بعد سنوات طويلة من العلاج الكيميائي واستئصال الثدي، استطاعت وفاء أن توقف الخلايا السرطانية من التهام صحتها وروحها، لكن بعد فترة من الزمن، عاد المرض وبرز رأسه البشع مجددًا، وهذه المرة لم تكن كسابقتها، فقد فشل الأطباء في السيطرة على انتشار المرض في جسمها وأصبحت وفاء رهينة جسدها الضعيف الذي منعها من الحركة وتناول الطعام والتصرف بحيوية ونشاط.
قررت وفاء أن تكتب لأسرتها الصغيرة عن أفكارها الداخلية وقالت: “أنا أدعو الله أنه إذا لم تسير العملية بشكل جيد، أن لا تكون هناك تعقيدات وتبعات مؤلمة، فأنا لا أعرف مدى قدرتي على تحمل الألم والتعامل معه”، ثم توجهت إلى طبيبها الخاص وسألته ما إذا كان يعرف أي علاج تجريبي قد يزيد من وقتها على وجه الحياة، وبالفعل أصبحت وفاء جزءًا من دراسة تُسمى بـ”الطب الدقيق” أو “الطب الشخصي”.
كيف ينقذنا “الطب الشخصي” من العقاقير غير الفعالة؟
يعتمد هذا النهج العلمي على حقلين، أولهما علاج المريض بما يتناسب مع التركيبة الجينية الخاصة به، فبعد أن يفك الأطباء الشيفرة الوراثية الخاصة بالمريض ومقارنتها بالشفرة الوراثية السليمة يمكن تحديد الطفرات والجزيئات المسببة للمرض وبناءً على ذلك يُعطى كل مريض على حدة دواءً يلائم ظرفه الصحي.
على سبيل المثال يوجد أكثر من 200 نوعًا من الأورام السرطانية، وبدلًا من إخضاع المريض لعلاج كيميائي عشوائي وتقليدي، يصنع الأطباء تركيبة كيميائية فريدة لكي لا يتحمل المريض آثار الأدوية الأخرى التي يمكن أن تكون غير فعالة أو مؤثرة بشكل سلبي، وبذلك يتجنب المريض الكثير من المجازفات والاحتمالات الفجائية.
بالنسبة إلى الحقل الثاني، يرتكز بشكل أساسي على دراسة أسلوب حياة المريض من حيث الغذاء والنوم والتلوث البيئي والضغوط النفسية، وغيرها من العوامل التي تؤثر على شيفرته الوراثية، فإذا كانت جزيئاته الوراثية تتفاعل مع الغذاء المشبع بالدهون والذي قد يؤدي إلى انسداد الشرايين وأمراض قلبية، فيمكن أن تقي هذه التقنية الفرد من الإصابة بهذه الأمراض من خلال أخذ عقاقير معينة تعفيه من هذه التجربة.
يعتمد هذا النهج العلمي على علاج المريض بما يتناسب مع التركيبة الجينية الخاصة به وبناءً على بياناته الفريدة يُعطى كل مريض على حدة دواءً يلائم ظرفه الصحي
وفيما يخص مرض السرطان تحديدًا، يتجنب الباحثون في مركز “آي بريديكت” في جامعة كاليفورنيا العقاقير التقليدية ولا يعتمدون على علاج محدد، وبدلًا من ذلك يحللون الحمض النووي في الخلايا السرطانية للمريض باستخدام خوارزميات حاسوبية، حيث تقوم بتتبع المتغيرات الجينية ومئات الأدوية المضادة للسرطان وغيرها من العلاجات التي قد تكون الوسيلة الأمثل لعلاج السرطان.
توضيحًا لذلك قالت رازليل كورزروك، أخصائية الأورام ومديرة مركز “مورس” لعلاج السرطان الشخصي: “إنه مبدأ بسيط للغاية. أنت تختار الأدوية المناسبة لكل مريض بناءً على الملف الشخصي للورم، وليس على أساس جزء من الجسم أو نوع السرطان الذي يمتلكه 100 شخصًا آخر، فكل شيء يتعلق بالمريض الذي يجلس أمامنا لا غير”، ما يعني أن لكل فرد خصائصه البيولوجية المميزة عن غيره، وللكل علاجه الخاص.
هل يمكن أن تشفي هذه التقنية الأمراض المستعصية؟
يقول طبيب مريضة السرطان وفاء بأن أورامها الخبيثة مليئة بطفرات مختلفة وهي من الحالات التي لطالما كانت مخيبة للآمال، لكن الآن ومع وجود العلاجات المناعية التي تُسمى بـ”مثبطات نقاط التفتيش” أو “مثبطات بروتينية” يمكن مواجهة وقتل خلايا السرطان الخبيثة من خلال إنتاج لقاحات خاصة بأورام محددة، أو استئصال خلايا جهاز المناعة، مما يساعد على تحفيزه ليقوم بمهاجمة الورم والقضاء عليه وبالتالي يسترجع المريض قدرته على محاربة المرض. واعتمادًا على هذه العقاقير، انخفضت علامات الورم في دم وفاء بأكثر من 75% بعد 4 أشهر من العلاج.
قد يعتقد البعض للوهلة الأولى أن هذه الحالة ليست أكثر من ضربة حظ استثنائية، لكن ما يعمل عليه العلماء حاليًا من دراسة التسلسل الحمض النووي وتحليل الأنسجة وتعديل الجينات بمساعدة الأدوات التكنولوجية، ساعد كثيرًا في ترجيح الكفة التي تشير إلى أن التنبؤ بخطر الإصابة بالسرطان وأمراض القلب وتغيير جينات الأجنة للقضاء على الأمراض الوراثية أمرًا يقترب من التحقق.
يؤكد الخبراء أنه بعد عقد من الآن سيكون ملف الحمض النووي جزءًا من السجل الطبي لكل مريض كإجراء روتيني من الرعاية الوقائية
إذ أعلن باحثون في المعهد الوطني للسرطان عن شفاء امرأة كانت تعاني من سرطان الثدي بعد العلاج التجريبي باستخدام خلايا المناعة الخاصة بها لمهاجمة الأورام، حيث قام الفريق، بدراسة تسلسل الحمض النووي الخاص بالورم لتحليل الطفرات، كما استخرج الفريق عينة من الخلايا المناعية المسماة الخلايا الليمفاوية المتسللة للورم واختبروها لمعرفة العيوب الوراثية للورم واستنسخوا خلايا ليمفاوية صالحة وزرعوها في جسد المريضة، جنبًا إلى جنب مع مثبط نقطة تفتيش، وبعد أكثر من عامين لم يبدو عليها أي علامات على الإصابة بالسرطان.
في المقابل، لا تعد هذه التقنية بفعاليتها على جميع الحالات، ففي قصص أخرى انتهت هذه التجارب بخسارات مادية وبشرية، ومع ذلك يؤكد الخبراء أنه بعد عقد من الآن سيكون ملف الحمض النووي جزءًا من السجل الطبي لكل مريض كإجراء روتيني من الرعاية الوقائية.
ما المقلق من تقنية الطب الدقيق؟
فكر علماء الأخلاقيات البيولوجية في الآثار الأخلاقية والقانونية والاجتماعية لهذا النوع من الأبحاث، وخشوا من أن تتعرض هذه المعلومات الخاصة والدقيقة جدًا للانتهاك، ورأوا أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء أهمية حماية الخصوصية الصحية المعلوماتية.
أولاً، قد يعاني الأفراد من الحرج والتمييز الذي قد يؤثر على ثقتهم بأنفسهم إذا تم الكشف عن معلومات حساسة بشكل غير لائق أمام الملأ. ثانياً، قد تنهار جودة الرعاية الصحية إذا قرر الأفراد الذين يخشون من إفشاء معلوماتهم الحساسة التخلى عن العلاج كردة فعل دفاعية، وأخيرًا خوفًا من حصول الأجهزة المخابراتية على تلك المعلومات بطرق تجارية أو غير شرعية.
حذر العلماء المرضى من تضارب المصالح المالية المحتملة في هذا المجال على أساس أن الكثير من الناس الذين يروجون للطب الشخصي هم أشخاص لديهم مصالح مالية في هذا القطاع وقد يدفعهم حماسهم إلى تجاهل بعض المخاطر
إلى هذا الجانب، فقد حذر العلماء المرضى من تضارب المصالح المالية المحتملة في هذا المجال على أساس أن الكثير من الناس الذين يروجون للطب الشخصي هم أشخاص لديهم مصالح مالية في هذا القطاع وقد يدفعهم حماسهم إلى تجاهل بعض المخاطر والتبعات، بالإضافة إلى الأسئلة الاقتصادية المرتبطة بتكاليف تسلسل الجينات وتخزين بياناتها والتي تقدر بحوالي 10 آلاف دولار لكل مريض، وهو أمر لا يستطيع الجميع توفيره، ما قد يؤدي في النهاية إلى توسيع الفجوة بين الطبقات الاجتماعية في مجال الصحة والثروة.