في شهر مارس/آذار الماضي، تقدمت كل من تركيا وأذربيجان وكازاخستان بطلب إلى منظمة اليونسكو، لإدراج كتاب “داده كوركوت” إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي لعام 2019، وخلال الاجتماع الـ13، للجنة الحكومية الدولية لصون التراث غير المادي، التابعة لمنظمة اليونسكو، الذي عُقد في الـ28 من الشهر الماضي، أُدرج الكتاب بإجماع اللجنة إلى قائمة التراث الثقافي غير المادي في العالم.
ملحمة شعبية للأتراك “ما قبل العثمانيين”
يعد كتاب “داده كوركوت” (بالعربية: الجَدّ كوركوت) من أقدم كتب الحكايات الشعبية التي تعبر عن قيم وعادات وتقاليد قبائل أتراك الأوغوز في أواسط آسيا وشرق الأناضول، ما بين القرنين الـ12 والـ14، ويخمّن المختصون في تاريخ الأدب التركي، أنه منذ منتصف القرن الـ15، تم البدء في تدوين تلك الحكايات.
يعتبر كثير من الباحثين أن ملحمة كوركوت تعد من أبرز الملاحم التي تركت آثارًا كبيرة على الوجدان الاجتماعي للأمة التركية
يتألف الكتاب من اثنتي عشرة حكاية، كُتبت بلغة بسيطة وساحرة في نفس الوقت، وهي أقرب ما تكون إلى اللغة التركية الأذرية، والحوار بين أبطالها على هيئة شِعْرٍ منظوم، وحتى النثر داخل الحكايات يحمل إيقاعه الخاص، وهي ملحمة تجمع بين السوسيولوجي والتاريخ والأدب، ورغم أن حكاياتها أسطورية، فإنها تعكس روح عصرها بشكل كبير.
إلى جانب تناول عادات وتقاليد قبائل الأوغوز، تتطرق الحكايات أيضًا إلى معتقداتهم ونظرتهم إلى العالم وعلاقاتهم فيما بينهم ومع القبائل المجاورة، وهناك أكثر من إشارة داخل الملحمة إلى أن الإسلام وصل إلى أتراك الأوغوز آنذاك، حيث يقوم بعض الأبطال بالوضوء والصلاة ركعتين قبل الذهاب إلى الحرب.
ويعتبر كثير من الباحثين أن ملحمة كوركوت تعد من أبرز الملاحم التي تركت آثارًا كبيرة على الوجدان الاجتماعي للأمة التركية، حتى إن البروفيسور التركي فؤاد كوبرولو، الخبير بهذا الكتاب، قال: “لو وُضِع الأدب التركي بأجمعه في كفة الميزان، ووضع كتاب “داده كوركوت” في الكفة الأخرى لرجحت كفة الكتاب”.
كوركوت البطل الملحمي
بطل هذه الحكايات هو “داده كوركوت” الشخصية الملحميّة الغامضة، فالمعلومات التاريخية عنه مغلّفة بأساطير عدة، ولا يُعرف تاريخ محدد لميلاد كوركوت، لكنه شخصية شبه مقدسة بالنسبة لأتراك الأوغوز، حيث تتناول الأساطير المتداولة بينهم أن يوم مولده كان يومًا غير عادي، وكذلك يوم وفاته.
ونظرًا لطبيعة حياته الأسطورية، لم يخل الحديث عن حياته من المبالغات، بشأن قدراته الخارقة وضخامة بنيانه، كما اختلف الباحثون أيضًا في عدد السنوات التي عاشها كوركوت، حتى قِيل في إحدى الروايات أنه عاش 295 سنة، وأنه مبعوثًا من النبي محمد.
أعطى كوركوت للغناء أبعادًا فلسفية، حيث حملت أغانيه حكمًا وأمثالاً شعبية، وامتد هذا التقليد في الثقافة التركية حتى يومنا هذا، فيما يُعرف بغناء “العشّاق الجوّالون”، الذين يعتبرون داده كوركوت جدّهم الأكبر
لكن هناك ما يشبه الإجماع من الباحثين أنه كان رجلاً حكيمًا، يقرأ للمحاربين الأدعية قبل ذهابهم إلى الحرب ويحكي لهم حكايات دينية، وهو الحد الفيصل في كل المشاكل التي تواجهها قبائل الأوغوز، ولا يبدأ أحد عملاً دون استشارته، وكل ما يقوله يتم التسليم به، وكوركوت يلتزم بكلامه أيضًا ويفي به.
يكون كوركوت أحيانًا البطل الأساسي للحكاية، وأحيانًا أخرى يكون هناك أبطال آخرون مثل ديرسهان وبوغاتشهان من الرجال، وباغني تشيشيك وبورلا هاتون من النساء، وفي هذه الحالة يأتي كوركوت كحكيم في نهاية الحكاية، يعظ الناس وهو يعزف على “الكوبوز”، وهي آلة موسيقية بثلاثة أوتار، أوجدها كوركوت نفسه، وهي أصغر من آلة “الساز”، وظل الشعراء الشعبيون في الأناضول يستخدمون “الكوبوز” حتى القرن السادس عشر.
على جانب آخر، أعطى كوركوت للغناء أبعادًا فلسفية، حيث حملت أغانيه حكمًا وأمثالاً شعبية، وامتد هذا التقليد في الثقافة التركية حتى يومنا هذا، فيما يُعرف بغناء “العشّاق الجوّالون”، الذين يعتبرون داده كوركوت جدّهم الأكبر.
كتابة ملحمة “داده كوركوت”
تاريخ اكتشاف ملحمة “داده كوركوت”
عُثر على النسخة الأولى من الكتاب في مدينة درسدن الألمانية، وقد كتب المستشرق الألماني هنريك فريدريك مقالة تعريفية بالكتاب عام 1815، وتحتوي هذه النسخة على اثنتي عشرة حكاية، النسخة الثانية عثر عليها المستشرق الإيطالي إرتوري روسي في منتصف القرن العشرين بالفاتيكان، وتختلف عن نسخة درسدن بأنها تضم ست حكايات فقط، وهي أيضًا باللغة التركية الأذرية مثل النسخة الألمانية.
وكانت الترجمة الأولى لنسخة درسدن إلى اللغة التركية على يد رفعت بيلجه الكيليسلي عام 1916، كما تُرجم الكتاب بعد ذلك إلى عدة لغات، من بينها الإيطالية والإنجليزية والألمانية والروسية والصربية، وقد لاقت الملحمة اهتمامًا كبيرًا من الباحثين والمترجمين الأتراك الذين عملوا على ترجمة وتحقيق النسختين، ويعد محرم أرجين من أبرز الأسماء التركية التي عملت على تحقيق نسختي الكتاب داخل الحقل الأكاديمي.
مقاييس التدرج الاجتماعي وصورة المرأة في الملحمة
جميع حكايات داده كوركوت تحمل رسائل تحث قبائل الأوغوز على فعل الخير والاستقامة والرشاد والتوحيد والصدق والوفاء بالوعد، وتتناول الحكاية الأولى والثانية عشرة صراع قبائل الأوغوز فيما بينهم، والحكاية الخامسة والثامنة عن الصراع مع القوى الغيبيّة، أما بقية الحكايات فتتعرض إلى صراع قبائل الأوغوز مع القبائل المجاورة.
وينبغي الانتباه إلى المرحلة الزمنية التي شهدت ظهور كوركوت بشخصيته الأسطورية، حيث جاء في مرحلة انتقال هذه القبائل من مرحلة المشاعيّة القائمة على الصراع على الماء والكلأ والتهديد الدائم بالغزو من القبائل الأخرى إلى مرحلة بدايات الاستيطان وتشكيل نواة الدولة.
ملحمة “داده كوركوت” تطلّعت مبكرًا إلى مسألة تقييم دور المرأة في المجتمع، فالمرأة في الملحمة تكاد تكون حقوقها متساوية تمامًا مع الرجل وليست تابعة له
ولعب الحكيم كوركوت بشخصيته الروحانية، دورًا مهمًا في الحفاظ على هيكليّة قبائل الأوغوز كقوة اجتماعية متماسكة، وكان سببًا في تهدئة صراع المرحلة المشاعية في توزيع الثروات، حيث جعل مقاييس التدرج الاجتماعي لأبطال حكاياته قائمة على الشجاعة والفروسية والذكاء وتحمُّل الأعباء وليس بالسُلطة والتَميُّز الطبقي والوراثي.
كما يجب الإشارة أخيرًا إلى أن ملحمة “داده كوركوت” تطلّعت مبكرًا إلى مسألة تقييم دور المرأة في المجتمع، فالمرأة في الملحمة تكاد تكون حقوقها متساوية تمامًا مع الرجل وليست تابعة له، يتجلى ذلك في اختيار شخصيات نسائية لدور البطولة في بعض الحكايات، ومشاورة المرأة في جميع الأمور حتى إذا كانت أمورًا تتعلق بمستقبل هذه القبائل، بالإضافة إلى مشاركتها في الحرب وركوب الخيل والخروج إلى الصيد، فالمرأة في ملحمة “داده كوركوت” ليست مجرد مصدر لإشباع شهوات الرجل.