ربما تفاجأ البعض من إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قرب بدء عملية عسكرية تركية في منبج ومنطقة شرق الفرات، لكن من يتابع الشأن التركي لم يتفاجأ بذلك كثيرًا، ولم يستغرب تصريحات أردوغان الأخيرة، ذلك لأن تركيا ومنذ فترة ليست بالقصيرة تجهز لهذه العملية، ولقد انتهت من كامل التجهيزات منذ أسبوعين فقط، حسب تصريحات بعض السياسيين الأتراك.
جعلت تركيا فترة إعدادها لهذه العملية مقسمة على شكل مراحل، بدأت المرحلة الأولى منها بتهيئة الرأي العام العالمي لهذه العملية، من لقاءات أجراها الرئيس التركي والمسؤولون الأتراك خلال قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، واللقاءات العديدة التي أجراها المسؤولون الأتراك مع القادة الأوربيين والأمريكيين، وجاء خطاب أردوغان الأخير ليمثل المرحلة الثانية، فأرسل من خلاله رسائل عديدة وواضحة للجميع، وبصورة خاصة للأمريكان الموجودين شرق الفرات، بأن يتهيأوا لدخول الأتراك إلى منبج ومن ثم إلى شرق الفرات.
لماذا الإصرار التركي على إنهاء وجود المنظمات الكردية في شمال سوريا؟
تصرَّ تركيا ومنذ وقت طويل على تطهير الشمال السوري المتاخم لحدودها الجنوبية من القوات الكردية المعروفة بقوات “قسد” وذلك للحيلولة دون تكوين دولة كردية ملاصقة لأراضيها تُدار من حزب العمال الكردستاني، وبسبب إن قوات “قسد” إحدى أذرع هذا الحزب، كما يعلم الجميع، وحزب العمال يخوض حربًا انفصالية مع الدولة التركية، ندرك ما في الأمر من مخاطر كبيرة على تركيا.
الذي حفَّز القيادة التركية للقيام بهذه العملية العسكرية الآن، هو الحديث عما يسمى “نموذج القامشلي” وإصرار القيادة التركية للحيلولة دون تطبيق هذا النموذج السياسي في تلك المناطق
سبق أن قامت تركيا بعمليتين عسكريتين في الشمال السوري، هما درع الفرات وغصن الزيتون، وينوي الجيش التركي في هذه العملية الجديدة، أن يطرد قوات “قسد” من مناطق شرق الفرات، وإرجاعها لأهلها الأصليين العرب، وهي بذلك تقطع التواصل الجغرافي للدولة الكردية المنشودة.
الذي حفَّز القيادة التركية للقيام بهذه العملية العسكرية الآن، هو الحديث عما يسمى “نموذج القامشلي” وإصرار القيادة التركية للحيلولة دون تطبيق هذا النموذج السياسي في تلك المناطق، ويعني هذا النموذج ببساطة والمطبق بمدينة القامشلي السورية، تقاسم السلطة بين القوات الكردية والنظام السوري، في مناطق محاذية للحدود التركية الجنوبية، الأمر الذي يشكل خطرًا كبيرًا على تركيا، علمًا بأن هذا النموذج تم الاتفاق عليه بين ترامب وبوتين كجزء من خطة سوريا الكبرى في قمة هلسنكي.
هل ستكتفي تركيا بتطهير شرق الفرات أم تمتد إلى العراق؟
في تصريح للخبير الأمني التركيّ بمجال مكافحة الإرهاب عبد الله أغار، توقع أن تشمل العملية منطقة سنجار شمال العراق، مشيرًا إلى أن القوات التركية تدرك أن الخطر من هناك.
وفي مراجعة بسيطة لتصريحات أردوغان في الفترة السابقة، يظهر لنا جليًا أن العملية الحاليّة التي تستهدف تحرير منبج وشرق الفرات من القوات الكردية لن تقف عند هذا الحد، إنما يؤمل لها أن تستمر إلى خارج سوريا تجاه العراق، وكان الرئيس التركي قد صرح أكثر من مرة عن عزمه تطهير منطقة سنجار من حزب العمال الكردستاني، ودخل في سجالات طويلة مع القادة العراقيين الذين اعتبروا تصريحاته تلك، تدخلًا بالشأن الداخلي العراقي.
من غير المرجح أن يكون رد الفعل الأمريكي وديًا من العملية العسكرية التركية المرتقبة، وستضع العوائق لهذه العملية، لكنها لن ترتقي إلى الحد لإيقافها
الموقف العراقي هذا لم يثن الطيران التركي من ضرب قواعد حزب العمال في سنجار في 25 من أبريل 2017، ورغم أن امتداد العملية العسكرية المرتقبة إلى العراق في الوقت الراهن غير مرجح، ربما تكون العملية التي تليها، مما يزيد من قوة ترجيح عملية مماثلة في شمال العراق، هو اتباع تركيا لسياسية ناعمة الآن مع الأحزاب التي تدير إقليم كردستان العراق، ربما لكسب شرعية دخول قواتها هناك.
وشهدت الأشهر الأخيرة تطورًا إيجابيًا سريعًا للعلاقة بين تركيا وتلك الأحزاب، بالأخص الحزبين الكبيرين، الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الكردستاني، وكان للحزب الأخير تحركات قوية لغلق مقرات حزب العمال الكردستاني الموجدة في مناطق السليمانية، الأمر الذي يعتبر تغيرًا كبيرًا طرأ على سياسة حزب الاتحاد الكردستاني تجاه منظمة حزب العمال الكردستاني، مما فسره البعض بأن هناك تقاربًا بين الاتحاد الكردستاني والقيادة التركية في الفترة الأخيرة.
كيف سيكون شكل رد الفعل الأمريكي؟
من غير المرجح أن يكون رد الفعل الأمريكي وديًا من العملية العسكرية التركية المرتقبة، وستضع العوائق لهذه العملية، لكنها لن ترتقي إلى الحد لإيقافها، ذلك لأن الخلافات التركية الأمريكية مهما كانت مستحكمة، لن يغامر الأمريكان بوصول الخلافات إلى القطيعة مع الأتراك، وفي الفترة القليلة الماضية تعمدت الولايات المتحدة أن تضغط على الجانب التركي بسبب قضية القس الأمريكي، لكن سرعان ما ألغت تلك العقوبات بعد أن تم حل هذه القضية بشكل ودي.
وفي هذا السياق، لم يتأخر رد الفعل الأمريكي كثيرًا على خطاب أردوغان، فقد أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” على لسان المتحدث الرسمي لها شون روبرتسون أن إقدام أي طرف على عمل عسكري من جانب واحد في شمال شرق سوريا وبالأخص في منطقة يحتمل وجود طواقم أمريكية فيها، أمر مقلق للغاية، ولا يمكن قبوله، وشدد روبرتسون بالقول: “الحل الوحيد للمخاوف الأمنية بالمنطقة، هو التنسيق والتشاور المتبادل بين تركيا والولايات المتحدة”.
لكن الرئيس التركي أردوغان ذكر وفي أكثر من مناسبة أن الأمريكان يماطلون في إخراج قوات “قسد” من منبج ويسوفون بالموضوع، وبما أن الأمريكان لا نية حقيقية لهم بإخراجهم من المدينة فإن تركيا عازمة على إخراجهم بنفسها.
ربما يكون الموقف الأمريكي الرافض للعملية العسكرية التركية، يندرج في محاولة استرضاء الجانب الكردي وعدم خسارتهم بشكل كامل
وصرح مسؤولون عسكريون أتراك أن الجيش التركي سيعتمد إستراتيجية، يتجنب خلالها أي تصرف يمكن أن يضع حياة الجنود الأمريكيين في المنطقة في خطر، وهذا الأمر من أكثر الأمور التي ستأخذ بعين الاعتبار، وحاول أردوغان أن يطمئن الأمريكان بالتنويه إلى ضرورة عدم السماح للخلافات العميقة في السياسة تجاه سوريا، بأن تكون عائقًا أمام تعاون أكبر بين البلدين في المستقبل، كما لم يفوت الرئيس التركي التشديد على أن العملية لن تستهدف أي موقع عسكري أمريكي، في رسالة طمأنة للأمريكان.
وربما يكون الموقف الأمريكي الرافض للعملية العسكرية التركية، يندرج في محاولة استرضاء الجانب الكردي وعدم خسارته بشكل كامل، في الوقت الذي يرى الكرد أن الأمريكان تخلوا عنهم مرة أخرى، هذا ما جعل قادة منظمة “قسد”، يحاولون مغازلة النظام السوري، ويطالبوه بإبداء موقفه من الخطوة التركية، بمعنى أنهم يطلبون دعمه كما حاول دعمهم في عفرين.
هل لروسيا دور في تسهيل هذه العملية؟
استثمر الأتراك جيدًا علاقتهم مع الروس بعد أن كادت أن تقع حربًا بينهما، وهي نقطة نجاح لصالح السياسية الخارجية التركية، ويستبعد أن هذه العملية العسكرية، لم يكن لها تنسيق مع الجانب الروسي، رغم أن منطقة العمليات، تقع تحت النفوذ العسكري الأمريكي.
تعتبر العملية الحاليّة متأخرة إذا ما علمنا أن تركيا كانت لديها فرص كثيرة للوصول لتلك المناطق، وربما كان يمكن لها أن تتجنب الصعوبات الحاليّة التي تواجهها الآن
ذلك لأن الروس إذا لم يكن لديهم رضى عنها، يمكنهم خلق مشاكل كبيرة للأتراك في مناطق المعارضة السورية المدعومة من قبلها، كما أن أحد أسباب غض النظر الروسي على العملية المرتقبة، أن تلك المناطق تحت نفوذ خصومها الأمريكان، وبالتالي فإن الحد من وجود منظمات موالية للأمريكان، يصب في المصلحة الروسية، ويبدو أن القيادة التركية نجحت بإقناع القيادة الروسية بالعدول عن اتفاقاتها مع الأمريكان في مستقبل سوريا، والعدول عن خطة “نموذج قامشلي” التي كان من المؤمل تطبيقها على جميع المناطق التي تسيطر عليها قوات “قسد”.
هل تأخرت تركيا في هذا الإجراء؟
تعتبر العملية الحاليّة متأخرة إذا ما علمنا أن تركيا كانت لديها فرص كثيرة للوصول لتلك المناطق، وربما كان يمكن لها أن تتجنب الصعوبات الحاليّة التي تواجهها الآن، واحدة من أهم تلك الفرص حينما كانت تسيطر قوات داعش على كثير من تلك المناطق التي طردتها منها “قسد” لاحقًا بمساعدة الأمريكان، حينها طلب الأمريكان من تركيا كثيرًا التدخل لطرد داعش، لكن الشروط التركية للتدخل بقواتها، كان من الصعب أن يوافق الأمريكان عليها.
كذلك الحال في موضوع سنجار وتحرير الموصل، كان للتردد التركي دور كبير في استمرار الخطر الأمني لها، رغم التصريحات التركية القوية في تلك الفترة على عزمهم التدخل، لكن بعد أن حصل ما حصل، فإن الإسراع بتنفيذ العملية هو المطلوب الآن، في الوقت الذي نحن فيه على أعتاب نهاية الحرب في سوريا لصالح نظام الأسد ومن خلفه روسيا وإيران.
إن ما نراه الآن، أن الأتراك بدأوا يجيدون اللعب على المتناقضات الموجودة في الساحة السورية، ورغم التأخر الذي رافق حركتهم، فإنهم ماضون الآن بالاتجاه الصحيح.