هي الأرض التي تتعرّف على أصاحبها من رائحة الدم، هو الوطن عندما ينادي على أبطاله إلى الشهادة، هو العشق الذي يأبى أن يُفصح عن كل أسراره وخباياه إلا عندما يتعلق الأمر بحب الفلسطيني لأرضه، فحينئذ يتجلى هذا العشق في أبهى صوره وأصدق تجلياته.
أشرف نعالوة الشاب البطل البالغ من العمر 23 عامًا فقط! ابن بلدة طولكرم شمال الضفة الغربية، الذي هز الاحتلال الإسرائيلي بكل قواته ودب الرعب فيه وهو ابن الـ23 ربيعًا فقط، الشاب الذي استطاع وحده وعلى قرابة 65 يومًا أن يثبت عجز الاحتلال عن نيل مراده إلى آخر رمق وهو يواجه هو وشابان آخران لقرابة ثلاث ساعات نخبة من أكبر ضباط الاحتلال الصهيوني!
استطاع ابن ضاحية شويكة شمال مدينة طولكرم بشجاعته التي لم نجد لها نظيرًا أن يؤرق الاحتلال ويكبده خسائر بشرية وعسكرية ومالية كبيرة؛ فقد جنّد الاحتلال 20 ألف جندي للبحث عن نعالوة لكن دون جدوى، وهذا ما جعل هذا الكيان الغاصب يفقد سيطرته ويجن جنونه، فعاث في الأرض فسادًا، حيث حطم أثاث آلاف المنازل وزج والد ووالدة وشقيقي أشرف بالسجن وكل أصحابه وأقاربه من الأطفال والنساء والشيوخ وكل من له صلة من قريب أو بعيد بالشهيد، حتى المدرسة التي تلقى فيها أشرف تعليمه الابتدائي لم تسلم من جنون هذا الاحتلال الغاصب، وهدد بهدم البيوت (بيت عائلة أشرف وبيوت أقاربه وأصحابه)، وهذا إن دل فإنما يدل على وحشية هذا الكيان الغاصب وغطرسته.
لا أعتقدُ أن توالي الأيام وتعاقب الشهور والسنوات كفيل بأن يدفن سيرة هؤلاء الأبطال في غيبات النسيان
ولكننا عندما نرى صور هؤلاء الأبطال وأخبارهم هنا وهناك رغم ما يعانونه من ظلم وقهر وهم يقومون بالعمليات الاستشهادية وأخذ ثأر كل من استُشهدوا قبل، فلا تكاد تجد شابًا استُشهد في الضفة حتى تجد من ينتقم له في القدس ولا تفتئ عينك تحزن وتدمع لما يحصل في غزة الجريحة حتى تجد من ينتقم في الضفة، إننا عندما نرى هذا التلاحم والتآزر بين من فرقهم احتلال غاصب ظالم لا يعرف للإنسانية طريقًا أو سبيلاً نكاد نجزم ونقول إن الأرض الفلسطينية – كل الأرض – بمدنها وقراها من غزة إلى الضفة بشجرها وحجرها ببحارها وأنهارها بثمارها ومياهها بكل ما فيها اجتمعت في قبضة هؤلاء الشباب.
قبضة فيها من الحب والوفاء ما تعجز أنت وأنت تشاهد من المغرب البعيد عن تفسيره، حب لا يُرى آخره ولا تجد شبيهه منذ زرع الله الحب في قلوب الخلق، نقي نقاء الماء الصافي، شاهق إلى أعلى السماوات، بدأت قصته مع أول قطرة دم تسقط رافضة للغريب القادم من غياهب الجب أن يقطن الأرض المباركة، كيف لا وأنت ترى شبابًا بهذا العمر يملكون وعيًا وإرادة وعزيمة، عزيمة هزمت جبروت كيان غاصب ومرغت أنفه في الأرض!
الشهيد أشرف نعالوة
إنني أتخيل أم البطل وهي تقول “ابني أشرف استودعته لرب العالمين وهو فخر لفلسطين وهو ليس ابني فحسب بل ابن فلسطين كلها، طلب الشهادة ونالها فالحمد لله، فاللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها” لن أستغرب أبدًا! فالأم الفلسطينية ليست كأمهات الدنيا تربط على قلبها ويوم استشهاد ابنها تزغرد وتملأ القاعة بالتكبير، تفرح وتوزع الحلوى والعصير، وتقول لكل الدنيا ابني البطل، ولنا في خنساء فلسطين خير مثال.
لا أعتقدُ أن توالي الأيام وتعاقب الشهور والسنوات كفيل بأن يدفن سيرة هؤلاء الأبطال في غيبات النسيان أو يحبس القلوب من وهج الحرقة أو الأعين من ذرف الدموع، فكلما رأيت صورهم ستتجسد في كل صورة كل حبة من تراب فلسطين الحبيبة، وتتراءى من ثنايا قسماته قبة الصخرة وشمس الحرية وأحياء القدس القديمة وأعلام الوطن وبيت المقدس وضحكات الأطفال وابتسامة الفدائيين الأحرار، كيف يموت هؤلاء ونحن نتتبع أنوارهم ونحفر أسماءهم وتفاصيلهم في قلوبنا قبل ذاكرتنا!
إنَّ من يموت فعلاً هو الجسد العابر، ومن يُنسى هم من لم يتركوا بعد رحيلهم أثرًا يُذكرون عليه، أو موقفًا يُحسب لهم
هؤلاء لم ولن يموتوا أبدا، كيف يموت من صدقوا ما عاهدوا الله عليه وساروا على الدرب إلى أن اصطفاهم ربهم، كيف يموت التاريخ المخطوط بالدم، المعبّد بالعزة والإباء، المنقوش على صفحات القلوب جيلاً بعد جيل، كيف يموت من زرع الصدق ونثر الحب وأحيا معنى الشهامة والبطولة، وشكل العِرق النابض المتبقي من أمة قضت منذ عقود كالضرير المقعد على كرسي متحرك تنهش في بعضها البعض، كيف يموت من يعرف عدوه ويصيبه على مسافة صفر، كيف يموت من ترتعد بذكرِ اسمه أطراف المحتلين كأنه زلزالٌ مدمر كأنه كابوس مرعب، فيهرعون إلى الكهوف والملاجئ خوفًا ورعبًا.
إنَّ من يموت فعلاً هو الجسد العابر، ومن يُنسى هم من لم يتركوا بعد رحيلهم أثرًا يُذكرون عليه، أو موقفًا يُحسب لهم، فليس لهم في سجل التاريخ من سطرٍ ولا حتى كلمة، ناهيك عن أولئك الذين باعوا الأرض قطعة قطعة وباعوا كل مبادئ الأمة المتوارثة وخلّفوا من العار والذل ما يقطع القلب إربًا إربًا، فهؤلاء لا يتردد التاريخ لحظة واحدة من أن يلفظهم إلى العدم كما يلفظُ البحر قاذوراته وأوساخه.
إن أمثال الشهيد البطل أشرف نعالوة الذي لفظ آخر شهقة له في الحياة فجر يوم الخميس ليُصنّف في عداد الشهداء، قد صار بعد ذلك أقرب إلى الحياة منه إلى الموت نفسه، ولا أعتقد أن بيتًا واحدًا من بيوت فلسطين لا يعلم الآن بقصة الشهيد أشرف وغيره من أصحابه الذين مشوا على دربه كالبرغوثي ومن قبله الشهيد أحمد جرار، فستظل ذكراهم في الصدور، فهم باقون ما بقي العهد بتحرير الأرض قائمًا، وباقون ما بقي الوعد بالعودة راسخًا، وباقون ما بقي اسم فلسطين محفورًا في وجدان كل إنسان ارتوى من مائها وتنفس من هوائها وتعلّم حروفها حرفًا حرفًا فنسي اسمه وتذكرها.
إنهم يرونه بعيدا وإنا والله نراه قريبًا.. لا تدعوا ذكرى الشهداء تمر عليكم مرور الكرام؛ تتبعوا أنوارهم وتفاصيلهم فإن نال هذه الأمة ضعف فلترابط قلوبكم على القوة وإن فتُرت أو وهنت وضعفت فلا تفتُر أرواحكم وقلوبكم أبدًا
إن العلاقة التي تربط كل شاب – سواء كان فلسطينيًا أم لم يكن – بفلسطين هي أكبر من علاقة أي إنسان آخر بوطنه، أو صاحب أرض بأرضه، إنها امتدادٌ عبر أجيال متعاقبة تتوارث ذاك الحب الأبدي الذي يزرعه كل أب وكل أم واعيين في ضمير ووجدان طفلهما فيما يُشبه صفة إنسانية تنتقل عبر الجينات، إنها تمازج الروح مع التراب في كائنٍ مُوحّد تعجز كلُّ قوى الأرض عن فصل مكوناته، ورغم أن الإنسان يُعاني في علاقته هذه من الفقد والآلام ويتمنى أن يساهم ولو بالقليل في صناعة هذا النصر، فإن اليقين بأن النصر قريب لا يمكن إلا أن يكون النتيجة الحتمية لإيمان عميق بالقضية.
وتحضرني هنا مقولة القائد أحمد الجعبري حين قال: “نحن جند الله في الأرض نحن حملة اللواء وسيبقى هذا اللواء مرفوعًا وسيبقى هذا اللواء خفاقًا لينتصر ويرفع على مآذن الأقصى وعلى حيفا ويافا وعكا وبيسان، فلسطين كلها لنا وليس لكم هنا إلا الموت، إنهم يرونه بعيدًا وإنا والله نراه قريبًا“.
نعم إنهم يرونه بعيدا وإنا والله نراه قريب.. لا تدعوا ذكرى الشهداء تمر عليكم مرور الكرام؛ تتبعوا أنوارهم وتفاصيلهم فإن نال هذه الأمة ضعف فلترابط قلوبكم على القوة وإن فتُرت أو وهنت وضعفت فلا تفتُر أرواحكم وقلوبكم أبدًا.. سلام على الشهداء.. وسلام للكتائب التي تمسح عار الأمة بالدم والبندقية.. وسلام للمقاومة بكل أطيافها التي ندين لها بالكثير.. بالكثير والله!