في حال سألتَ الكثير ممّن حولك عن هدفه في الحياة أو الطريقة التي يرغب العيش فيها، لكان الجواب واضحًا وشبه متفقٍ عليه، أنْ أكونَ سعيدًا أو أنْ أجد السعادة أو أن أختار الخيارات التي تصبّ في طريق سعادتي، وهكذا. وعلى اختلاف التعريفات التي يمكن وضعها لمفهوم السعادة، إلا أنّه في كثير من الأحيان قد يُختزل في مفاهيم وتصوّرات معيّنة تُقصي غيرها ممَا يستحقّ الاهتمام به.
كما أنّ الكثير من النظريات الحديثة تعطي صورة أحادية الجانب، بل وناقصة للسعادة والرفاهية. في الواقع، يبدو أن ما تتناوله تلك النظريات فعليًا هو المذهب الساعي نحو تحقيق أقصى قدر من المتعة (التأثير الإيجابي) وتقليل الألم والمعاناة (تأثير سلبي). وهو ما يتماشى مع الرؤية الهيدونية لأريستيبس، الفيلسوف اليوناني الذي اعتقد أنّ هدف الحياة هو تجربة أقصى قدر من المتعة وأقل قدر من الألم.
لكنْ في اليونان القديمة كان ثمّة اعتقادًا مختلفًا ربّما سيكون من الأفضل لنا لو قمنا بتبنّيه بعيدًا عن الصورة الرومانسية للحياة والسعادة. إذ لم يعتقد الإغريق أبدًا أنّ الهدف من الحياة والمعنى المنطوي عليها يقتصر على تحقيق السعادة وحسب، فاقترحوا مصطلحًا أفضل لترجمتها بحيث يصحح النقص أو الفهم الخاطئ لذلك المصطلح. ومن هنا، جاء مصطلح يودايمونيا أو Eudaimonia، أي الازدهار الإنسانيّ أو التقدّم الأخلاقي.
يمكن النظر إلى يودايمونيا على أنها أي نظرية تضع السعادة الشخصية للفرد وحياته الكاملة في صميم الرقيّ الأخلاقي والخير البشريّ.
تُعتبر يودايمونيا حالة موضوعية غير ذاتية تتميز بحياة جيدة بغض النظر عن الحالة العاطفية للشخص الذي يعيشها. فأنتَ قد تكون يودايمونيًّا حتى في حال وجودك تحت ضغط المعاناة الجسدية أو الأعباء النفسية، لكنّك لن تصف نفسك بالسعيد في تلك الحالة، فمن الصعب أنْ تتحدّث عن كونك سعيدًا وسط معاناتك على سبيل المثال. وبمعنى أكثر عمومية، يمكن النظر إلى يودايمونيا على أنها أي نظرية تضع السعادة الشخصية للفرد وحياته الكاملة في صميم الرقيّ الأخلاقي والخير البشريّ.
أمّا أصل الكلمة “يودايمونيا” فهي اسم مجرد مشتق من “يو” وتعني “جيد” و”دايمون” والتي تشير إلى الآلهة الصغرى أو الأرواح الحارسة. وبذلك، يصبح المعنى الاصطلاحي الأقرب للكلمة أنّها حالة إيجابية مقدسة من الوجود والتي يستطيع البشر السعي نحوها والوصول إليها أحيانًا، أو تحقيق حالة من الوجود شبيهة بالإله الخيّر حيث الأخلاق والقيم. وبتعبيرٍ آخر، تشير يودايمونيا إلى تحقيق أفضل الظروف الممكنة للإنسان، ليس من خلال تحقيق السعادة وحسب، وإنما من خلال الفضيلة والأخلاق والمعنى والجدوى في الحياة.
وعلاوةً على ذلك، فإن “السعادة” تُعتبر عاطفة، في حين أن اليودايمونيا هي حالة أكثر شمولية تمتدّ للوجود والحياة بشكلٍ عام. ومن جهةٍ أخرى، فالسعادة هي شيء قد يخلقه الإنسان أو يخسره في أي لحظة، في حين أنّ اليودايمونيا تتطلب جهدًا كبيرًا لتحقيقها وبنائها والحفاظ عليها على مدىً طويل. كما أنّ السعادة تأتي من المتعة والتي من الممكن أن تكون أخلاقية أو لا أخلاقية كالسرقة أو الخداع. أما اليودايمونيا فلا تأتي من المتعة أو الاستمتاع وإنما تسعى إليها من خلال الأخلاق والفضيلة.
اليودايمونيا وعلم النفس
في حين كانت دراسة السعادة وما يتعلّق بها من أسئلة مقتصرة فقط على الفلسفة، إلا أنّ العديد من العلوم الحديثة أصبحت مهتمة بشكلٍ متزايد بتطوير هذا المفهوم. فقد استعانت العديد من نظريات علم النفس الحديث ولا سيّما علم النفس الإيجابي بمصطلح يودايمونيا في الوصول إلى تعريفات أساسية ومهمّة لسعادة الفرد، خاصة فيما يتعلّق بجوانب مثل الرفاهية الفردية والتحقيق الذاتيّ والشعور بالرضا والاستقلالية، والتي يمكن تحقيقها جميعًا من خلال الحياة الفاضلة المبنية على الأخلاق والقيم النبيلة.
تشير يودايمونيا إلى تحقيق أفضل الظروف الممكنة للإنسان، ليس من خلال السعادة وحسب، وإنما من خلال الفضيلة والأخلاق والمعنى والجدوى في الحياة
يرى علم النفس الإيجابيّ أنّنا من خلال مفهوم اليودايمونيا نستطيع أنْ نتوقّف عن تخيّل أنّنا نهدف إلى وجودٍ أو معيشةٍ خالية من الألم والمعاناة، أو أنّنا نكرّس طاقاتنا لتجنيب أنفسنا المزاجات السيئة والأعباء الحياتية. إذ يخبرنا الفلاسفة اليونانيّون من خلال هذا المصطلح أنّنا كبشر يجب أنْ نسعى لتحقيق الفضيلة والعدالة من خلال إمكانيّاتنا البشرية والعمل من خلال العديد من الطرق والأساليب لتحقيق ذواتنا وتحسين نوعنا من أجل الوصول إلى حالةٍ من السعادة المرجوّة.
وبدلًا من استخدام مفهوم السعادة، تركّز النظريات الحديثة على استخدام مفهوم “الرفاه النفسي” والذي يتمحور حول العديد من المكوّنات، فعلى سبيل المثال واحدة من النظريات تنظر للرفاه النفسي على أنه يتمحور حول قبول الذات أو التقييم الإيجابي للنفس والنموّ الذاتي والعلاقات الإيجابية مع الآخرين والاستقلالية في الحياة.
تتقارب اليودايمونيا بشكلٍ أو بآخر مع المفهوم الإسلامي للسعي في الحياة على الرغم من كدَرها وتعبها وصعوباتها.
من جهةٍ أخرى، تهتم نظرية التحديد الذاتي بالحاجات الأساسية الثلاثة التي تدعم وصول الفرد للرفاه النفسي؛ وهي حرية الاختيار أي أنْ الفرد مسؤولًا عن قراراته، والكفاءة أو اعتقاد الشخص بقدرته على القيام بأعماله ونشاطاته التي يرغب بأدائها، والارتباط أو الانتماء بالأشخاص الآخرين المحيطين بالشخص.
بالنهاية، تعلّمنا كلمة “يودايمونيا” الوثوق في أنّ العديد من المشاريع والأعمال القيّمة في الحياة على الرغم من ارتباطها بالألم والصعوبات إلا أنّها تستحقّ المتابعة والسعي للقيام بها وإنجازها، سواء إذا تعلّق الأمر بالدراسة أو بناء أسرة أو الحفاظ على علاقاتك أو وظيفتك أو إنشاء مشروعٍ جديد، أو المشاركة في الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الثقافية وغيرها. وهذا يتقارب بشكلٍ أو بآخر مع المفهوم الإسلامي للسعي في الحياة على الرغم من كدَرها وتعبها وصعوباتها.