الثقافية الغريبة عنهم، ولذلك تعد مسألة الاندماج معهم أمرًا معقدًا
في النهاية تشير إلى أن تجربتهم مع المهاجرين الصينيين لم تكن جيدة جدًا، إذ يخترق بعض الصينيين قوانينهم ما ساعد في زيادة خوفهم من الجنسيات الأخرى التي قد تزعزع استقرارهم وتخل بأعرافهم وخاصة أنهم شعب خلوق وأمين جدًا وينعم باستقرار سياسي واجتماعي إلى أبعد حد، ولا تتعدى تفاعلهم مع الأجانب سوى تجربة المطاعم الأجنبية أو حضور بعض الفعاليات الثقافية ليس أكثر، ما يدلل على حذرهم الشديد من الأجانب.
في جانب آخر، أشارت تقارير عدة أن الأجانب في اليابان يعانون بشكل كبير من مشكلة استئجار منزل، إذ قد يضع بعض مالكي ووكلاء العقارات لافتات تفيد بأن المستأجرين الأجانب غير مرحب بهم، فوفقًا لمسح حديث أجرته وزارة العدل عن حياة الأجانب في اليابان، بينت الإحصاءات أن نحو 40% من الأجانب الذين بحثوا عن مسكن خلال السنوات الماضية تعرضوا للرفض مرارًا، و39.3% منهم حرموا من الاستئجار لأنهم ليسوا يابانيين، في المقابل أجري استطلاع رأي آخر لأعضاء رابطة إدارة العقارات اليابانية، قال إن 60% منهم كانوا مترددين في قبول المستأجرين الأجانب ورفض أكثر من 16% طلباتهم.
أجري استطلاع رأي آخر لأعضاء رابطة إدارة العقارات اليابانية، قال إن 60% منهم كانوا مترددين في قبول المستأجرين الأجانب ورفض أكثر من 16% طلباتهم
وبحسب التفسيرات المتداولة، فإن ذلك يعود إلى خوف مالكي العقارات من الحواجز اللغوية وتصرفات الأجانب واحتمالية اختراقهم للقواعد المحلية المتعلقة بأمور النظافة والإزعاج، وفي حال تم الموافقة على طلب المستأجرين الأجانب، فيتم طلب إيداعات مضاعفة وأولية، إضافة إلى أوراق إضافية وكفيل ياباني، ما يزيد العبء على الأجنبي.
وإلى ذلك، يساعدنا تاريخ اليابان وموقعها الجغرافي على استيعاب النزعة القومية لدى شعبها وتردد حكومتها في استقبال المهاجرين وإبقائهم تحت ضغوط شروطها الصارمة التي تمنع كلا الطرفين من الاندماج مع الآخر، لكن من الواضح أن الظروف الاقتصادية ستقلب المعادلة وتعيد تشكيل الموقف السياسي على الأقل تجاه هذه المسألة في سبيل إنقاذ اقتصادها من الانكماش المستمر والنمو المنخفض.