تصريحات غامضة أدلى بها مدير مشروع سد النهضة الإثيوبي كيفلي هورو بعد ظهر الخميس 13 من ديسمبر/كانون الأول، قال فيها إن اكتمال بناء السد الكبير يحتاج إلى 4 سنوات أخرى، وبرر ذلك بقوله: “البناء تأخر بسبب التغيير في التصميم؛ مما أدى إلى زيادة سعة توليده وتأخير الأعمال الكهروميكانيكية”، واستدرك بقوله “الأعمال جارية دون انقطاع”.
المهندس كيفلي هورو مدير مشروع سد النهضة الإثيوبي.. أقصى اليسار
التصريح الأول من نوعه للمهندس هورو جاء بعد شهرين بالضبط من صدور قرار تعيينه خلفًا لسيمجنيو بيكيلي الذي رحل في حادثة غامضة منتصف العام الحاليّ قالت الشرطة فيما بعد إنها “حادثة انتحار”، وجاء اختيار المدير الجديد بعد تمحيص وتدقيق، حيث كان رئيس الوزراء آبي أحمد قد وجّه انتقادات لبطء العمل في المشروع الذي تعول عليه إثيوبيا من أجل أن تكون أكبر مصدر للطاقة الكهربائية في إفريقيا فهي الآن تمد بالفعل كل من السودان وجيبوتي بالتيار الكهربائي.
ما جدوى الإصلاحات طالما أن السد لن ينتهي قبل 4 سنوات؟
حديث المدير الجديد أثار تساؤلات عدّة في الداخل الإثيوبي مفادها أن العمل في إنشاءات السد لن يسير بالسرعة المطلوبة طالما أنه سيحتاج إلى 4 أو 3 سنوات قادمة، مما يشكك في جدوى الخطوات التي اتخذها آبي أحمد لتسريع العمل في سد النهضة، فبحسب آخر تصريح لوزارة الكهرباء والمياه الإثيوبية في مايو/أيار الماضي وصلت إنشاءات السد نحو 66%، وأوضحت السيدة بيزونا تولشا مسؤولة العلاقات العامة في الوزارة لوكالة أنباء صينية أن مشروع إنشاء المشروع المائي يسير على ما يرام ومن المتوقع أن يبدأ إنتاج الطاقة بشكل جزئي.
واجه المشروع الضخم صعوبات فنية وإدارية ومالية، بعد أن أعفى رئيس الوزراء آبي أحمد شركة ميتيك Metec التابعة لوزارة الدفاع من تنفيذ الأعمال الكهروميكانية، بعد أن تأخرت في إكمالها
فإذا افترضنا أن العمل كان متوقفًا تمامًا طيلة الـ7 أشهر الماضية هذا يعني أن ثلثي إنشاءات السد اكتملت في الـ6 سنوات الماضية بواقع 3 سنوات لكل ثلث، وبالحسبة نفسها يحتاج الثلث الأخير الناقص إلى 3 سنوات بنفس الوتيرة القديمة “البطيئة”، فما الفائدة إذًا من كون الإدارة الجديدة ستنهيه خلال 4 سنوات بحسب إفادة هورو؟
سيرة ذاتية قوية للمدير الجديد.. عمل من قبل في مشروع سد النهضة
بالنظر إلى السيرة الذاتية لمدير مشروع سد النهضة كيفلي هورو نجد أنه يحمل درجة بكالريوس الهندسة الكهربائية من جامعة أديس أبابا عام 1985، وحصل في العام 2015 على درجة الماجستير في إدارة المشاريع بتقدير ممتاز من جامعة سالفورد بالمملكة المتحدة، وبجانب ذلك نال شهادات متقدمة في الصيانة الكهربائية من إحدى الجامعات الألمانية عام 1998.
وتنقّل كيفلي هورو في عدد من أقسام هيئة الكهرباء الإثيوبية حيث أشرف على تنفيذ عدد من السدود، لكنّ محطته الأبرز كانت في إدارة مشروع سد النهضة نفسه الذي عمل به لقرابة عامين من بداية 2011 حتى نهاية 2012، فقد كان مسؤولًا عن التفاوض على جدوى المشروع ومفاوضات العقد النهائي واستشارات التوظيف، إضافة إلى متابعة هياكل الصلب الهيدروليكية ومراجعة تصميم خط نقل وتفاوض العقد النهائي مع المقاول.
يتضح لنا من السيرة الذاتية للمدير الجديد أن اختياره لم يكن عبثيًا، فهو خبير في مجال الطاقة الكهربائية، وأشرف من قبل على تنفيذ سد جيجيل جي بي1، كما أن لديه خبرة جيدة ومؤهلات أكاديمية رفيعة في مجال الصيانة والأعمال الكهروميكانيكية والأخيرة هي عقدة تأخر إكمال سد النهضة، مما يعني أن الحكومة الإثيوبية تراهن عليه لإصلاح الخلل الذي أقعد المشروع الحلم.
يمثل سد النهضة مشروع الأحلام للشعوب الإثيوبية على اختلاف توجهاتها وصراعاتها الداخلية، فقد تبرع لأجله معظم المواطنين
بكل تأكيد يواجه المشروع الضخم صعوبات فنية وإدارية ومالية، بعد أن أعفى رئيس الوزراء آبي أحمد شركة ميتيك Metec التابعة لوزارة الدفاع من تنفيذ الأعمال الكهروميكانية، بعد أن تأخرت في إكمالها، وعلّق قائلًا: “لقد سلّمنا مشروعًا مائيًا معقدًا إلى أُناس لم يروا أي سد في حياتهم”.
إلى جانب معضلة أخرى، وهي مطالبة شركة ساليني الإيطالية (المقاول الرئيس للمشروع)، حكومة إثيوبيا بدفع تعويض مالي قدره 338 مليون دولار بسبب تأخر الأعمال الكهروميكانيكية التي أشار إليها رئيس الوزراء، والمبلغ المذكور ليس كبيرًا لكنه حتمًا سيؤثر على إثيوبيا التي تعاني من نقص في احتياطات النقد الأجنبي.
4 أسباب محتملة لتصريحات كيفلي هورو
الأسباب المذكورة أعلاه، لم تكن مقنعة لتبرير تأخر إكمال سد الأحلام إلى 2022، ويمكن أن نرصد 4 احتمالات دفعت المدير الجديد لهذه التصريح الصادم لكثير من الإثيوبيين وجيرانهم الأفارقة:
1- أن السد سيكتمل قبل الفترة المحددة بوقت طويل، مثلًا في 2020، والتصريح سياسي في المقام الأول قُصد منه توجيه رسائل لمصر حتى لا تضغط على الجانب الإثيوبي في ملف المفاوضات بعد أن كثرت المطالبات المصرية لإثيوبيا بحل القضايا العالقة.
2- وجود مشاكل مالية معقدة، يعتقد مراقبون أن التأخير سببه الأول التعثر المالي، ولا يتعلق بوجود أخطاء فنية أو هندسية كبيرة في ظل تنفيذ المشروع بواسطة شركة دولية ذات سمعة جيدة مثل ساليني الإيطالية، وهي لم تقل أبدًا بوجود أخطاء فنية فقط كانت تشتكي من تأخر إنجاز الأعمال الكهروميكانيكية التي تنفذها شركة ميتيك التابعة لوزارة الدفاع، وهذه الأسباب ذاتها ذكرها آبي أحمد في انتقاداته لسير العمل في إنشاءات السد.
فضلًا عن أن مشروع السد حال اكتماله سيكون أحد الإنجازات الكبرى التي يفخر بها ائتلاف الجبهة الثورية الحاكم “EPRDF” ويفترض أن يراهن عليه لاكتساح انتخابات 2020
3- مزاعم وجود اتفاق للحكومة الإثيوبية مع القاهرة بإبطاء العمل في سد النهضة، وهذا اتهام يروجه معارضو رئيس الوزراء آبي أحمد فهم يستدلون بزيارته لمصر في يونيو/حزيران الماضي وتعهداته حينها لرئيس النظام المصري بعدم الإضرار بالمصالح المائية للقاهرة، إلى جانب زيارة حليف مصر ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد إلى أديس أبابا وضخه 3 مليارات دولار في الاقتصاد الإثيوبي.
4- أخيرًا، أن المشروع برمته لا يمثل أولوية كبيرة لحكومة آبي أحمد، وعليه قررت تأجيله مؤقتًا حتى لا تهدر المزيد من النقد الأجنبي.
واقع الأمر يرجح الاحتمالان الأول والثاني، إذ إن احتمالية اتفاق آبي أحمد مع مصر على إبطاء العمل في السد لا يبدو منطقيًا في ظل استمرار جولات التفاوض بين الأطراف الثلاث (إثيوبيا والسودان ومصر)، دون التوصل إلى نتيجة واضحة في القضايا العالقة وأهمها ملء بحيرة السد حيث تتمسك إثيوبيا بفترة زمنية لا تزيد على 3 سنوات بينما تطالب مصر برفعها إلى 7 سنوات حتى لا تؤثر على إمداداتها المائية.
كذلك، يمثل سد النهضة مشروع الأحلام للشعوب الإثيوبية على اختلاف توجهاتها وصراعاتها الداخلية، فقد تبرع لأجله معظم المواطنين، وقام آلاف الموظفين الحكوميين بتخصيص شهر أو شهرين من رواتبهم لشراء سندات سد النهضة GERD Bond، وتم تسويق المشاركة في المشروع باعتباره إظهارًا للوطنية الإثيوبية، كما استثمرت العديد من الشركات والمصارف أموالها في كهربائه وتنتظر جني الأرباح في أقرب وقت ممكن.
فضلًا عن أن مشروع السد حال اكتماله سيكون أحد الإنجازات الكبرى التي يفخر بها ائتلاف الجبهة الثورية الحاكم “EPRDF” ويفترض أن يراهن عليه لاكتساح انتخابات 2020، إذ يُتوقع أن ينتج من الكهرباء 6450 ميغاواط، وهو ما يفوق ثلاثة أضعاف إنتاجية السد العالي في مصر، الأمر الذي يجعل إثيوبيا أكبر مصدر للطاقة في إفريقيا، ويتوقع البنك الدولي أن تحصل إثيوبيا على مليار دولار سنويًا من تصدير الكهرباء بحلول عام 2023.
التأجيل فرصة جيدة لمصر
في كل الأحوال يمثل إعلان تأخر اكتمال سد النهضة فرصة جيدة لمصر ـ إذا ثبت وجود مشاكل حقيقية تعتري سبيل الإنجاز ـ فقد كان نظام السيسي واقعًا تحت ضغط شعبي بتهمة التفريط في مصالح مصر المائية، وكان الضغط على أشده في أيام رئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي مريام ديسالين الذي كثرت في عهده جولات التفاوض من دون التوصل إلى نتيجة واضحة.
اتهام آبي أحمد بالتفريط في سد النهضة أو إبطاء العمل فيه لا يبدو واقعيًا لعدة أسباب أهمها أن الرجل تُسلط عليه أضواء إعلامية لم يحظَ بها أي من أسلافه
ومع مجئ آبي أحمد خفتت حدة الخطاب الإثيوبي الذي كان يميل إلى المصادمة مع مصر، وتعهد رئيس الحكومة الجديد بعدم الإضرار بمصالح القاهرة المائية إلا أنه لم تشهد المفاوضات انفراجة حقيقية حتى الآن، وهي المعاني التي أكد عليها خالد أبوزيد الأمين العام للشراكة المائية المصرية عندما علّق لصحيفة المصري اليوم قائلًا: “ليس من المهم الانتهاء من المشروع العام الحاليّ أو عام 2022، ولكن الأهم هو الالتزام بما تم الاتفاق عليه وفقًا لإعلان المبادئ الموقع بين قادة الدول الثلاثة عام 2015 في العاصمة السودانية الخرطوم، بضرورة الاتفاق قبل بدء الملء الأول على قواعد التشغيل السنوي لسد النهضة”.
حديث أبوزيد هو مربط الفرس للمفاوض المصري الذي من المؤكد أنه تلقّى تصريحات مدير السد بارتياح بالغ، ويحق له أن يتنفس الصعداء ولو مؤقتًا بعد أن كان تحت الضغط الحكومي والشعبي إزاء استمرار فشل جولات التفاوض في تقريب وجهات النظر.
اتهام آبي أحمد بالتفريط في سد النهضة أو إبطاء العمل فيه لا يبدو واقعيًا لعدة أسباب أهمها أن الرجل تُسلط عليه أضواء إعلامية لم يحظَ بها أي من أسلافه، وتقديم تنازل كهذا من شأنه أن يقضي على شعبيته بالكامل بل سيكون عارًا لن ينساه له التاريخ، ولكن حديث كيفلي هورو عن تأخر إنهاء سد النهضة إلى 2022 يدل على وجود شيء غامض يمكن أن تكشفه الأيام مستقبلاً.