يتعرض مخيم جباليا وشمال قطاع غزة بصفة عامة منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري لحرب إبادة مكتملة الأركان، على مرأى ومسمع من العالم أجمع، استهداف ممنهج لكل مقومات الحياة، تدمير للمدارس والمشافي ومراكز الإيواء، قتل وحرق وتنكيل واعتقالات وتجويع لعشرات الآلاف من المحاصرين داخل المخيم، في جريمة حرب واضحة تنسف كل معاني الإنسانية الجوفاء، وتُسقط الأقنعة المزيفة عن مدعي الحقوق والمبادئ.
17 يومًا و408 ساعات لم يتوقف فيها المحتل المدجج بأحدث أنواع الأسلحة، عن قصف المدنيين العزل، من نساء وأطفال وشيوخ، المحاصرين في مساحة لا تتجاوز 25 كيلومترًا على أقصى تقدير، والممارس بحقهم كل أنواع الانتهاكات المحرمة والمجرمة دوليًا، في مخطط عنصري فاشي يضع من خلاله جيش الاحتلال حياة أكثر من 80 ألف فلسطيني (متوسط سكان جباليا) فوق فوهة مدافعه ودباباته وفي مرمى طائراته، الحربية منها والمسيرة.
ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يمارس فيها المحتل إجرامه النازي بحق جباليا وأهلها، إذ ظلت عصية على الخضوع، آبية على الخنوع، رافضة – رغم الإجرام الوحشي – رفع راية الاستسلام، مستمسكة – مع الثمن الفادح – بالأرض والعرض، مستوثقة بإيمانها بالقضية في التصدي لمخطط التهجير وخطط الجنرالات التي يحيكها اليمين المتطرف، المهيمن على القرار السياسي والعسكري في دولة الاحتلال.
وعلى الجانب الآخر من الصورة التي قد تبدو قاتمة، تقدم المقاومة نموذجًا مشرقًا ومشرفًا في الاستبسال والصمود، تلك المقاومة التي توهم العدو أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من رفع الراية البيضاء، إذ بها تنبت من كل شبر في المخيم، وفي بقية مناطق الشمال، لتلقن جيش الاحتلال دروسًا استثنائية في فنون القتال من المسافة صفر، فبعد أكثر من 380 يومًا من الحرب ها هي تُسقط أرفع رتبة عسكرية في الجيش الإسرائيلي، في رسالة تحمل الكثير والكثير.
حرب إبادة مكتملة الأركان
تمارس قوات الاحتلال في جباليا وشمال القطاع نهجًا مغايرًا في الانتهاكات يعتمد في المقام الأول على العقاب الجماعي ضد كل الرافضين لتنفيذ مخطط التهجير القسري، لتتحول المعركة إلى حرب وجودية بين الجيش المحتل وأبناء الأرض، حرب يأبى الفلسطينيون الهزيمة فيها رغم الثمن الفادح الذي يدفعونه من حياتهم وحياة ذويهم ومستقبلهم الذي بات بلا أي ملامح.
وحرفيًا تنفذ القوات المحتلة خطة الجنرالات بحذافيرها في جميع مناطق الشمال، وفي جباليا الصامدة على وجه التحديد، كونها أحد أبرز وأهم معاقل المقاومة شمالي القطاع، ومعها بيت حانون وبيت لاهيا، حيث الحصار المطبق لكل من رفض النزوح وتمسك بالبقاء، وعزلهم تماما عن كل منافذ الحياة، فمُنع إدخال الطعام والشراب، ودُمرت المدارس ومراكز الإيواء، وأحرقت المشافي، وسًويت الأرض بما فوقها.
وبالتوازي يسابق جيش الاحتلال ومن خلفه قيادته السياسية الزمن لتجريد جباليا من جذورها التاريخية، وطمس هويتها، فبعد تدمير المعالم التراثية والأثرية بها، ها هو اليوم يستهدف العائلات ذات الإرث التاريخي الكبير، ويمحوها بالكلية من السجلات، متوهمًا أنه بذلك قد ينجح في نزع غزة عن عمقها الحضاري، ويُدشن لمرحلة جديدة من العصرنة تكون الكلمة فيها للكيان حديث النشأة.
وبلغ الإجرام الإسرائيلي حد رفض إجلاء العالقين تحت الأنقاض، وتركهم يواجهون الموت أحياء، كما أعلنت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) على لسان مسؤولة الإعلام بها، إيناس حمدان، بشأن رفض الكيان المحتل طلبًا عاجلًا منها للتدخل لإنقاذ العالقين جراء حرب الإبادة التي تشنها القوات المحتلة ضد الأطفال والنساء وتقديم المساعدات الإغاثية لهم.
وفي آخر الإحصائيات التي أعلنت عنها وزارة الصحة في غزة، أمس الأحد، ارتكب الاحتلال 7 مجازر ضد العائلات الفلسطينية في جباليا ومناطق الشمال، أسفرت عن ارتقاء 84 شهيدًا و158 مصابًا في غضون 24 ساعة فقط، فيما يوجد الكثير من الضحايا تحت الركام، لترتفع حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 42 ألفًا و603 شهداء و99 ألفًا و795 مصابًا منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
المقاومة.. استعادة التوازن عبر العمليات النوعية
توهم الاحتلال -كما توهم غيره من الحلفاء – أن الضربات التي تلقتها المقاومة من ارتقاء بعض قادتها وتضييق الخناق عليها مقابل جسر المساعدات الذي لا يتوقف لجيش الاحتلال، سيعجل من نهايتها، ويجعل استسلامها مسألة وقت لا أكثر، يتزامن ذلك مع تكثيف الغارات والانتهاكات ضد جباليا، معقل المقاومة الأول في الشمال.
لكن كانت المفاجئة غير المتوقعة، فبعد 17 يومًا من القتل والتدمير في جباليا، وتطويقها برًا وجوًا، وبينما كان ينتظر المحتل مشهد النهاية الأخير باستسلام المقاومة بعد أكثر من 380 يومًا من الحرب، إذ بها توقع قائد اللواء “401” في جيش الاحتلال، العقيد إحسان دقسة، أرفع ضابط يُقتل في الجيش الإسرائيلي منذ حرب غزة، وذلك جراء انفجار عبوة ناسفة في الآلية العسكرية التي كان يستقلها، بجانب إصابة ضابط قتالي من الكتيبة “52” بجروح خطيرة في العملية نفسها.
وبحسب ما نقله الإعلام العبري فإن الضباط، بمن فيهم دقسة، خرجوا من دبابتين على بعد نحو 20 مترًا من “نقطة المراجعة التي من المفترض أن يتواجد فيها الضباط لمراقبة منطقة القتال”، وهناك انفجرت فيهم العبوة الناسفة، التي تم تشغيلها باستخدام سلك بدائي يتم سحبه فتنفجر العبوة.
وبالتوازي مع تلك العملية كثفت المقاومة من عملياتها النوعية، التي تعتمد على السرعة وتحقيق الأهداف بشكل خاطف، والتي يسميها البعض بـ”الذئاب المنفردة”، وهي الاستراتيجية التي فرضتها التطورات الميدانية وتشير إلى التحرك الفردي ومنح العناصر المقاتلة أريحية نسبية في التعامل بعيدًا عن التحركات التنظيمية داخل “حماس” وبقية فصائل المقاومة.
ونجحت المقاومة رغم آلة التدمير الإسرائيلية في إيقاع العديد من الجنود في صفوف الاحتلال، عن طريق القنص المباشر، بين قتيل ومصاب، فيما أعلنت كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، وسرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في بيانات وإفادات خاصة، تكبيد الاحتلال خسائر فادحة، حيث استهدفوا عددًا من الدبابات من نوعية “ميركافا” وناقلات الجند من طراز “نمر” بقذيفة “تاندوم”، وعدد من الجرافات العسكرية من نوع “D9″، فضلًا عن إسقاط العديد من المسيرات وإرباك حسابات جيش الاحتلال في مناطق الشمال التي توهم أنها باتت تحت السيطرة بشكل كامل.
حرب استنزاف
تقدّر المقاومة جيدًا حالة الانتشاء التي عليها نتنياهو وجنرالاته عقب ارتقاء زعيم حماس، يحيى السنوار، وبعض كبار القيادات، وتراعي كذلك هرولة المحتل لاستثمار تلك الحالة في ترسيخ انتصارات ميدانية يدشن بها قواعد اشتباك جديدة ويفرض من خلالها معادلة ردع تضمن له ألا يشكل القطاع تهديدًا مستقبليًا، ويجز بها ما تبقى من عشب المقاومين.
ومن هذا المنطلق تأتي مواجهات الشمال بمثابة “معركة حياة أو موت” بالنسبة للمقاومة، فالعملية هناك أكبر من جولة مناطقية يحاول من خلالها كل طرف السيطرة ميدانيًا على كتلة جغرافية بعينها، فهي مواجهة ثنائية الأهداف، إما ترسيخ لواقع جديد وإما إبقاء معادلة الردع في إطارها المتوازن، وهو ما تعيه “حماس” ورفقاؤها في ميدان النضال جيدًا.
وتبرهن التطورات الميدانية منذ بداية الحرب على استماتة المقاومة لعدم خسارة أي منطقة، خسارة مطلقة، أيًا كان الثمن، والتنقل من تكتيك قتالي إلى آخر، حسب سير المعركة، وتحويل المواجهة من حرب مباشرة، محسومة النتائج في وقت قصير، إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، البقاء فيها لصاحب النفس الطويل، وهو ما يفسر قدرة الفصائل على لملمة شتاتها سريعًا ونجاحها في ترتيب بيتها الداخلي، القيادي والميداني، في كل منطقة يدعي الاحتلال أنه سيطر عليها، بداية من جباليا وبيت لاهيا في الشمال مرورًا بخان يونس في الوسط وصولًا إلى رفح جنوبًا.
وتعكس وحشية الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال – بين الحين والآخر – في جباليا ومناطق الشمال، الوضعية الميدانية المتأزمة لجيش الاحتلال، وكذب ادعاءاته بالسيطرة على تلك المنطقة، والقضاء على “حماس” بها، وهو ما تؤكده صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، التي ترى أن استمرار القتال في مخيم جباليا، يظهر “مدى المبالغة في الادعاءات الإسرائيلية بشأن النصر على حماس”، لافتة إلى أن الحركة “عادت وأمسكت بالأرض في المناطق التي ينسحب منها الجيش الإسرائيلي”، مشيرة إلى أن الحركة “لا تزال تدير مئات المقاتلين في منطقة المخيم”.
وأخيرًا.. تكشف معارك الشمال قدرة المقاومة على نسف ادعاءات الاحتلال بشأن النصر المطلق، مبرهنة على أن غياب السنوار ورفقائه عن الساحة لا يعني بأي حال من الأحوال تغييبهم عن المشهد، لا سيما بعدما باتوا شعلة تؤجج شموس النضال والصمود في نفوس المقاتلين، عكس ما كان يتوهمه المحتل الذي يحاول القفز على هذا الفشل – كالعادة – بتكثيف الانتهاكات بحق المدنيين والاستئساد على الأطفال والنساء بالقتل والحرق والتجويع، وسط صمت فاضح لعالم متخاذل ومجتمع دولي يعاني من العوار والعجز.