عندما نذكُر اسم الصعيد وسط أي تجمعات عربية أو مصرية أو في أي مكان، دائمًا نجده مقرونًا بالجهل والتخلف بجانب صورة الرجل الصعيدي المقتبسة من السينما، التي لا تبرح مخيلة أي شخص يُفكر في الصعيد، الزي التقليدي للرجل الصعيدي “العباءة واللاثة”، ورغم الصورة التي لم تتغير أو تتطور بشكل حقيقي منذ سنوات في الدراما المصرية، فإن المحتوى العربي المكتوب لم يساعد في توضيح الصورة الحقيقية كذلك، لهذا أجدها فرصة طيبة لأن أكتب أنا، الفتاة الصعيدية، عن المرأة في الصعيد وكيف تتمحور الحياة حولها، أكتب كشاهد عيان عن حقيقة الحياة التي يجهلها الأغلبية ويظلمها الكثيرون باعتقادهم التطرف والجهل عنها.
عندما أتطرق للحديث عن المرأة الصعيدية وحياتها المحدودة الضيقة لا تتوقعوا مني أن أغفل ذكر الرجل، لأن مجتمعنا هنا ذكوري من الطراز الأول و “الولد” يعني فيه الكثير، فالذكر هو المسيطر الأول على رغبة الفتيات سواء كانت زوجته أم ابنته أم أخته، بل وحتى أمه، أي أن الذكر هو الآمر والناهي وهو الصائب حتى وإن كان رأيه ومنطقه خطأ، وإن كانت المرأة في سائر الوطن العربي معرضة لانتهاك حقوقها أو تشتكي من ظلم وعنصرية في التعامل، فالمرأة في الصعيد أشد ظلمًا وحقوقها أشد انتهاكًا.
هناك فروق بين نساء الصعيد أنفسهن
عند الحديث عن المرأة الصعيدية يجب علينا أن نُفرق بين الأنثى في الريف والأنثى في المدينة، فرغم أن الاثنتين لا تمتلكان حقوقًا كبيرة، تقف المرأة في الريف في نظام أكثر ظلمًا وإجحافًا وأشد صرامة، فحياة نسوة الريف خشنة ضيقة وغالبًا ما تُعرف تفاصيلها لدى الجميع، بأنها لا تجديد فيها ولا مكان للتنفس بها، والحال يُشبه كثيرًا ما يحدث في أغلب القرى المصرية بل والعربية أيضًا.
وتتلخص مسيرة فتاة الريف الصعيدية في جملة “من بيت أبوكي لبيت جوزك للقبر”، جملة بسيطة وكلماتها قليلة ولكنها تصف بدقة ما يحدث في حياة الصعيديات الريفيات، فتولد البنت بعد أن يتم النفور من ولادتها وكره قدومها، لأن رغبة الأسرة كانت إنجاب الولد الذي يتباهون به وينشدون وجوده حتى وإن كبر وأصبح غير متعلم أو فاسد.
رغم أن حياة أنثى الصعيد الريفية نمطية يشوبها الجهل، سيكون إنكار مبدأ التعليم بشكل عام نوعًا من إجحاف الحق، فهناك العديد من الفتيات الريفيات يتعلمن ويعملن ويقومن بعمل أشياء فريدة بجانب حياتهن القروية
فالرجل بحسب كل الاتفاقات الاجتماعية المُعلنة، لا يعيبه إلا جيبه، تكبر الفتاة وعند أول فرصة للزواج تتزوج، لا يهم من ستتزوج أو بكم من الأعوام يكبرها، الأمر كله أن الزواج سترة للبنت، فلماذا لا نستر بناتنا ونتخلص من عبئهن الثقيل في وقت أبكر؟ تغوص الفتاة في أغوار المسؤولية والتعب وهي صغيرة السن، يمكن أن تكون ذات 15 عامًا أو أقل، تُنظف وتطعم ماشية المنزل وتخدم حماتها وتقوم برعاية كل صغيرة وكبيرة في بيت زوجها، وتحمل أيضًا في سن مبكرة وتنجب عددًا كبيرًا من الأطفال لتكون أم الولد وسيدة المنزل وسط قريناتها.
كيف يتقولب التعليم في حياة أنثى الصعيد؟
رغم أن حياة أنثى الصعيد الريفية نمطية يشوبها الجهل، سيكون إنكار مبدأ التعليم بشكل عام نوعًا من إجحاف الحق، فهناك العديد من الفتيات الريفيات يتعلمن ويعملن ويقومن بعمل أشياء فريدة بجانب حياتهن القروية، ولكن مهما تقدمت الفتاة في عملها أو دراستها نجدها في النهاية تخضع لمعايير معينة، فعند الزواج لن تفرق معها شهادتها، ولا يهم إن كانت طبيبة أو مهندسة وستتزوج من ابن عمها الفلاح الحاصل على مؤهل غير جامعي من الأساس، فمعيار الزواج الرئيس عند أي أسرة هو مدى معرفة الفتاة بأشغال المنزل وجمالها، ولا يهم إن كانت مُعلمة أو أحرزت أحد المراكز على الجمهورية في الثانوية العامة.
يكمن جوهر الاختلاف الحقيقي بين المرأة في صعيد مصر والمرأة القاهرية مثلًا، في الخضوع والسلطة
فهذا لا يمنع أن تتزوج من شخص أقل منها في التعليم، هذا ما شهدته بعيني من إحدى الزميلات، وسواء كانت رغبتها أم لا، نجد أن التفكير الواقعي يفرض عددًا من المعتقدات التي تحسبها الفتاة مع نفسها، لأنها لن تجد فرصة أخرى أفضل لها من الزواج بهذا الشكل، وفي بعض الحالات لا تشعر الفتاة بقيمتها وتعتقد أن لا حق لها في أن تختار شخصًا أفضل منها أو حتى يساويها في الفكر أو التعليم، وهذا في حد ذاته ظلم.
جوهر الاختلاف بين امرأة الصعيد وباقي النساء المصريات
يكمن جوهر الاختلاف الحقيقي بين المرأة في صعيد مصر والمرأة القاهرية مثلًا، في الخضوع والسلطة، فالفتاة هنا يمكنها أن تتعلم وتعمل وتحصل على أعلى الدرجات التعليمة ولكنها لا تستطيع، بحكم العادات والتقاليد، أن تُسافر وحدها أو أن تتمرد على الواقع أو أن تُخالط الرجال، فالعادات والتقاليد فرضت نوعًا شائعًا من الانغلاق، أصبح المصدر الرئيس لبعض المعوقات الأخرى، فأصبحنا نعاني من انغلاق في الفكر والملبس والحياة الحرة التي تسعى فيها الفتاة لتُثبت ذاتها.
أنت فتاة، إذًا لا يمكنك السير ليلًا في الشوارع وحدك، ولا يمكنك الظهور أمام الرجال، ولا السفر أو مد يدك على سفرة الطعام قبل زوجك أو أخيك الرجل! وفي كثير من الأحيان ليس لديك خصوصية وحقك منتهك، فما الذي يمكن أن تخفيه فتاة أو امرأة ولا يمكن ظهوره أمام الناس؟ بالتأكيد هو إثم وهذا ليس من حقك بالتأكيد.
كيف ينظر المجتمع الصعيدي للمطلقات والأرامل؟
أن تكون هناك امرأة صعيدية أُم كانت أو فتاة، فحياتها مليئة بالأعباء الصعبة التي تُثقل كاهلها، ولكن ماذا لو كانت مُطلقة أو أرملة في الصعيد؟ هنا الأمر أشد وطأة ووعورة، فإن كان المجتمع يُسلط الضوء على المرأة في حالاتها العادية التي لا تستدعي الانتباه، ماذا سيحدث تجاه الأنماط التي تلقى جدلًا كبيرًا بين النساء العربيات كافة؟ الواقع يخبرنا أن الأمر سيء، فهنا تخضع أغلب النسوة إلى القيل والقال، إلى الخوف من العيب قبل الحرام، وتحريمات المجتمع كثيرة، على رأسها، أنتِ أرملة فليس لكِ الحق في الحياة وبعد وفاة زوجك يجب أن تُكرثي عمرك كله للفناء في حبه والعيش على ذكراه، أما أن تتزوج بعد وفاة زوجها! فهذه خطيئة في نظر الكثيرين، بجانب ملابس الحداد الواجب عليك ألا تخلعيها حتى وأنتِ في المنزل.
بينما المُطلقة هي امرأة متبوعة دائمًا باللوم والإثم، فما الذي طلقها؟ وكيف استطاعت أن تعيش دون ظل رجل؟! حتى وإن كانت الحياة مع رجل تكرهه لا يُقدرها تُعذبها، فكان الواجب أن تتحمل لأجل صغارها.
عادات وتقاليد تُقيد المرأة الصعيدية
بحكم الطبيعة الجغرافية الجنوبية والعصبية التي كُتبت على أغلب سكان الجنوب في كل أنحاء العالم، نجد أن هذه العصبية سبب لتبني بعض المعتقدات والقناعات بين أبناء الصعيد ككل والنساء خاصة، بداية من انتشارها والتصديق عليها والالتزام بها، سواء رغبن في ذلك أم لا.
فبحكم العادات الصعبة في الحياة الصعيدية نجد أن السيدات تمتنعن عن العديد من الأشياء وتتنازلن عن الكثير من حقوقهن رغبة في الخضوع وعدم الخروج عن القطيع المكتوب عليهن، فلا يجوز أن تكون مستقلة أو أن يكون لها كيانها الخاص، فهي تابعة ويوجد من يتحدث باسمها ونيابة عنها، فامرأة دون رجل هي أنثى كسيرة معطوبة، لا يمكنها القيام بمفردها بأي شأن من شؤون الحياة.
هناك من يحلمون لفتياتهم بالتقدم وتحقيق الذات بدلًا من هؤلاء الذين يكمن فكرهم للفتيات في راحة القلب وستر العرض، على حد تعبيرهم، وهؤلاء هم قادتنا للتغيير والتنوير
كما تُقاس عزوة أي أنثى بعدد الرجال في عائلتها، وتكمن المشكلة الرئيسية بأنهن لا يدرين بأن الواحدة من شأنها أن تُغير ما فُرض عليها وتثور على التقاليد المتوارثة، طالما هي مظلومة وحقها مُجحف، وهذا بسبب ظروف قهرية أشد وأقوى من قدرتهن على التحرر، فبدلًا من الاعتراض والتمرد نجد المرأة تضغط على بنات جنسها لتكون أقسى عليها من الرجل نفسه.
رغم كل التحديات هناك نساء جسورات
لكل قاعدة استثناء وفي كل مجتمع هناك من لا يرغبن في السير وراء القطيع، ورغم كل الانغلاق الذي نعيشه والقيود التي تُربكنا، نجد دائمًا بصيصًا من الأمل، ليس في النساء وحدهن، بل في بعض الأسر التي ترفض هذه المواقف وتتبنى مواقف ووجهات نظر مختلفة وتدعم فتياتها، وحتى وإن كان عددهم قليل فهم موجودون.
فنجد أن في الصعيد فتيات يسافرن وحدهن ويغتربن خارج مصر وفي بلاد أوروبية في بعض الأحيان، ونجد أن كثيرات يسرن على مسار الدرب الصحيح، طبقًا لعادات الحياة السوية وليس درب المجتمع المنغلق المتحامل على الأنثى، هناك من يحلمون لفتياتهم بالتقدم وتحقيق الذات بدلًا من هؤلاء الذين يكمن فكرهم للفتيات في راحة القلب وستر العرض، على حد تعبيرهم، وهؤلاء هم قادتنا للتغيير والتنوير.
ما أوضحته في هذا التقرير حقيقي ولن يتم تكذيبي عليه، ولكن بجانب كل الصعوبات التي نواجهها، لا يمنع الأمر وجود بعض النساء ممن لهن فكر ورؤى ويحاولن نصرة بنات جنسهن وتغيير واقعهن السيء وأنا واحدة منهن أحاول المناصرة والتغيير ولو بقلمي فهو ما أمتلكه من سلاح الآن.