صراع الوزير والرئيس.. ما الدرس المستفاد من دراما الشتائم بين ترامب وتيلرسون؟

انزلقت الخلافات الدائرة بين ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي السابق، والرئيس دونالد ترامب، إلى منحنيات غير مسبوقة، لتقدم للعالم علاقة من نوع مختلف، بين وزير خارجية أحيل للتقاعد قبل أشهر، ورئيس ما زال في السلطة، بعدما فتح كل منهما جراب معلوماته وانطباعاته عن الآخر، وإعلانها على الملأ.
كان تيلرسون يعارض ترامب كليًا في السياسة الخارجية وأبدى مواقف متشددة لوقف هرولة ترامب تجاه إشعال حمى المواجهة مع إيران، ونجح بالفعل في إجهاض عدة محاولات للرئيس الأمريكي، حتى يتخلص من الاتفاق النووي، وكذلك الحال في الصراع الذي كان على أشده مع كوريا الشمالية، ووصلت لغة الخلاف بين ترامب وكيم حد التهديد بالسلاح النووي وأيهما أسرع في الضغط على زر التشغيل من مكتبه.
رفض وزير الخارجية السابق في صورة قوية، الخضوع لأي شخص حتى لو كان الرئيس، رغم نظام الحكم الأمريكي الذي يجعل من الوزراء سكرتارية للرئيس بموجب نظام الحكم الرئاسي، بجانب عدم تأييده في ملفات محاربة الهجرة غير الشرعية وخفض الضرائب المرتفعة وحماية الحدود المخترقة والدفاع عن العمال المستضعفين من الأجانب، وهي الانقسامات الإيديولوجية التي عجلت بتسريع وتيرة الخلافات بين الطرفين.
تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق، لم يتركها ترامب تمر هكذا دون رد صادم، فخرج يتغزل في وزير الخارجية الحاليّ مايك بومبيو، معتبرًا أن ما يقوم به هو في مجمله عمل رائع، وأكبر بكثير مما كان يستطيع سلفه ريكس تيلرسون الإتيان به
“غير منضبط ولا يحب القراءة ولا يطلع على التفاصيل ولا يحبها” آخر ما قاله تيلرسون، وفجر عاصفة جديدة بشأن ترامب في بلدان العالم أجمع، بعدما تحدث عن الرئيس الأمريكي في حديث لقناة سي بي إس، واعتبر أن الشيء الصعب بالنسبة له، هو تغير الأجواء من حوله، من شركة إكسون موبيل التي تمتاز بالانضباط العالي والتركيز، إلى أجواء غير صحية بالمرة، يتسيد فيها رجل غير منضبط، لا يحب القراءة، ولا يقرأ التقارير، ولا يحب الاهتمام بالتفاصيل، ولا يقول سوى هذا ما أعتقده.
تيلرسون: ترامب شخص غير منضبط ولا يحب القراءة
استند تيلرسون على صحة ما يقول، بانفعالات ترامب المتكررة التي تكشف بوصلة غير منضبطة في الأداء تجعله يتخذ قرارات خطيرة وفقًا لما تمليه عليه غريزته، وهو ما كان يقف أمامه بحسم واضح، ليؤكد أن ما يريده الرئيس “مخالفًا للقانون”.
تصريحات وزير الخارجية الأمريكي السابق، لم يتركها ترامب تمر هكذا دون رد صادم، فخرج يتغزل في وزير الخارجية الحاليّ مايك بومبيو، معتبرًا أن ما يقوم به هو في مجمله عمل رائع، وأكبر بكثير مما كان يستطيع سلفه ريكس تيلرسون الإتيان به، في ظل عدم امتلاك الأخير القدرة العقلية اللازمة، فالوزير السابق بحسب ترامب، كان غبيًا كصخرة، وكسولاً كالجحيم.
وحسم ترامب الصراع مع وزير خارجيته السابق، بسبب عدم التوافق بينهما والتسريبات التي خرجت بين الحين والآخر عن تيلرسون، وأكدت أنه يرى الرئيس بقدرات عقلية ضعيفة، لا تؤهله لحكم بلد كبير مثل أمريكا، وهي المناوشات التي رد عليها ترامب وقتها وطلب إجراء اختبار على الهواء أمام وزيره، ليرى الناس أيهما بقدرات عقلية أكبر، ثم أنهى المقارنات المستمرة بينهما بإقالة تيلرسون بشكل مفاجئ ومهين في مارس/آذار الماضي، ولم يمنح تليرسون أكثر من تغريدة يعلن فيها قراره، واختار في نفس الوقت مدير وكالة الاستخبارات المركزية السابق، الذي يعتنق أفكارًا أكثر تشددًا من ترامب، مما خلق حالة من التفاهم والانسجام بينهما.
أداء ترامب بين نموذجين
في النموذج الأمريكي، يبدو ترامب أقرب لعقل حاكم عربي خارج للتو من مؤسسة عسكرية، فبومبيو جمهوري تقليدي راديكالي، مؤمن بأفكار الرئيس ومنهجه، وهو ما يثير لعاب ترامب، ويعطيه قدرًا من القوة في فرض أفكاره بالعنف إن لزم الأمر، حتى على أنصاره في أوروبا.
يؤمن الوزير “ترامبي النزعة” بأهمية الطرق بقوة مفرطة وبوضوح ودون مواربة، على رؤوس الأعداء
يؤمن وزير الخارجية الأمريكي الحاليّ، بلغة ترامب المتطرفة في كل ما يخص إيران؛ فالسياسة والنهج الدبلوماسي يحتاجان إلى وقت طويل لجني ثمارهما بجانب نظام يحترم الديمقراطية، وهو ما لا يراه ترامب ووزيره في الدولة النووية ذات الأحلام الكبيرة بالمنطقة، بما يجعلهما يتخوفان من ممارسة نفس السياسة الأمريكية القديمة، التي لم تساهم برأيهما إلا في إطلاق يد إيران للعبث فيما قد لايمكن السيطرة عليه لاحقًا، خاصة أنها استطاعت تطوير أسلحتها والتوسع في علاقاتها الدولية وتحالفاتها، وهو ما يسبب خطرًا كبيرًا من وجهة نظرههما على أمن الحليف الإسرائيلي.
وليست إيران وحدها، بل يؤمن الوزير “ترامبي النزعة” بأهمية الطرق بقوة مفرطة وبوضوح ودون مواربة، على رؤوس الأعداء، وفي المقابل يجب أن يكون موقف أمريكا داعمًا حتى التطرف لأصدقائها، ولا مانع من ابتزاهم لاحقًا أو في منتصف الطريق، وهو ما يحدث حرفيًا مع المملكة العربية السعودية، في أزمة خاشقجي.
كيف يختار العرب وزراءهم.. ووفقًا لأي معيار؟
كما هي المقارنات التي لا نملك غيرها حاليًا، هناك من قارن سريعًا بين ترامب وتيلرسون، والرؤساء والزعماء العرب ووزرائهم، وهل يؤمنون بأهمية العقيدة المشتركة والأيدلوجية والأفكار والأهداف الموحدة، كما هو بومبيو وترامب الآن، أم الثقة أولاً، ثم بعدها قد نتحدث في أي شيء آخر!
بعيدًا عن نظام الحكم البرلماني الذي يتولى فيه نواب الشعب السلطة، تكاد تتفق كل بلدان العالم المتقدم، وعلى اختلاف الأنظمة السياسية، سواء كانت ملكية دستورية أم جمهورية بنظام حكم رئاسي، على سعي رأس السلطة لاختيار أعوان له، متقاربين معه سياسيًا، في المقابل تختار أنظمة المنطقة العربية والإسلامية، مفردتي الثقة والولاء التام، قبل الخبرة والجاهزية للمنصب.
يمكن حصر إنجازات بعض الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي تحديدًا، في تفضيلها لأصحاب الخلفيات الواسعة في “البيزنس” الخاص
تختلف آليات اختيار الوزراء في البلدان العربية، بشكل شبه متضاد مع أغلب دول العالم الديمقراطية، بما ينعكس على كمون السياسة في أغلب الوزارات واستكانتها حد الموت، فالوزير الذي لم يتدرج في العمل السياسي، ولم يرتد الشارع ولا يعرف اللغة الأقرب له، أو كيفية التعامل معه، أو يتعاطى السياسة بشكل محترف، ولم ينضم لحزب إلا للالتحاف بالسلطة دون غيرها، وقد تكون مرحلة متأخرة في عمره، ستكون هذه المعطيات ضده دون شك، خاصة أنه يعلم جيدًا أن عملية اختياره لمنصب رسمي، لم تأت بسبب نبوغه السياسي ووضوح أفكاره، بل لاحترافه مجال عمل، يجب أن يؤديه، بآليات بعيدة كل البُعد عن التخطيط السياسي، فهذا عمل أجهزة أخرى ملتصقة بنظام الحكم، ووحدها من ترسم الأبعاد السياسية لقرارات من هذا النوع.
ويمكن حصر إنجازات بعض الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي تحديدًا، في تفضيلها لأصحاب الخلفيات الواسعة في “البيزنس” الخاص، فمثل هذا الكادر، مؤهل لزرع أفكار اقتصادية جديدة، وبث حلول غير متوقعة للأزمات المستعصية لاقتصاد الدولة، بجانب علاقاته الواسعة بحكم عمله في الصناعة أو التجارة ذات الطابع العابر للدول والقارات، بما ينعكس على تسهيل عقد اتفاقيات تخفف من الأزمات الاقتصادية، التي تنعكس بدورها على السياسة التي أغلق باب الحديث فيها لأغب الدول بـ”الضبة والمفتاح”.
يخاف رموز السلطة في الوطن العربي من الوزير السياسي المثقف، المعروف بتاريخه الطويل سواء في دوائر الفكر أم السياسة، الذي يفرض عليه أن يكون صاحب رأي وكلمة، وقد يختلف ويستقيل احتجاجًا على أوضاع خاطئة، ويضع رأس السلطة في حرج بالغ، ويختارون بدلاً منه التكنوقراطي المستكين الذي يعمل بعقلية موظف لا يستطع أن يعصي أمرًا، وفي الغالب لا يناقش، بل ومن تظهر على أحدهم علامات السياسة والنضج والفراسة، يلحق نفسه سريعًا ويمارس الطيران على نحو منخفض، حتى لا يقضي هذا التفوق الملحوظ على مستقبلة في الوزارة سريعًا.
فضل الرئيس السيسي عدم الاستعانة بأي شخصية من الأحزاب، أو من القوى السياسية لتولي رئاسة الحكومة، ولم يعط لهم أيضًا أي دور في الحقائب الوزارية المختلفة وفضل عليهم التكنوقراط، وهي نفس التيمة التي تفضلها أغلب البلدان العربية
في مصر، وبعد ثورة 25 يناير، لم تستطع أرض النيل التخلص من هذه المفردات، في طريقة اختيار الرئيس لحكوماته، فخلال حكم جماعة الإخوان، لم يجد الرئيس الأسبق محمد مرسي أفضل من المهندس هشام قنديل لتوليته الحكومة، وهو الذي لم يضبط يومًا ممارسًا للسياسة، فظهر بأداء ضعيف مترهل لا يناسب الحالة الثورية بالبلاد، في حين كان هناك حتى من داخل تيار الإسلام السياسي، من هم على كفاءة عالية، ويحظون بإجماع وتوافق حولهم، وعلى رأس هؤلاء، الدكتور محمد محسوب نائب رئيس حزب الوسط، ووزير الشؤون النيابية، قبل أن يستقيل لاحقًا بسبب خلافات مع مرسي وهشام قنديل، ومع ذلك نادى شباب الإسلاميين بضرورة تعيين محسوب رئيسًا للوزراء، ورشحوا بجواره العديد من القوى الثورية التوافقية، ولم يستمع لهم أحدًا، مما ساهم في إشعال الخلافات بشأن مرسي حتى من داخل التيارات الإسلامية.
وكذلك كان الحال في الحكومات اللاحقة، حيث فضل الرئيس السيسي عدم الاستعانة بأي شخصية من الأحزاب، أو من القوى السياسية لتولي رئاسة الحكومة، ولم يعط لهم أيضًا أي دور في الحقائب الوزارية المختلفة وفضل عليهم التكنوقراط، وهي نفس التيمة التي تفضلها أغلب البلدان العربية التي نادرا ما نسمع أنها وضعت لسياسي من حزب معارض قدمًا على خريطة السلطة، فلا مجال ولا حاجة لمن يستعرض على الرئيس والزعيم، في الوقت الذي يجب أن يكون هو فقط من يعرف ويعلم أكثر من الجميع.