أفرجت السلطات التونسية قبل ثلاثة أيام، عن القيادي السابق في حركة نداء تونس برهان بسيس، عقب حصوله على عفو رئاسي خاص، عفو اعتبره البعض محاولة من الرئيس الباجي قائد السبسي لاستمالة خصوم رئيس الحكومة يوسف الشاهد لصفه في معركته المتواصلة معه، ما من شأنه أن يشرع لثقافة الإفلات من العقاب في البلاد.
عفو خاص
الإفراج عن المستشار السياسي السابق لحركة “نداء تونس” برهان بسيس، جاء بعد أن قضى أقل من شهرين ونصف في السجن المدني بالمرناقية، في قضية تتعلق بالفساد والحصول على منافع وامتيازات عينية دون وجه قانوني زمن حكم الرئيس المخلوع بن علي.
وتم القبض على بسيس، يوم الـ2 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، على مستوى محطة تونس البحرية بتونس العاصمة، بعد ساعات قليلة من تأييد الدائرة الجنائية بمحكمة الاستئناف بتونس، الحكم الابتدائي القاضي بسجنه عامين مع النفاذ من أجل تهمة استغلال موظف عمومي لصفته لتحقيق فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره ومخالفته التراتيب الجاري بها العمل والإضرار بالإدارة فيما يعرف بقضية صوتيتال.
وكانت المحكمة الابتدائية في ولاية أريانة قد حكمت على بسيس بداية شهر فبراير/شباط الماضي بالسجن لمدة عامين، إثر ثبوت انتفاعه بمبلغ مالي قدره 198 ألف دينار من شركة الاتصالات “صوتيتال” التي ألحق بها في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، بتعليمات من الأخير، من دون أن يمارس فيها أي عمل فعلي.
طالبت منظمة “أنا يقظ”، لجنة العفو ووزارة العدل بإصدار توضيح عن حيثيات هذا القرار
جاء الإفراج عن بسيس، بناءً على تمتيعه بعفو رئاسي خاص بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، يقضي بالإفراج عنه من السجن بعد تقديم مطلب عفو لرئاسة الجمهورية منذ قرابة الشهر ونصف أي تقريبًا أي منذ دخوله السجن.
ومنحت الفصول من 371 إلى 375 من مجلة الإجراءات الجزائية لرئيس الجمهورية حق منح العفو الخاص لفائدة المحكوم عليهم، وعادة ما يصدر رئيس الجمهورية العفو الخاص في الأعياد الوطنية والدينية، وإن كان حق العفو الخاص يمارسه رئيس الجمهورية، فهو لا يتم أصالة إلا عبر وزارة العدل وتحديدًا لجنة العفو بها، إذ تقوم هذه اللجنة بإعداد قائمة من المحكوم عليهم وتقدم تقريرها لوزير العدل الذي يرفع بدوره القائمة إلى رئيس الجمهورية الذي يبقى صاحب القرار الأخير.
السبسي عراب الإفلات من العقاب
لم يمر قرار السبسي بالعفو عن بسيس مرور الكرام، فقد أحدث جدلاً كبيرًا في تونس، حيث شككت منظمة “أنا يقظ” وهي منظمة شبابية تسعى لتكريس الشفافية وحق النفاذ إلى المعلومة، بالإضافة إلى مراقبة مردود المسؤولين السامين في الدولة، في “مسار الإفراج عن بسيس الذي يعتبر رمزًا من رموز النظام السابق”.
وشككت المنظمة في أن “يكون قد تم احترام الشروط القانونية المضمنة بمجلة الإجراءات الجزائية التي اعتادت وزارة العدل اعتمادها في دراسة ملفات المساجين في ملف العفو الخاص عن برهان بسيس”، مؤكدة عدم استغرابها صدور هكذا قرارات من القائمين على مؤسسة الرئاسة الذين دأبوا على تكريس ثقافة الإفلات من العقاب، وخاصة “رئيس الجمهورية الذي يمثل جزءًا من طبقة سياسية ما زالت لم تستوعب بعد ثماني سنوات من ثورة الحرية والكرامة روح هذه الثورة وأسباب اندلاعها”، وفق نص البيان الصادر عنها.
المنظمة عددت ممارسات الرئاسة المكرسة لثقافة الإفلات من العقاب، ابتداءً من اقتراح قانون المصالحة وتمريره، وأيضًا استقبال الرئيس السبسي لأبرز رموز النظام السابق الضالعين في الفساد أو حتى تعيينهم للعمل في ديوانه وكذلك إصدار عفو استثنائي على مقاس سليم الرياحي في قضايا شيكات دون رصيد في يوليو/حزيران الماضي.
وطالبت “أنا يقظ”، لجنة العفو ووزارة العدل بإصدار توضيح عن حيثيات هذا القرار، معتبرة إياه مساسًا من هيبة القضاء ودولة القانون، ومساسًا بمبدأ الفصل بين السلطات، محملة “رئاسة الجمهورية – المؤسسة الضامنة لعلوية القانون واحترام الدستور – مسؤولية ما يمكن أن ينجر عن هذا الإجراء من تكريس لثقافة للإفلات من العقاب”.
ويعتبر بسيس اليد اليمنى لنجل الرئيس ومدافعًا شرسًا عن خيارات السبسي الابن في خصوماته داخل الحزب وخارجه، حيث تكفل بدور الناطق الرسمي لحافظ أكثر من مرة، وقد خاض بسيس منذ تاريخ تاريخ التحاقه بالنداء في شهر مارس/آذار 2017، معارك عدة مع المستقلين من الحزب ما جعله عرضة للعديد من الهجمات.
توظيف سياسي لصلاحيات الرئيس
الإفراج عن أحد رموز نظام بن علي برهان بسيس من السجن بعفو رئاسي دون سواه من السجناء الآخرين، لا يعد وفقًا لبعض المتابعين للشأن العام في تونس إلا توظيفًا سياسيًا لصلاحيات الرئيس في الصراع القائم بين قصرين قرطاج والقصبة، خاصة أن سرعة القبض على بسيس جاءت بناء على تعليمات من القصبة.
وقبل القبض عليه بفترة قصيرة، عرف بسيس بتصريحاته الحادة المنتقدة لحكومة يوسف الشاهد، والمطالبة بضرورة إقالته واستبعاده عن قصر القصبة لفشله في تسيير الحكومة وتسببه في تعميق الأزمة التي تعيشها تونس منذ سنوات على العديد من الأصعدة.
وتعرف تونس، مؤخرًا، أزمة سياسية عميقة نتيجة الحرب الدائرة بين يوسف الشاهد والسبسي ونجله حافظ اللذين يصران على رحيل الشاهد بدعوى إخفاقه في إنعاش الاقتصاد المنهك ووصول المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات “كارثية”، وهو ما ينفيه الشاهد متهمًا السبسي الابن بتهديد النموذج المجتمعي لتونس.
ويدين العديد من التونسيين استعمال رئاسة الجمهورية صلاحياتها للانتقام من الخصوم السياسيين وتصفية الحسابات، عوض استعمالها في بناء البلاد والرقي بها، كون ذلك يقوض سلطة الدولة وسمعتها لدى غالبية الشعب، وهو ما يعتبر خطرًا على الانتقال الديمقراطي الذي تشهده تونس منذ يناير 2011.
أظهر سبر آراء تصدر رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة
يسعى السبسي الأب إلى تسجيل نقاط في مرمى الشاهد، خاصة بعد الضربات الأخيرة التي تلقاها من رئيس الحكومة الشاب، وتقول تقارير إعلامية إن السبسي طلب مؤخرًا تكوين لجنة تحقيق مستقلة عن القضاء لتحقق في أمر التنظيم السري لحزب النهضة، وهو ما رفضه الشاهد.
وتقول ذات التقارير، إن السبسي طلب أيضًا إنشاء جهاز استخبارات جديد، فاستعان يوسف الشاهد بوزير داخليته هشام الفراتي الذي لم ير فائدة في ذلك فانتهى الطلب إلى النسيان، وطلب ثالثًا تعديلاً سريعًا في الدستور يوسع صلاحيات الرئيس فتعلل الشاهد بأن المسلك القانوني للتعديل لا يمر بالحكومة بل له شروطه البرلمانية، فأسقط في يد الرئيس وناور أخيرًا بعدم تمديد حالة الطوارئ لكن وزيرا الداخلية والدفاع وافقا رئيس الحكومة على ضرورة التمديد.
الفصل 21 من الدستور التونسي :
المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات ، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز
تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريّات الفردية والعامّة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم .#يوسف_الشاهد#الإعلان_العالمي_لحقوق_الإنسان #HumanRightsDay— Youssef Chahed (@YoCh_Official) December 10, 2018
في انتقاد “مبطن” لقرار العفو على بسيس، دون رئيس الحكومة يوسف الشاهد على صفحته في موقع “تويتر”، “الفصل 21 من الدستور التونسي: المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز، تضمن الدولة للمواطنين والمواطنات الحقوق والحريات الفردية والعامة وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم”.
السبسي يخشى الزوال
هذه الأعمال التي دأب الرئيس التونسي الباجي قائد سبسي القيام بها في الفترة الأخيرة، تبين حجم التخبط الذي أصبح عليه الرجل البالغ من العمر 92 سنة، فخروج يوسف الشاهد عن طوعه أفقده الكثير من قوته التي كان يتمتع بها إلى وقت قريب.
وزاد فك النهضة ارتباطها به، وفك التوافق معه والتوافق مع يوسف الشاهد وفريقه الجديد، في أزمة السبسي وتضيق الخناق عليه، لذلك اعتمد في الفترة الأخيرة مبدأ حرب الكل ضد الكل، فإما أن تكون معي أو أن تكون ضدي.
ويخشى السبسي من أن يزول نجمه ويخفت صوته ويفقد جاهه، مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في خريف السنة المقبلة، وهو الشخص الذي تعود على الأمر وما على السامع إلا السمع والطاعة، دون استفسار أو طلب توضيح.
الشاهد يتصدر نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية القادمة
وأظهر سبر آراء أجرته مؤسسة سيغما كونساي لشهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بالتعاون مع جريدة المغرب، تصدر رئيس الحكومة الحاليّ يوسف الشاهد نوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية المقبلة بـ17.9%، فيما حل السبسي في المرتبة الثانية بـ15.4% ثم أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد بـ14.8%.
كما تصدرت حركة النهضة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ راشد الغنوشي، نوايا التصويت بالانتخابات التشريعية القادمة، بنسبة 36.1% تليها حركة نداء تونس بنسبة 29.8% ثم الجبهة الشعبية بنسبة 6.7%، وتمتلك حركة النهضة حاليًّا أغلبية مقاعد البرلمان التونسي بـ68 مقعدًا.
ويعيب عديد من التونسيين، انتصار السبسي الأب لنجله حافظ على مبدأ استقرار الحكومة، وتفضيله مصالح ابنه الشخصية الضيقة، ولو على مصلحة البلاد العليا، واصطفافه إلى جانب المطالبين برحيل الحكومة، رغم يقينه أن ذلك سيكلف البلاد عواقب كبيرة هي في غنى عنها.