بعد خطابه الذي ألقاه في إحدى لقاءات الأمم المتحدة إحياء لذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني فُصل البرفسور مارك لامونت هيل من وظيفته كمعلق لدى السي إن إن الأمر الذي ولد حواراً هائلاً حول حرية التعبير تجاوز القضية ذاتها ليطرح سؤالاً حول ما هو المشروع في نقد “إسرائيل” وما الذي يشكل معاداة للسامية. يشير استطلاع حديث أجرته جامعة ماريلاند إلى أن جوانب كثيرة من آراء الأستاذ هيل يشاركه فيها على نطاق واسع الكثيرون داخل الشعب الأمريكي – وأن هذه الآراء لا تعكس سلوكاً مناهضاً للسامية أو حتى معاديا لـ”إسرائيل”. من الواضح أنه يوجد بشأن هذه القضايا فجوة بين وسائل الإعلام والسياسيين الأمريكان من جهة والشعب الأمريكي من جهة أخرى.
وبينما أثيرت الكثير من القضايا بشأن هيل، كان الجزء الذي ناله أكبر قدر من النقد في خطابه هو دعوته إلى “فلسطين حرة من النهر إلى البحر”، والتي اعتبرها البعض دعوة إلى إنهاء “إسرائيل”. لكن هيل نفسه وضح مباشرة بعد ذلك تقريباً أن “إشارتي إلى النهر إلى البحر لم تكن دعوة إلى تدمير أي شيء أو أي أحد. وإنما كانت دعوة لإقامة العدل، داخل “إسرائيل” وفي الضفة الغربية وغزة على قدم وساق.” ثم أقر في مقال رأي كتبه بعد ذلك أن اللغة التي استخدمها ربما ساهمت في إعطاء انطباع خاطئ بأنه كان يدعو إلى ممارسة العنف ضد الشعب اليهودي – وقدم اعتذاراً عن ذلك.
ولكن لو تركنا الانطباع جانباً، هل تعتبر آراء البرفسور هيل استثنائية؟
القضية الأولى التي تؤخذ بالاعتبار هي الدعوة إلى حل الدولة الواحدة، دولة تقع ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط، يتمتع كل من يعيش فيها بحقوق مواطنة متساوية. مثل هذا الحل يهدد فعلياً وضع “إسرائيل” كدولة ذات أغلبية يهودية، حيث أنه من الممكن للعرب سريعاً أن يفوقوا اليهود عدداً داخل تلك البقعة من الأرض. والحقيقة أن هذا الحل يحظى بدعم كبير في أوساط الشعب الأمريكي، وذلك طبقاً لما كشف عنه الاستطلاع الذي أجرته جامعة ميريلاند بعنوان “القضايا الحرجة” بإشراف نيلسون سكاربوره. أجري الاستطلاع في شهري سبتمبر وأكتوبر (أيلول / تشرين الأول) في أوساط عينة من 2353 أمريكياً يمثلون البلاد بأسرها، بهامش خطأ لا يتجاوز 2 بالمائة. حينما سئلوا عن النتيجة التي يرغبون في أن تسعى إليها إدارة الرئيس دونالد ترامب من خلال التوسط في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بدا الأمريكيون منقسمين بين دولة واحدة بحقوق مواطنة متساوية ودولتين تتعايشان جنباً إلى جنب. قال 35 بالمائة إنهم يريدون حل الدولة الواحدة بينما قال 36 بالمائة إنهم يدعمون حل الدولتين. إلا أن أحد عشر بالمائة من المستطلعة آراؤهم يدعمون استمرار الاحتلال بينما يدعم ثمانية بالمائة ضم المناطق المحتلة مع منح من يعيشون فيها حقوق مواطنة متساوية. ضمن الفئة العمرية ما بين 18 و 34 عاماً، ترتفع نسبة من يدعمون حل الدولة الواحدة إلى 42 بالمائة.
كثير من الإسرائيليين والفلسطينيين، وكذلك كثيراً من الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، باتوا يعتقدون بأن حل الدولتين لم يعد ممكناً، وخاصة بالنظر إلى التمدد الهائل للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية
بالإضافة إلى ذلك، معظم من يدعمون حل الدولتين يميلون إلى اختيار حل الدولة الواحدة مع حقوق مواطنة متساوية فيما لو بات حل الدولتين غير ممكن. في المرة السابقة حينما طرح هذا السؤال في استطلاع جرى في نوفمبر من عام 2017، قال 55 بالمائة ممن يدعمون حل الدولتين إنهم سيغيرون موقفهم باتجاه دعم حل الدولة الواحدة في مثل تلك الظروف. تتعزز مثل هذه النتيجة بفضل آراء الأمريكيين بشأن موضوع الهوية اليهودية للدولة مقابل المنظومة الديمقراطية في “إسرائيل”. فيما لو لم يعد حل الدولتين ممكناً فإن 64 بالمائة من الأمريكيين سيفضلون ديمقراطية “إسرائيل”، حتى لو كان ذلك يعني أن “إسرائيل” لن تبقى من الناحية السياسية دولة يهودية، على يهودية “إسرائيل”، إذا كانت هذه الأخيرة تعني أن الفلسطينيين لن يحظوا بحقوق متساوية.
إذا ما أخذنا بالاعتبار أن كثيراً من الإسرائيليين والفلسطينيين، وكذلك كثيراً من الخبراء في شؤون الشرق الأوسط، باتوا يعتقدون بأن حل الدولتين لم يعد ممكناً، وخاصة بالنظر إلى التمدد الهائل للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، فليس من الصعب رؤية لماذا ينجذب مزيد من الناس نحو حل الدولة الواحدة – أو لماذا باتوا يرون أن المطالبة بحل الدولتين يشرعن الوضع القائم الجائر من خلال الوعد بشيء لم يعد وارداً تحقيقه.
ثانياً، بينما من المحتمل ألا يكون معظم الأمريكيين قد سمعوا بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (بي دي إس) التي يدعمها هيل، إلا أن استطلاعنا يبين أن عدداً ضخماً من الأمريكيين يدعمون فرض عقوبات أو إجراءات أكثر صرامة إذا ما استمرت “إسرائيل” في توسيع مستوطناتها داخل الضفة الغربية. يدعم أربعون بالمائة من الأمريكيين مثل هذه الإجراءات، بما في ذلك أغلبية من الديمقراطيين (56 بالمائة). يأتي ذلك في وقت يقترح فيه أعضاء مجلس الشيوخ، بما في ذلك الديمقراطيون منهم، وعلى الرغم من المعارضة المستمرة من قبل اتحاد الحقوق المدنية في أمريكا، نزع المشروعية عن، بل وتجريم، المقاطعة الطوعية لـ”إسرائيل” أو للمستوطنات من خلال قانون مناهضة مقاطعة “إسرائيل”، دونما تمييز بين المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والمستوطنات في “إسرائيل” نفسها.
من غير المفاجئ في أمريكا التي تعاني من الاستقطاب والخلافات السياسية العميقة أن يعرب الأمريكيون عن آراء منقسمة بحدة حول “إسرائيل” وفلسطين
ثالثاً، هنالك إحساس متنام بأن الحكومة الإسرائيلية لديها نفوذ كبير، أكثر من اللازم، على السياسة والسياسات في الولايات المتحدة. يقول 38 بالمائة من جميع الأمريكيين (بما في ذلك 55 بالمائة من الديمقراطيين، و 44 بالمائة ممن هم دون عمر الخامسة والثلاثين) إن الحكومة الإسرائيلية لديها نفوذ أكثر من اللازم على الحكومة الأمريكية، وذلك مقارنة بتسعة في المائة يقولون إن نفوذ الحكومة الإسرائيلية قليل جداً وثمانية وأربعين بالمائة يقولون إنها تحظى بالمستوى المناسب من النفوذ. وعلى الرغم من أن عدد اليهود المشاركين في الاستطلاع (115) قليل جداً بحيث يصعب التعميم بثقة، إلا أن الملاحظ أن أراءهم تقع ضمن الخطوط التي يرسمها التوجه العام على المستوى الوطني: سبعة وثلاثون بالمائة يقولون إن “إسرائيل” تمارس نفوذاً أكثر من اللازم، وأربعة وخمسون يقولون إنها تمارس المستوى الصحيح من النفوذ، بينما يقول سبعة بالمائة منهم إنها لا تمارس إلا نزراً يسيراً من النفوذ.
لا تشير هذه النتائج لا إلى ارتفاع في معاداة السامية ولا حتى ارتفاع في مشاعر العداء تجاه “إسرائيل”. وكما ظهر في تحليلات الاستطلاعات السابقة، كثير من هؤلاء الناس يعتنقون هذه الآراء بناء على رؤية مبدئية للعالم تؤكد على حقوق الإنسان والقانون الدولي.
علينا أن نتذكر أنه من غير المفاجئ في أمريكا التي تعاني من الاستقطاب والخلافات السياسية العميقة أن يعرب الأمريكيون عن آراء منقسمة بحدة حول “إسرائيل” وفلسطين. وما يعتبره البعض تصاعداً في العداء لـ”إسرائيل” داخل أوساط الديمقراطيين إنما هو توصيف خاطئ. بل تعكس هذه المواقف السخط الذي يشعر به الناس تجاه السياسات الإسرائيلية – وبشكل متزايد تجاه القيم التي تعتنقها الحكومة الإسرائيلية الحالية.
وفيما يتعلق بالسؤال حول ما إذا كان الأمريكيون يريدون من الإدارة الأمريكية الضغط على “إسرائيل” لصالح الفلسطينيين أو لصالح عدم الانحياز لأي من الطرفين، فثمة فرق شاسع بين الجمهوريين والديمقراطيين في الاستطلاع الجديد: بينما يرغب أغلبية من الجمهوريين في أن تضغط الإدارة لصالح “إسرائيل” (57 بالمائة) فإن الغالبية العظمى من الديمقراطيين (82 بالمائة) يريدون من الإدارة ألا تنحاز لهذا الطرف أو ذاك. ثمانية بالمائة يريدون من الإدارة أن تنحاز لصالح الفلسطينيين وسبعة بالمائة لصالح “إسرائيل”. وهنا أيضاً، يكون مجانباً للصواب اعتبار مطالبة الديمقراطيين بعدم الانحياز لطرف على طرف موقفاً عدائياً لـ”إسرائيل”.
تعتبر سلوكيات الأمريكيين تجاه اليهودية واليهود متعاطفة جداً
ليس مستغرباً على الإطلاق أن الديمقراطيين ليسوا مسرورين بالحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي يرون أنها ربطت نفسها بالحزب الجمهوري، وتدخلت في الكونغرس ضد رئيس ديمقراطي حول قضية حيوية تمس إيران، وعارض عدد كبير من وزرائها الهدف المفترض الوصول إليه من التفاوض مع الفلسطينيين، ألا وهو حل الدولتين للصراع. ثم هناك صدام واضح في القيم يتجاوز موضوع الاحتلال ليصل إلى صفة “إسرائيل” نفسها. ويذكر بهذا الصدد بشكل خاص الإجراء الأخير الذي أجيز بموجبه القانون الأساسي للدولة القومية، والذي يعرف “إسرائيل” على أنها دولة يهودية دون الإشارة إلى الديمقراطية، وبذلك أضفى حقوقاً خاصة على المواطنين اليهود وفضلهم على غير اليهود من المواطنين، ولقد نال هذا القانون الكثير من النقد بما في ذلك من قبل زعماء اليهود الأمريكيين.
ينبغي على الأمريكيين وعلى حكومة الولايات المتحدة القلق من أي معاداة حقيقية للسامية، وخاصة أنه ثمة ارتفاع موثق للحوادث المعادية للسامية. وما من شك في أن المذبحة التي ارتكبت في المعبد اليهودي في بيتسبره في شهر أكتوبر / تشرين الأول جادت لتذكر الجميع بأن الكلام يمكن أن تكون له تداعيات، وأن عهد ترامب حفز العنصريين من كل الأشكال ومكنهم وقواهم، بما في ذلك المعادون للسامية منهم. ولكن لا يوجد ما يثبت حدوث ارتفاع في عدد العنصريين، بل تشير الأدلة إلى أن رد الفعل على الخطاب العنصري في بعض الحالات ولد نتائج معاكسة. (على سبيل المثال، لقد تحسين السلوك تجاه الإسلام والمسلمين في عهد ترامب على الرغم من الخطاب المعادي للمسلمين.)
فيما يتعلق بالسلوك تجاه اليهود بشكل خاص، تعتبر سلوكيات الأمريكيين تجاه اليهودية واليهود متعاطفة جداً. ففي استطلاع للرأي أجري في شهر نوفمبر / تشرين الثاني من عام 2015، قال 81 بالمائة من الأمريكيين إن لديهم رأياً متعاطفاً تجاه الديانة اليهودية مقارنة بسبعة وثلاثين بالمائة قالوا إنهم متعاطفون تجاه الإسلام، وقال 89 بالمائة إن لديهم نظرة متعاطفة تجاه اليهود مقارنة بثلاثة وخمسين بالمائة قالوا إن نظرتهم متعاطفة تجاه المسلمين. وفي استطلاعنا الذي أجريناه في شهر يونيو / حزيران من عام 2016، سألنا إذا كان الأمريكيون سيصوتون لمرشحين من ديانات مختلفة. تسعة وستون بالمائة قالوا إنهم يمكن أن يصوتوا لمرشح يهودي مقارنة بسبعة وخمسين بالمائة قالوا إنهم يمكن أن يصوتوا لمرشح مسيحي إنجيلي وسبعة وثلاثين بالمائة قالوا إنهم يمكن أن يصوتوا لمرشح مسلم. عدد أكبر من الديمقراطيين، أي ما نسبته 72 بالمائة، قالوا إنهم يمكن أن يصوتوا لمرشح يهودي مقارنة بالجمهوريين الذين قال 67 بالمائة منهم إنهم يمكن أن يصوتوا لمرشح يهودي وخمسة وسبعين بالمائة من المستقلين. يبدو أن الآراء السائدة بين الأمريكيين، وخاصة في أوساط الديمقراطيين، تجاه “إسرائيل” مرجعها معارضة السياسات الإسرائيلية الحالية والقيم التي تعتنقها الحكومة الإسرائيلية الحالية، وليس مرجعه رؤى معادية لـ”إسرائيل” وبالتأكيد ليس تعبيراً عن انتشار العداء للسامية.
من المؤكد أن أمريكا بحاجة إلى خطاب يخلو من العنصرية، ولكنها أيضاً بحاجة إلى خطاب حر
بإمكان المرء أن يوافق أو يعارض الفكرة من دعم حل الدولة الواحدة أو حل الدولتين، أو الجدوى من أو الرغبة في فرض عقوبات على “إسرائيل” أو على أي جهة أخرى. هناك آراء مشروعة تستحق أن يجري حولها حوار، ولعلها بحاجة إلى أن تخضع للنقاش اليوم أكثر من أي وقت مضى، حيث يسود إحساس بأن الجهود الأمريكية للتوسط لحل النزاع وصلت إلى طريق مسدود بينما يستمر الفلسطينيون في العيش تحت الاحتلال بعد 51 عاماً دون أن يلوح في الأفق ما يشير إلى قرب نهاية هذه المعاناة.
من المؤكد أن أمريكا بحاجة إلى خطاب يخلو من العنصرية، ولكنها أيضاً بحاجة إلى خطاب حر. أياً كان السبب وراء قرار السي إن إن فصل هيل من عمله، ينبغي عدم السماح لذلك بتقييد الحوار بين الناس بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في وقت باتت الحاجة إليه ماسة جداً.
المصدر: فورين بولسي
ترجمة وتحرير: عربي21