“أبقى أنا عارف إنه كان حرامي وأجيبه هنا وأسكت، دا ربنا يحاسبني، أنه كان فاسد وأسيبه؟ مش أنتوا اللي تحاسبوني.. ربنا، ويقول لي: سكت إزاي؟”، هكذا انفعل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال جلسة الرد على الأسئلة التى وجهت إليه في مبادرة “اسأل الرئيس”، لكن التستر على حرامي فاسد إن صحت التهمة جريمة، ورفض المحاسبة من الشعب جريمة أكبر.
لا عجب إذًا أن مصر دولة فاسدة رسميًا، فهي تحتل المركز 117 بين دول العالم من حيث الشفافية، بينما “إسرائيل” دولة نظيفة على المقياس نفسه، وتوصي شرطتها قبل باتهام رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو رسميًا بالفساد، لكن كلا الدولتين يشاركان – بنسب محتلفة – في قيمة الرُشى والمبالغ المسروقة التي يخلِّفها فساد السلطة.
فاتورة الفساد
في أحدث تقرير عن الفساد حول العالم كشف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن قيمة الرُشى في كل عام تبلغ تريليون دولار، في حين تصل قيمة المبالغ المسروقة عن طريق الفساد هذا العام إلى نحو 2.5 تريليون دولار؛ أي ما يعادل 5% من الناتج المحلي العالمي تقريبًا، فيما تُقدَّر قيمة الفاقد في الدول النامية بسبب الفساد بـ10 أضعاف إجمالي مبلغ المساعدة الإنمائية المقدمة لهذه الدول.
بعض التقديرات تضع التكلفة الإجمالية للفساد بأكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كل عام
وتحت شعار “الفساد عائق لأهداف التنمية المستدامة”، احتفل العالم باليوم العالمي لمكافحة الفساد في 9 ديسمبر/ كانون الأول من كل عام، وفي اليوم نفسه، احتفل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، بالذكرى الـ15 لاعتماد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد “UNCAC” تحت شعار “الأمم المتحدة لمكافحة الفساد“.
وتعتبر اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد أول قرار قانوني لمكافحة الفساد، وجاء تتويجًا لجهود دولية متواصلة منذ إقرار الاتفاقية الأممية لمكافحة الفساد الصادرة في 1996، وهي اتفاقية دولية متعددة الأطراف تم اعتمادها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الأول 2003، ودخلت حيز النفاذ في ديسمبر عام 2005 بعدما وقَّعت عليها 140 دولة بينها 21 دولة عربية لمحاربة قوانين الفساد المعنية بالرشاوي والمخدرات والجريمة.
وحتى الآن يوجد تصديق “شبه عالمي” على الاتفاقية عقب توقيع 186 دولة حتى 26 يونيو 2018 على بنودها، ويوضح البرنامج الأممي أن أعدادًا متزايدة من الحكومات أصبحت تتبنى “قوانين أكثر صرامة” وتعزز أو تستحدث سياسات لمحاربة الفساد.
إن #الفساد ظاهرة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة تؤثر على جميع البلدان. فالفساد يقوض المؤسسات الديمقراطية ويبطئ التنمية الاقتصادية ويساهم في عدم الاستقرار الحكومي#متحدون_على_مكافحة_الفسادhttps://t.co/ZSUocFrBPG pic.twitter.com/aKN4lNAoIm
— الأمم المتحدة (@UNarabic) December 8, 2018
وبحسب البرنامج الأممي، فإن الفساد موجود في الدول الغنية والفقيرة على السواء، وإن كانت الأدلة تظهر أنه يضر بالفقراء بشكل أكبر، ويساهم في عدم الاستقرار والفقر، بالإضافة لكونه عاملاً مؤثرًا في قيادة الدول الهشة نحو الفشل الإداري.
وبعض التقديرات تضع التكلفة الإجمالية للفساد أكثر من 5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي كل عام، وذلك الرقم يصل إلى 2.6 تريليون دولار سنويًا، أو أكبر بنحو 19 مرة؛ أي نحو 138.8 مليار دولار تم إنفاقها على المساعدة الإنمائية الرسمية على الصعيد العالمي في عام 2013.
تحتل الدول العربية المرتبة الأكثر فسادًا – المصدر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
التصنيف الرسمي للعالم العربي: “فاسد”
العالم العربي كله “فاسد” إلا أقل القليل، حيث ينخر الفساد في عظامه من مفرق الرأس حتى إخمص القدم، ولا تزال الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ ممارسات يومية تنخر في النخاع الشوكي للمجتمعات العربية.
من بين 7 مليارات إنسان في العالم يعيش 6 مليارات تحت الفساد على مقياس من صفر “فاسد جدًا” إلى 100 “نظيف جدًا”
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أصدر المنتدى الاقتصادي العالمي مؤشر الفساد السنوي كجزء من ” تقرير التنافسية العالمي”، وجاءت غالبية البلدان الأكثر فسادًا، وفق التقرير، من إفريقيا وأمريكا الوسطى والشرق الأوسط، وخاصة المجتمعات ذات الأنظمة القانونية والحكومية الضعيفة والتي تعاني من الفقر.
وفي فبراير الماضي أفرجت منظمة الشفافية عن تقريرها الدولي، ووفق هذا التقرير، فإن العالم العربي على هذا المؤشر كله “فاسد” عدا دولتين هما الإمارات وقطر، ومن بين 180 دولة ثلثا دول العالم تقريبًا بين “فاسد” و”فاسد جدًا”.
وفي إطلالة على أهم نتائج هذا التقرير الذي يرصد مدى درجة فساد العرب، نجد أن دول مثل السعودية والمغرب “شبه فاسدة”، ومصر والجزائر “فاسدة”، والعراق وسوريا “فاسدة جدًا”، ووفق التقرير، فإن 6 دول من بين “أفسد” 10 دول حكوماتها مسلمة، 5 منها عربية.
ماليزيا افتتحت مؤخرًا نصبًا تذكاريا لمكافحة الفساد بحضور أمير قطر ورئيس الوزراء الماليزي
واعتمادًا على البيانات المتاحة يحكم المؤشر على ممارسات من بينها: الرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ، ومن بين 7 مليارات إنسان في العالم يعيش 6 مليارات تحت الفساد على مقياس من صفر “فاسد جدًا” إلى 100 “نظيف جدًا”.
وجاء في التقرير الدول الـ12 الأولى الأقل فسادًا عالميًا لعام 2018، اعتمادًا على مستوى الفساد وندرة الرشوة والمحسوبيات، وهي “ألمانيا والولايات المتحدة وهولندا والسويد وسنغافورة وكندا ولوكسمبورج وسويسرا والنرويج والدنمارك وفنلندا ونيوزلاندا”، ومن الملاحظ أنها خلت من أي دولة عربية.
أما الدول الـ12 الأولى الأكثر فسادًا عالميًا،، وكانت كالتالي: “العراق وفنزويلا وكوريا الشمالية وكينيا وغينيا الاستوائية وغينيا بيساو وليبيا والسودان واليمن وأفغانستان وسوريا وجنوب السودان والصومال”، ومعظم هذه الدول أفريقية، وتعد من الدول النامية.
الفساد بمعنى من المعاني كالسرطان، تأتي خلاياه الخبيثة على ما يجاورها من خلايا حمدية يومًا بعد يوم حتى ينهدم الجسد
وبالنسبة لترتيب الدول العربية من حيث درجة الشفافية، تصدرت الإمارات هذه الدول بدرجة “نظيفة جدًا” تليها قطر “نظيفة” والسعودية “شبه فاسدة”، بينما احتلت الأردن وعُمان وتونس والمغرب المركز الرابع بدرجة “شبه فاسدة”، أما الكويت والبحرين والجزائر ومصر لبنان وليبيا والعراق فجاء تصنيفها “فاسدة”، وتصدر اليمن وسوريا – حيث الحرب الأهلية والخارجية الطاحنة القائمة العالمية والعربية – أكثر الدول فسادًا.
إذًا، كل الدول العربية فاسدة عدا الإمارات وقطر، وهذا يتزامن مع توزيع جائزة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للتميز في مكافحة الفساد، التي فاز بها 8 أشخاص من مختلف أنحاء العالم لإسهاماتهم في 4 مجالات لمكافحة الفساد؛ هي إنجاز العمر، والبحث العلمي والأكاديمي، والجهد والانخراط الشبابي، والإبداع في مكافحة الفساد.
وفي أحدث تقرير دولي حصلت “إسرائيل” على 62 نقطة من 100 نقطة على مقياس الشفافية، وبهذا تحتل المركز 32 عالميًا هبوطًا من المركز 28 سابقًا، أي المركز الثالث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقط الإمارات وقطر أقل فسادًا من “إسرائيل” التي يواجه رئيس وزائها بنيامين نتنياهو في قضايا تتعلق بالفساد.
هل دفعت رشوة اليوم لقضاء مصلحة؟
الفساد بمعنى من المعاني كالسرطان، تأتي خلاياه الخبيثة على ما يجاورها من خلايا حمدية يومًا بعد يوم حتى ينهدم الجسد، فالأمر لا يتوقف على قضايا فساد كبرى تخص مسؤولين يستغلون النفوذ أو نخبة تقتات على الرشوة والمحسوبية، بل إنه يتمدد كي يصبح الفساد في إطاره ثقافة عامة.
وفق منظمة الشفافية الدولية، ثمة واحد على الأقل من بين كل 4 مواطنين حول العالم يقول إنه يُضطر إلى دفع رشوة لقضاء مصلحة
وتقدر منظمة الشفافية الدولية أنه في البلدان النامية وحدها، يتلقى المسؤولون الفاسدون رشاوى كل عام تصل إلى 40 مليار دولار، ونحو 40% من رجال الأعمال يدفعون الرشاوى عند التعامل مع مؤسسة عامة.
الأغلبية اُضطرت إلى دفع رشوة لقضاء مصلحة حتى أصبح ذلك هو المألوف والطبيعي، وربما يلخص هذا الرأي كثيرًا من الأراء حول العالم العربي، ووفق منظمة الشفافية الدولية، ثمة واحد على الأقل من بين كل 4 مواطنين حول العالم يقول إنه يُضطر إلى دفع رشوة لقضاء مصلحة.
أما عربيًا، فنسبة من يقولون إنهم يُضطرون إلى دفع رشوة لقضاء المصالح تصل إلى 77% في اليمن، و50% في مصر و48% في المغرب والسودان و9% في تونس و4% في الأردن.
ووفقًا لأقوالهم، فإن نسبة مدركات تغلغل الجهات الحكومية في الرشوة تصل إلى 36% في الجهات الأمنية (مثل الشرطة)، والنسبة نفسها في مجلس النواب، وأقل من هذه النسبة بـ1% مع مسؤولي الحكومي، أما الرؤساء ورؤساء الحكومة فتبلغ النسبة معهم 32%، والقضاء 30% ورجال الدين 18%.
وبحسب صندوق النقد الدولي، فإن “الفساد في القطاع العام يمتص نحو 1.5 إلى 2 تريليون دولار سنويًا، بما يمثل 2% من الناتج الإجمالي العالمي، والذي يتمثل معظمه في صورة رشاوى، فضلاً عن أنه يقلل من فرص النمو الاقتصادي في الدول التي تعاني من انكماش، ذلك في ظل فقد عائدات الضرائب واستمرار الفقر مما يعيق تحقيق زيادة في معدلات النمو.
منظمة الشفافية الدولية: “احرم المجتمع من منظمات المجتمع المدني وقم بمصادرة الصحافة والحريات ترفتع نسبة الفساد”
مكافحة الفساد.. “نحن لسنا في أوروبا”
لا تستطيع أعتى أنواع الدساتير والقوانين وحدها مكافحة الفساد في العالم، فثمة أدوات أخرى على أرض الواقع يظهر الفساد في حضورها وفي غيابها يترعرع، وفي أحدث تقرير لها تؤكد منظمة الشفافية الدولية على ملاحظة هامة، وهي أن مؤشر الفساد يتصاعد في تلك الدول التي يتراجع فيها مؤشر الحريات والصحافة والمجتمع المدني، وهذه كلها من أبرز أدوات الرقابة والمحاسبة.
“احرم المجتمع من منظمات المجتمع المدني وقم بمصادرة الصحافة والحريات ترفتع نسبة الفساد”، هكذا يستنتج أحدث تقارير منظمة الشفافية، فالصحافة والمجتمع المدني من أهم أدوات الرقابة والمحاسبة على الحكومة والمؤسسات العامة، في كل الدول التي وُجد أنها “فاسدة” أو “شبة فاسدة” وُجد أيضًا أنها تقمع أدوات الرقابة المستقلة.
يتضح ذلك في المقارنة بين أبرز دول عربية، وهي مصر، التي تحتل المركز 117 عالميًا من ناحية، ودولة أخرى في أوقيانوسيا، وهي نيوزلاندا، “أنظف” دولة في العالم من ناحية أخرى، لمقارنة يتضح لنا أُسس الفساد وأبرز أسباب الفجوة العميقة.
ففي مقابل مجتمع مدني مفتوح في نيوزلاندا، ووجود حريات مدنية تحظي باحترام الدولة عمليًا ونظريًا، تتمتع مصر بمجتمع مدني “مكبوت”، بحسب مؤشر سيفيكوس لحريات المجتمع المدني، وفي حين تحظى الحريات المدنية باحترام الدستور فإنها تُنتهك واقعيًا، ويؤثر هذا بدوره في فرص كشف الفساد في مؤسسات الدولة.
أما بالنسبة للتظاهر السلمي في نيوزلاندا، فهو حق يحميه الدستور والقانون والشرطة باستثناء التظاهر في البحر لأسباب أمنية، أما في مصر، فإن حق التظاهر السلمي يتلأثر سلبًا بتفسيرات القانون وممارسات الشرطة، ويصل الأمر أحيانًا إلى محاكمات عسكرية للمدنيين، بحسبب منظمة العفو الدولية “أمنستي”.
أما حرية الصحافة والإنترنت في نيوزلاندا فهي مطلقة في حدود الدستور والقانون نظريًا وعمليًا، أما في مصر فحرية الصحافة مقيدة بالمضايقات والاحتجاز والمحاكمات والسجن، وتراقب الأجهزة الأمنية مواقع التواصل الاجتماعي وتحجب مئات المواقع الإخبارية المحلية والخارجية، وهذا يعيق بدوره فرص كشف الفساد في مؤسسات الدولة عن طريق الوصول إلى المعلومة.
وفي حين أن تكوين الجمعيات الأهلية في نيوزلاندا حق يكفله ويحميه الدستور والقانون والسلطة التنفيذية، فإنه في مصر حق يكفله الدستور وتتحكم فيه أجهزة الأمن من خلال “قانون الجمعيات الأهلية“، الذي نجح في محو أي مشاركة حقيقية في المجتمع، بينما نجحت الجمعيات الأهلية في نيوزلاندا في الضغط على الحكومة لاستقبال اللاجئين.
ورغم وجود 40 ألف جمعية، إلا أن هذا القانون كان – بحسب منظمة العفو الدولية – ضربة كارثية للمجتمع المدني، ورغم أن الحريات وحقوق الإنسان يضعها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للبشر جميعًا إلا أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي له رأي آخر، ويقول أثناء وجوده في فرنسا: “نحن لسنا في أوروبا”.