“نموت، يُدفن الجسد، تصعد الروح إلى بارئها، أمَّا حروفنا، فقد تلحق بنا.. وقد تظل حيَّة لا تموت”.. أسعد طه.
لطالما أسرتني هذه العبارة، أريد أن أقصّ أو أحكي حكايتي التي عشتها، لا أريد لقصص أصدقائي الشهداء أن تموت، ثم إني أحبّ أن تصل التجربة التي مررت بها إلى أكبر قدر من الناس ليس لأنها تجربتي بل لأنها تأرّخ للثورة في مدينتي داريا، لكن عوائق كثيرة كانت تمنعني من الرواية، على رأسها التردد والخوف أو ربما قلة الخبرة!
قبل سنوات، حدثني أحد الأصدقاء عن حضوره لمخيم في تركيا يقوده الكاتب والصحفي المصري أسعد طه حول الحكاية والفيلم الوثائقي، حكى لي صديقي عقبة (رحمه الله، توفي في الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا عام 2022) عن اختلاف المخيم عن أي دورة تدريبية أخرى، لناحية جودة تنظيمها ومادتها التدريبية، فهذا المخيم لا يعتمد على قاعدة وصف ونظام تدريبي على الطراز الشائع. كنت حديث عهد بعالم القصة والإعلام وظلت فكرة حضور هكذا مخيم في بالي، مذ سمعتُ ذاك الإطراء.
مناطق رمادية وحكايات
ينطلق المخيم التدريبي إلى الطبيعة، ينسجم معها ويطلق العنان لمخيلات المتدربين لصناعة مشاريعهم وقصصهم، وهذا ما دفعني إلى الانضمام للنسخة السادسة منه، والتي التأم شملها في قرية صغيرة بالقرب من العاصمة الألبانية تيرانا، بين 11- 19 تشرين الأول\ أكتوبر 2024.
وعن الهدف من إقامة المخيم في مكان مختلف كل مرة، يقول الأستاذ طه إنه يحب تعريف الناس على المناطق الرمادية في هذا العالم، مناطق لا نعرفها ولا نعرف شيئًا عن ثقافتها وأهلها لكن فيها حكايات يمكن أن تروى! وبهذا يقتبس طه تعريفه لنفسه: “أسافر إلى المناطق الرمادية في التاريخ والجغرافيا ثم أعود فأحكيها حكايات”، وهو ما برز من خلال مشاركته في تغطية الحروب في يوغسلافيا، والشيشان، وجنوب السودان، والصومال، وألبانيا، والكونغو، وتنقل في مناطق الأزمات الدولية مبديًا اهتمامه بمناطق البلقان وآسيا الوسطى.
متشابهون!
كان لدي هاجس في البداية حول الانسجام مع بقية المتدربين في هذا المخيم، كان الأمر يسيرًا، شبان من بلدان عربية مختلفة أتوا ليحكو الحكاية، متسلحين بقصص وروايات فرضها عليهم الواقع المتشابه سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا، وتجمعنا فلسطين وغزة التي كانت الحدث الأبرز وما يجري فيها من مجازر وبطولات.
لربما التقطت هنا فكرة قالها أحد الزملاء تبين أن الهمّ في أوطاننا مشترك وتفكيرنا متلاقي بشكل كبير: “كل مشاكلنا تأتي من كيان إسرائيل الذي تحميه حفنة من الأنظمة الوظيفية المحيطة به”، وهو ما أشار إليه أسعد طه بقوله إن شبابنا العربي أكثر وأغنى تجربة من الشباب الغربي، لثقل همومة وكثافة خبرته.
بعد أيام من النقاشات الجانبية ورواية القصص فيما بيننا والتعارف الذي عمّق علاقتنا، قالت لي الأستاذة هيفاء المنسي “يالطيف شو منشبه بعض يا أمي”، تشابه هموم وقضايا أكثر منه تشابه وجوه وملامح، ولا يمكن لي تخطي أن السيدة المنسي قد أخذت دور الأم في هذا المخيم، وهو ما جعل المتدربين يبدون كعائلة تجمعهم هموم مشتركة وأم حانية، لكن ابنتها أمل التي كانت معنا قالت بلغة من لسعتها الغيرة: نادوها “يا خالة”، لا “يا أمي”.
وما لاحظته، على انتماءنا لجغرافيا ممتدة، أن فئة الشباب الناشئين كانت غائبة عن هذا المخيم، رغم أنها تنشط على الساحة الرقمية في ميادين كثيرة إعلامية واقتصادية واجتماعية، بل على العكس هيمنت الفئات العمرية الأكبر سنًا التي عاشت الأزمات الكبرى خلال عقد ونصف مضى، ومرجوع ذلك -ربما- لتجارب كبيرة مرت بها تلك الأجيال تحتاج إلى صقل خبراتها من أجل رواية الحكاية!
زكاة العلم
أما عن المخيم فتعريفه على الموقع الرسمي أنه “دورة لتعليم مبادئ صناعة الفيلم الوثائقي والتدريب عليه، وذلك في مخيم بمنطقة طبيعية مما يسمح للمتدربين بالمعايشة الكاملة مع فريق التدريب على مدى الساعة، تعليمًا نظريًا وتدريبًا عمليًا”، وعلى الموقع أيضًا “نؤمن أن مخيمنا بدورته التعليمية ليست إلا خطوة في طريق طويل يجب أن يسلكه الراغب في التخصص بهذا المجال، ونؤمن أنه لا عصا سحرية قادرة على تحويل المتدرب إلى محترف في أيام، كما نقر بأن للفيلم الوثائقي أنواعا عديدة”.
الأهم، بحسب معاينتي، أن المخيم يطور مهارات السرد وطريقة معالجة القصة وكيف يمكن لأي إنسان أن يصنع حكاية من أصغر تفصيل ولنتشر بين الناس، إذ أن الحكاية قادرة على توصيل المنطق إلى عقول الناس، وكنت سألت الأستاذ أسعد طه عن مدى جلده لإقامة كل هذه المخيمات وما الطائل منها، ورسخ في عقلي من إجابته قوله: “ربما تستطيع اعتبارها زكاة للعلم ورغبة في تعليم الناس أن يحكو الحكايات”.
لم نخلق عبثًا!
في إحدى محاضراته، سُأل طه عن صناعة حكاية ربما غيرنا حكاها كثيرًا، فما القيمة المضافة لأن نروي مثلها نحن؟ وبعد توضيح أكاديمي عن وجود معالجة مختلفة لدى كل إنسان في صناعة أية حكاية ونظرة الأشخاص مختلفة في إدراك الأشياء، قال إن كل الحكايات حكيت ولم يتبق من جديد، لكن الجديد في كل مرة هو كيف ننظر للأشياء ونعالجها ونرويها ونقولبها بروايتنا ونضع بصمتنا الخاصة فيها، ومن هنا انطلق إلى أن الله لم يخلق أي شخص عبثًا فلكل إنسان مهمته وعلى كل إنسان أن يصنع ما ينبغي ولا يقف حائرًا أمام كل شيء يراه!
فهم أكثر للحكاية
رسح في ذهني أربعة قواعد أساسية لرواية القصة وصناعتها، سواء أردنا تقديم القصة للجمهور مكتوبة أم مرئية أم صوتية، وهي:
- أفضل طريقة لرواية الحكاية تبدأ بمقدمة مباشرة وواضحة.
- عند رواية الحكاية يجب الاعتماد على الذاكرة التي تلتقط التفاصيل التي تهم الرسالة، بعيدًا عن التفاصيل الطويلة التي قد تربك المتلقي.
- الرسالة يجب أن تكون واضحة وصريحة وتنتهي بعبارة تركز على الهدف الأساسي منها، سواء كانت بحثًا علميًا أو مقالة.
- القصة في النهاية تتحدث عن الشخصية الإنسانية، ولهذا يجب أن تحتوي على ما يربطها بالشخص الذي يرويها أو يكتبها.
التفاعل مع الجمهور:
- يجب أن يكون أسلوب السرد قريبًا من الناس، ومن الأفضل أن يُستخدم أسلوب يشد الانتباه، مثل أسلوب طرح الأسئلة في وسائل التواصل الاجتماعي.
- يمكن الاعتماد على الذاكرة في السرد، خاصة عندما ترتبط بالأحداث المهمة أو العلمية.
ثلاثة شروط يجب أن تتوافر في الحكاية:
- السرد: الأحداث التي تحرك الحكاية من نقطة إلى أخرى.
- الوصف: يُشعر المتلقي وكأنه يشاهد فيلمًا، فتتحرك كل الحواس لديه.
- الحوار: العنصر الذي يبعث الحياة في الأشخاص.
يجب أن نحرص على توفير المتعة للمتلقّين.
كل حكاية لها طريقة ومتطلبات ومواصفات وشروط، فتختلف قصة طفل عن شيخ، أو قصة دولة عن أخرى وهكذا.. الطرق الأنسب لتنفيذ الحكاية، ليست قواعدًا أو قوانين ولكنها إرشادات مبنية على دراسات يفضل الالتزام بها، وهي مختلفة عن الرؤية التحريرية.
أخيرًا.. لم يعط المخيم المقررات والمحاضرات بشكلها التقليدي للمتدربين وهو ما أكسبه أهمية ومتعة وزيادة في الفائدة، وعلى الرغم من عدم اكتمال المادة التدريبية بشكلها الأكاديمي إلا أن الحكمة بانتقاء القواعد والعناوين الأساسية تدفع المتدرب للبحث أكثر، خاصة إن كان قد بدأ في الطريق العملي في حياته، وعلى أمل أن تصبح هذه التجارب في المخيمات التدريبية متاحة لجميع من يريدها.