عرفت القارة الإفريقية قديما، قيام عديد الممالك والسلطنات الإسلامية القوية، التي بسطت سلطانها في مناطق عدّة في القارة السمراء، منها سلطنة البرنو التي حكمت ” بلاد السودان الأوسط” لخمس قرون، عرفت فيها المنطقة فترات تراوحت بين الرخاء والاضطراب. في هذا التقرير سنتعرّف على هذه الامبراطورية التي كان لها الفضل الكبير في نشر الدين الإسلامي في المنطقة.
سلطنة البرنو..امتداد لإمبراطورية كانم العظمى
نهاية القرن الـ 14، بدأت إمبراطورية كانم العظمى التي تزعمتها أسرة ” الماغومية السيفية”، في التراجع والتقهقر بعد أن حكمت معظم وسط إفريقيا لأكثر من 6 قرون، نتيجة عقود من الصراع الداخلي والثورات والغزو الخارجي، لتتأسس على أنقاضها إمبراطورية جديدة حملت اسم ” سلطنة برنو الإسلامية”، غير أن العديد من المؤرخين اعتبروها استمرار لـ “كانم”.
يعود تأسيس إمبراطورية برنو إلى سنة 1380 ميلادي، وقد اتخذ ملوكها الأوائل مدينة تسمى “بيرنى نجازرجامو” (نيجريا) في غرب “بحيرة تشاد” عاصمة لهم. لم تكن مساحة الامبراطورية الناشئة في البداية كبيرة إلا أنها تمكّنت فيما بعد من بسط سلطانها على مناطق واسعة من وسط إفريقيا.
مع الوقت، سيطرت هذه السلطنة على “بلاد السودان الأوسط” الذي يتكون من حوض “بحيرة تشاد”، وما تقع حواليها من بلدان تمتد من “نهر النيجر” غربًا إلى “دارفور” شرقًا، وكانت منطقة “بحيرة تشاد” مهد سلطنة “البرنو”.
اهتمّ “آلوما” كثيرا بالتجارة وغيرها من الأمور الاقتصادية
وقد ضمَّت هذه الدولة عددًا كبيرًا من القبائل والعناصر، فهناك قبائل “الصو”، وقبائل “الكانمبو”، وقبائل “الكانورى” وهي خليط من العرب والبربر والزنوج، وهؤلاء يكوِّنون أغلب سكان هذه السلطنة، يضاف إلى ذلك قبائل “التبو” (التدا) من البربر، وكذلك “بربر الطوارق” من سكان المناطق الشمالية الصحراوية.
فضلا عن قبائل العرب الذين كانوا يُعرَفون هناك باسم (الشوا)، وقد قدموا إلى “تشاد” من “واد النيل”، عبر الصحراء، وكانوا يتمثَّلون فى قبائل “جذام” و “جهينة” و “أولاد سليمان”، وقد أدَّى اختلاط هؤلاء العرب بالسكان المحليين إلى ظهور عناصر جديدة، منها: “التنجور” و “البولالا” و “السالمات” وغيرهم.
الماي إدريس آلوما.. رجل الدولة البارز
كان ملوك السلطنة يعرفون باسم “المايات” (جمع ماى، وهو لقب بمعنى: ملك)، وأبرز هؤلاء “الماي إدريس آلوما”، الذي حكم طيلة 32 سنة بين 1571 و1603 ميلادي، ويعرف هذا الماي بكونه أبرز رجل دولة عرفته الامبراطورية، ففي عهدها عرفتة”البورنو” أوج مجدها، وفق عديد المراجع التاريخية.
اشتهر “إدريس آلوما” بمهارته العسكرية وإصلاحاته الإدارية وورعه الديني كمسلم، وكان خصومه الرئيسيون في الغرب، شعب الهاوسا، فيما كان الطوارق وتوبو خصومه الشمال، بالإضافة إلى شعب البولالا إلى الشرق من المملكة.
وعرف “آلوما”، في حروبه الدائمة باستعمال سياسة “الأرض المحروقة”، حيث كان الجنود يحرقون كل شيء في طريقهم، كما انتهج سياسة الحصار، واستخدام الجمال إلى جانب الخيول والفرسان المدرعين، وتخصيص معسكرات عسكرية ثابتة محصنة بجدران.
لم يتوجّه”الماي إدريس آلوما” للحروب وتوسعت حكمه فقط، بل عمل على القيام بعدّة إصلاحات قانونية وإدارية اعتمادًا على الشريعة الإسلامي، وقد قام برعاية بناء العديد من المساجد، كما قام برحلة حج إلى مكة المكرمة، حيث قام بالترتيب لإنشاء نزل يستخدمه الحجاج من إمبراطورتيه، وكان كثيرا ما يطلب النصائح من مجلس مكون من رؤساء أهم العشائر.
وقد كانت العائدات الحكومية تأتي من الجزية أو الغنائم، وبيع العبيد والرسوم المفروضة على التجارة المارة عبر الصحراء والمشاركة فيها. وعلى النقيض من غرب إفريقيا، لم تكن منطقة تشاد تحتوي على الذهب. إلا أنها كانت منطقة مركزية في أحد أهم الطرق المربحة عبر الصحراء.
تقول بعض المراجع التاريخية، إن “آلوما” قد اهتمّ كثيرا بالتجارة وغيرها من الأمور الاقتصادية، ويعود فضل بسط الأمن في الطرق التجارية إليه، كما بنى قوارب جديدة لنقل البضائع في بحيرة تشاد ونقل المزارعين إلى الأراضي الجديدة، وقام بتوفير مكاييل قياسية لقياس الحبوب.
الحج.. تعميق العقيدة الإسلامية
مثّل الحج أحد أبرز الوسائل الهامة في تعميق العقيدة الإسلامية لدى شعوب مملكة البرنو في بلاد السودان الأوسط، وأيضا عاملا مهما في نشر الثقافة العربية الإسلامية في تلك الربوع من القارة الإفريقية السمراء، وفق مراجع تاريخية عدّة.
لم يكن أداء فريضة الحج، مجرد رحلة إلى البقاع المقدّسة فقط، بل كان سفرا طويلا يستغرق سنوات وشهورا، سيرا على الأقدام أو فوق ظهور الدواب، يتوقف الحاج خلاله في كثير من المدن والقرى التي يمر بها، وقد يبقى فيها أياما وأسابيع طلبا للاستجمام، يختلط بأهلها ويتأثر بهم.
وعرفت شعوب مملكة برنو وحكامها بحرصهم الشديد على أداء هذه الشعيرة منذ القدم، وكان منفذ القاهرة هو الطريق الشائع، ومن جانب آخر فإن فترة بقاء الحاج في الأماكن المقدسة كانت تطول كثيرا، فيختلطون هناك بمختلف القبائل والعلماء مما يترك فيهم أثرا عميقا.
دخل الفولانيون في حرب مع مملكة البرنو، واستلوا على معظم أرضهم، بحجة خروجهم عن الدين الاسلامي وانتشار البدع والخرافات
اشتهر “مايات” البرنو بتنفيذ فريضة الحج إلى مكة، إلا أن الحجّ لم يقتصر على المایات فقط، ولكن شمل جميع المسلمين من أهل البورنو، إذ تشیر بعض الوثائق التاريخية إلى وفود العلماء إلى الجامع الأزهر أثناء رحلتهم للحج واستقرارهم بعض الوقت بمصر، فيذكر القلقشندي أن أهل البورنو بنوا مدرسة للمالكیة بالفسطاط ینزل بها وفودهم.
وعادة ما يتحوّل الحاج عند عودته إلى المملكة إلى داعية إلى الإسلام، بعد أن اكتسب خلال رحلة الحجّ العديد من الخبرات المادية والحياتية والروحية التي تضفي عليه شيئا من الهيبة حسب العادات الإفريقية المرعية، وتعطيه درجة عالية من قومه.
العربية.. لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية
شجع سلاطين “البرنو” انتشار الثقافة العربية الإسلامية في مناطق نفوذهم، فأكثروا من بناء المساجد والكتاتيب، وكانت اللغة العربية هي لغة التعليم ولغة الحكومة الرسمية، فضلا عن كونها لغة المعاملات التجارية ولغة المراسلات الدولية، إسوة بباقي الدول الإسلامية.
وفى ظل تشجيع ملوك البرنو للثقافة الإسلامية، ارتقى العلماء والفقهاء منزلة رفيعة، وحرص السلاطين على رعايتهم والإغداق عليهم، وإصدار “الفرمانات” التى كانوا يمنحونهم بمقتضاها كثيرًا من الامتيازات المادية والإقطاعات، ويحرِّمون على أي شخص مهما بلغت منزلته وقدره أن يسلبهم شيئًا منها.
وفي تلك الفترة، ظهر كثير من العلماء والفقهاء، منهم الفقيه “محمد بن مانى“، والإمام “أحمد بن فرتو” الذي كان معاصرًا للماى “إدريس ألوما”، والذي تعد كتاباته المرجع الرئيسي لتاريخ “بورنو”، والعالم الكبير “عمر بن عثمان بن إبراهيم”، وغيرهم من العلماء الذين صدرت لهم “فرمانات” تشجيعًا لهم على التفرُّغ للعلم والبحث والتدريس؛ مما أدَّى إلى انتشار العلوم الإسلامية بين أهالي هذه البلاد.
الصراع مع الفولانيين
تقول بعض المراجع إن “سلطنة البرنو”، عرفت خلال القرن الثامن عشر عديد الانحرافات، وإن الإسلام هناك أضحى في المعتقد الشعبي العام مجرد طقوس وممارسات تبعد كل البعد عن صميم الدين، فانتشرت الخرافات والبدع، وانغمس كثير من المسلمين في ممارسات فاسدة وجاهلية، ولم تقتصر هذه الممارسات على المجال الخاص أي حياة الفرد والعائلة، ولكنها امتدت لتشمل المجال العام أي في إطار المعاملات والحياة العامة.
في تلك الفترة، برز الشيخ عثمان دان فوديو الذي أخذ على عاتقه مهمة إعلاء الإيمان بالله والتمسك بالدين في تلك الربوع بأساليب جديدة، ويرجع أصل الشيخ عثمان بن فوديو إلى قبيلة “الفولاني” التي أسهمت بقوة في نشر الدعوة المحمدية وعودة النهضة الإسلامية للغرب الإفريقي.
يطلق الفولانيون على أنفسهم “فلبى” ويطلق عليهم شعب سيراليون وغامبيا “فله”، وشعب الولوف في السنغال يطلقون عليهم “بول” ويطلق عليهم قبائل الطوارق “أفولان” وشعب الماندليك في مالي “فله”، وفي موريتانيا يعرفون بـ”بولار”، وعند وصولهم بلاد الهوسا في القرن الـ14 أطلق عليهم الهوسا اسم “فولاني”، وعند وصولهم بلاد الكانوري “البرنو” أطلق عليهم اسم “فلاتا“.
ودخل الفولانيون في حرب مع مملكة البرنو، واستلوا على معظم أرضهم، بحجة خروجهم عن الدين الاسلامي وانتشار البدع والخرافات، وامتزج الإسلام فيها بالعادات الوثنية، فقد كانت العادات القبلية تحكم حياة المسلمين في تلك الربوع من القارة الإفريقية بعد تراجع الدعوة.
بقي الصراع بين الطرفين، إلى غاية وقوع المملكة في قبضة الاستعمار الفرنسى في سنة 1900 ميلادي، وقد أعيد تقسيم أملاك إمبراطورية “برنو” بين “إنجلترا” و “فرنسا” و “ألمانيا” بعد القضاء على المقاومة هناك، فأخذت “فرنسا” إقليم “كانم”، وأخذت “إنجلترا” إقليم “برنو”، وظفرت “ألمانيا” بالمناطق الجنوبية لبرنو، وهكذا تلاشت إمبراطورية “برنو” التاريخية على يد الغزاة الأوربيين في بداية القرن العشرين الميلادي.