ترجمة وتحرير: نون بوست
تعدّ اللغة العربية ثاني أكثر اللغات انتشارا في فرنسا، بحوالي ثلاثة إلى أربعة ملايين ناطق بالعربية، معظمهم من أصول شمال أفريقية. مع ذلك، فهي تُدرّس في ثلاثة بالمئة فقط من مدارس البلاد، وتأتي بعد الصينية والروسية. لماذا يحدث ذلك؟
ولماذا لا يتحدث العديد من الآباء والأمهات الناطقين باللغة العربية لغتهم الأم مع أطفالهم، ويمارسون نوعًا من “الرقابة الذاتية” التي تكسر آليات انتقال اللغة؟
هذا ما يتساءل عنه الفيلم الوثائقي “Mauvaise langue” (لغة سيئة)، وهو فيلم وثائقي بثته مؤخرًا قناة تلفزيونية فرنسية يسلط الضوء على مكانة اللغة العربية في البلاد.
يستند معدّ الفيلم نبيل واكيم، وهو صحفي في “لوموند” وُلد في لبنان، إلى تجربته الشخصية لدراسة العوامل التي ساهمت في تغييب اللغة العربية في فرنسا والحد من تعلمها.
في هذا التقرير، يعترف واكيم الذي تناول أيضًا هذه القضية المركبة في كتاب صدر سنة 2020، أنه امتنع عن التحدث مع ابنته باللغة العربية بـ”دافع غريزة البقاء” بعد الهجمات التي تبناها تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة في باريس سنة 2015.
ويقول إنه كان يشعر بالخجل عندما تتحدث إليه والدته باللغة العربية في الشارع بعد وصوله إلى فرنسا وهو في سن الرابعة.
ويضيف واكيم لموقع “ميدل إيست آي”: “هناك عدد من الصور النمطية المرتبطة باللغة العربية، وهي تشير إلى فكرة أنها لغة الإسلام ولغة الإرهاب وبالتالي فهي خطيرة”، مستنكرًا تأثير هذه الصورة النمطية على صورة اللغة العربية في النقاش العام والتعليم.
سمعة سيئة
كانت اللغة العربية تعاني من سوء السمعة في فرنسا حتى قبل أن يُشار إليها في نشرات الأخبار باعتبار أنها ترمز إلى “انغلاق المسلمين على أنفسهم” و”الإسلاموية”. وتُفهم “الإسلاموية” في فرنسا على أنها عقيدة متطرفة أو عنيفة.
تقول عالمة اللغويات نسرين الزّهر، مديرة مركز اللغة العربية والحضارات في معهد العالم العربي في باريس، لموقع ميدل إيست آي: “اللغة العربية في المخيلة الجماعية هي لغة المستعمرات السابقة والمهاجرين من المغرب العربي الذين جاءوا للعمل في فرنسا، إنها بطريقة ما لغة الفقراء”.
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وضعت فرنسا التي لم تعد في تلك الفترة بحاجة إلى عمالة أجنبية بسبب الأزمة الاقتصادية، نظامًا اختياريًا لتعلم اللغات الأجنبية في المدارس من أجل المساعدة على اندماج أبناء المهاجرين في بلدان آبائهم الأصلية، وبالتالي تسهيل هجرة العائلات من فرنسا.
أُطلق على هذا البرنامج “نظام تدريس اللغة والثقافة الأصلية”، وعُني بتدريس اللغة العربية والتركية والبرتغالية والإسبانية والإيطالية والصربية، وضم 80,000 تلميذ في المدارس الابتدائية سنويًا، أي 1.2 بالمئة من إجمالي عدد التلاميذ.
في تشرين الأول/ أكتوبر 2020، قرر الرئيس إيمانويل ماكرون إيقاف البرنامج لأن المعلمين المعنيين جاؤوا من الدول التي يُفترض أن يعود إليها الطلاب ولم يولدوا في فرنسا.
وقال الرئيس الفرنسي: “المشكلة التي نواجهها اليوم مع هذا النظام هي أن لدينا المزيد من المعلمين الذين لا يتحدثون الفرنسية، والذين لا تملك وزارة التربية الوطنية أي سيطرة عليهم”؛ حيث اشتبه الرئيس الفرنسي في أن هؤلاء المعلمين الأجانب “ينقلون قيما لا تتوافق مع قوانين الجمهورية”.
لكن المعلمين الأجانب الذين يدرّسون البرتغالية أو الإيطالية أو الصربية لم يكونوا معنيين بتصريح ماكرون، وكان المستهدف بشكل أساسي زملاؤهم الناطقون بالعربية.
وقد تزامن إعلان ماكرون عن نهاية هذا النظام مع جدل حول “الانفصالية الإسلامية”، حيث أعلن الرئيس الفرنسي أن بلاده ستعمل على “تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الأجنبية”.
وبعد بضعة أشهر، أقر البرلمان الفرنسي في 2021 “قانون تعزيز مبادئ الجمهورية”، وقد اعتُبر قانونا موجّها ضد المسلمين لإدخاله قوانين جديدة تتضمن توسيع إجراءات إغلاق المساجد وإقرار جريمة “الانفصالية” التي يُعاقب عليها بالسجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.
تمييز ضد اللغة العربية
أجرى واكيم في فيلمه الوثائقي مقابلة مع وزيرة التربية الوطنية السابقة نجاة فالو بلقاسم، التي حاولت تحسين تدريس اللغة العربية في سنة 2016، كجزء من تنويع تدريس اللغات الأجنبية.
إلا أن مبادرتها تعرضت للهجوم من اليمين الفرنسي، حيث اتُهمت بتمهيد الطريق أمام الطائفية والترويج لـ”التعليم الديني الإسلامي”، مما أجبر الوزيرة في نهاية المطاف على التخلي عن مشروعها.
على غرار واكيم، تأسف فالو بلقاسم، وهي أصول مغربية، لأن العربية تعتبر لغة خطيرة في فرنسا.
وقالت في الفيلم الوثائقي: “لا يزال يُنظر إلى هذه اللغة على أنها حصان طروادة للاستبدال العظيم، لعملية غزو مُتخيّلة، للإسلاموية المخيفة”.
وأضافت: “هذه حالة إنكار لوجود الكثير من الناس – من الملحدين والمسيحيين وغيرهم – الذين يتحدثون اللغة العربية ويقرؤونها ويكتبونها، هذا جهل لا يصدق بواقع الناطقين باللغة العربية”.
لا يوجد في فرنسا اليوم سوى 150 مدرسًا للغة العربية في نظام التعليم الثانوي بأكمله، ولا تتيح المناظرات المفتوحة لتوظيف المعلمين سوى عدد قليل من الوظائف للناطقين بالعربية.
علاوة على ذلك، يتم تدريس اللغة العربية بشكل رئيسي في المدارس الثانوية التي تقع في الأحياء التي يقطنها في الغالب طلاب من أصول أجنبية.
وقال واكيم لموقع ميدل إيست آي: “هناك مناطق بأكملها لا تتوفر فيها فصول لتعليم اللغة العربية بسبب عدم رغبة وزارة التربية والتعليم ومديري ومديرات المدارس في القيام بذلك”.
ويعتقد واكيم أن بعض مديري المدارس لا يفتحون دورات اللغة العربية عمدًا حتى لا يجذبوا الكثير من الطلاب من الطبقات الدنيا. وقال: “هذا الأمر يُظهر التمييز الطبقي”.
كما أكد واكيم أن العديد من الأسر الناطقة بالعربية لا ترغب في أن يختار أطفالها اللغة العربية كلغة أجنبية.
ويمكن تفسير ذلك جزئيًا بأسباب عملية؛ حيث يخشى أولياء الأمور من أن اختيار اللغة العربية قد لا يضمن الاستمرارية التعليمية لأن دروس اللغة العربية قد تتوقف من سنة دراسية إلى أخرى.
ويوضح واكيم لموقع “ميدل إيست آي” أن “الإصرار على تعلم اللغة العربية يولد خوفًا غير واعٍ لدى الأسر” بأن “اندماج أبنائهم يتطلب اختيار لغات أخرى”.
وتوضح الخبيرة اللغوية نسرين الزهر أن “هذا الخوف يكون ملموسًا أكثر لدى الأسر ذات الدخل المحدود، التي تتأثر أكثر بالصورة المهينة التي توصف بها اللغة العربية في فرنسا”.
وأضافت في حديثها لموقع “ميدل إيست آي”: “على العكس من ذلك، فإن الأوساط الأكثر ثراءً الناطقة بالعربية لا تعاني من ذلك لأنهم يعتقدون أن لديهم أصولًا يجب الاعتزاز بها، كما أنهم أكثر انخراطًا في عملية نقل اللغة”.
المصدر: ميدل إيست آي