بينما تقطع أميالاً طويلة في قلب الصحراء الغربية الممتدة، وبعيدًا عن العاصمة المصرية، القاهرة، بما يقرب من 820 كيلومترًا، إذ ببقعة خضراء مضيئة، تكسر مدى الرؤية المغطاة باللون الأصفر، وتزيل شوائب السراب البصري، وكأنها لوحة فنية رائعة رسمتها الطبيعة بأناملها العابرة لكل حدود الخيال.
لن تحتاج إلى وقت أو جهد لتعرف أين أنت تحديدًا، فطبيعة العقارات التقليدية المبنية بحجر الكرشيف الذي يتكون من الملح والرمال الناعمة المختلطة بالطين، والأبواب والنوافذ المصنوعة من أخشاب شجر الزيتون والنخيل، واللآلئ الساحرة المنتشرة على جنبات المكان، ولباس المواطنين ولغتهم، تجعل الإجابة في متناول الجميع.. أنت هنا في ركن السحر والجمال والاسترخاء.. أنت في واحة سيوة.
تقع واحة سيوة البالغة مساحتها 94263 كيلومترًا، ويقطنها قرابة 30 ألف نسمة، على بعد 65 كيلومترًا من الحدود الليبية و300 كيلومتر غرب مرسى مطروح التي تتبعها إداريًا، تتميز بكونها أحد كنوز مصر المنسية، فهي قبلة الباحثين عن التميز والهدوء، ومسرى الكثير من نجوم هوليوود وأفراد العائلة المالكة في بريطانيا، وفوق هذا كله فهي مخزن التمور المصرية وبئر المياه الجوفية الذي لا ينضب أبدًا، هذا بخلاف ما تتمتع به من مقومات سياحية قلما تجد لها نظيرًا في مختلف دول العالم حتى أطلق عليها سكانها “جنة الله في أرضه”.
لماذا هذا الاسم؟
أرجع علماء وباحثو الآثار والتاريخ اسم سيوة إلى عدد من الأسماء القديمة، فالبعض أرجعه إلى أن الاسم جاء من كلمة “سيخت أم” وتعني أرض النخيل، وذلك لما تتميز به الواحة من كثرة أعداد النخيل بها، حسبما أشارت الدكتورة فاطمة الجبالي المدرس بقسم الآثار المصرية بجامعة الفيوم.
الجبالي لـ”نون بوست” كشفت أن الواحة قديمًا قد سميت بعدد من الأسماء منها “بنتا”، وقد وجد هذا الاسم في أحد النصوص المدونة في معبد إدفو، وسُميت كذلك “بواحة آمون” حتى عهد البطالمة الذين أسموها “واحة جوبيتر آمون”، وعرفها العرب باسم “الواحة الأقصى”، وهو الاسم الذي ورد في خطط المقريزي، في حين أشار إليها ابن خلدون باسم “تنيسوة”، وهو اسم لفرع من قبائل الزنتانة في شمال إفريقيا، كما أشار إليها الإدريسي باسم “سنترية”، وقال إنه يسكنها قوم خليط بين البربر والبدو.
وقوعها في قلب الصحراء لا يعني أنها فقيرة مائيًا، فلك أن تتخيل أن واحة سيوة هي المصدر الرئيسي للمياه المعدنية في مصر
وزادت المكانة التاريخية للواحدة نظرًا لبعض الأحداث العظام التي ساهمت في تعريف العالم بهذه البقعة المضيئة في صحراء مصر القاحلة، فتتشير الروايات إلى أن كهنة الإله آمون في معبده المقام في الواحدة قد تنبأوا بهلاك قمبيز، قائد جيش الفرس عقب احتلاله لمصر، وهو ما حدث بالفعل.
فحين جهز الرجل جيشًا قوامه 50 ألف جندي لهدم معبد آمون واحتلال الواحة، ضل الجيش طريقة وهلك في الصحراء ولم يصل إلى سيوة، وبعد تلك الحادثة تحققت نبوءة الكهنة في قمبيز فمرض ومات، ولعل هذا السبب هو ما دفع الإسكندر الأكبر إلى زيارة الواحة في 331 ق م بعدما نالت شهرتها الفائقة، حيث وصل للمعبد بصحبة الكاهن الأكبر إلى قدس الأقداس، وحين خرج بدا عليه الارتياح، ورفض الإفصاح عما حدث بالداخل، وكان كل ما قاله لأصدقائه: “سمعت ما يحبه قلبي”.
طقوس مميزة لأهالي سيوة
عيون المياه
وقوعها في قلب الصحراء لا يعني أنها فقيرة مائيًا، فلك أن تتخيل أن واحة سيوة هي المصدر الرئيسي للمياه المعدنية المعبأة في مصر قاطبة، فبها ما يقرب من 200 عين ماء يتدفق منها يوميًا 190 ألف متر مكعب من المياه، تستخدم لأغراض الري والشرب وتعبئة المياه الطبيعية والعلاج.
وتتميز الواحة بعشرات العيون المائية المميزة، غير أن أربعة منها فقط حققوا شهرة كبيرة لما وجد فيها من إمكانات علاجية كبيرة نظرًا لوجود بعض العناصر المعدنية المميزة، منها: عين كيلوباترا التي باتت من أكثر مزارات سيوة السياحية شهرة، وتعرف أيضًا بعين جوبا أو عين الشمس، وهي عبارة عن حمام من الحجر يتم ملؤه من مياه الينابيع الساخنة الطبيعية، ويدعي البعض أنها سميت تيمنًا باسم الملكة المصرية التي سبحت فيها بنفسها في أثناء زيارتها لسيوة، فيما ينفي البعض أن هذه الزيارة حدثت من الأساس.
تعد سيوة أشهر واحة في مصر لما تتمتع به من إمكانات ومقومات طبيعية مميزة، تنفرد بها عن باقي واحات مصر ويرتادها السائحون من جميع أنحاء العالم لما يتوفر بها من مقومات الجذب السياحي الكبير
كذلك عين فطناس التي تبعد نحو 6 كيلومترات غرب سيوة وتقع بجزيرة فطناس المطلة على البحيرة المالحة ويحيط بها أشجار النخيل والمناظر الطبيعية الصحراوية، إضافة إلى عين واحد، وتسمى أيضًا “بئر بحر الرمال الأعظم”، وهو ينبوع كبريتي ساخن على بعد 10 كيلومترات من الواحة بالقرب من الحدود الليبية في قلب بحر الرمال الأعظم.
أما العين الرابعة التي حققت شهرة فائقة فهي عين كيغار التي تستخدم المياه المستخرجة منها للأغراض العلاجية من الأمراض الصدفية الروماتزمية، حيث تبلغ درجة حرارة مائها 67 درجة مئوية وتحتوي على عدة عناصر معدنية وكبريتية.
هذا بخلاف أربع بحيرات رئيسية تتميز بهم الواحة: بحيرة الزيتون شرق سيوة وتبلغ مساحتها 5760 فدانًا، وبحيرة أغورمي أو المعاصر شمال شرق الواحة وتبلغ مساحتها 960 فدانًا، وبحيرة سيوة غرب مدينة شالي وتبلغ مساحتها 3600 فدان، وبحيرة المراقي غرب الواحة بمنطقة بهي الدين وتبلغ مساحتها 700 فدان.
جزيرة فطناس
المعالم السياحية
تعد سيوة أشهر واحة في مصر لما تتمتع به من إمكانات ومقومات طبيعية مميزة، تنفرد بها عن باقي واحات مصر ويرتادها السائحون من جميع أنحاء العالم لما يتوفر بها من مقومات الجذب السياحي الكبير، ففيها تجتمع أنواع السياحة الأربع في آن وهو ما لم يتحقق في أي مكان آخر في مصر.
النوع الأول يتمثل في السياحة التاريخية، وتتمثل في وجود المعابد التاريخية الكبرى كالوحي وآمون ومدينة شالي القديمة، أما النوع الثاني فهو سياحة السفاري، حيث بحر الرمال الأعظم والواحات المندثرة والقرية المتحجرة التي تعد بيئة جذابة للسفاري، ثم النوع الثالث وهو السياحة العلاجية والاستشفاء الطبيعي، حيث تتمتع بوجود عيون المياه الطبيعية الساخنة الصالحة للعلاج الطبيعي وعلاج الروماتيزم والروماتويد وآلام المفاصل، وأخيرًا السياحة الترفيهية، لما تتميز به من بحيرات وحدائق وإقامة حفلات الفنون الشعبية والأغاني السيوية.
معبد آمون
يعد هذا المعبد أحد أبرز الملامح السياحية لسيوة، ويقع أعلى قلعة أغورمي، ويعود إلى أحمس الثاني 570-526 ق.م، أول فرعون يعتلي عرش مصر من أصول صحراوية ويعتبر أول من بنى بها المعابد، وهو من أسرة هاجرت قديمًا من الصحراء إلى وادي النيل وتقلدوا مناصب كبيرة إلى أن صار هو الفرعون وكون أسرة حاكمة، وسمي كذلك بمعبد الوحي ومعبد التنبؤات ومعبد الإسكندر الأكبر.
جبل الموتى
يبعد نحو كيلومترين عن سيوة، ويضم مجموعة من المقابر الأثرية التي تعود للفترة ما بين القرنين الرابع والثالث ق.م، التي أعيد استعمالها خلال العصرين اليوناني والروماني، واكتشفت المقابر فيه نتيجة لهروب أهالي سيوة إلى الجبل خلال غارات الحرب العالمية الثانية، ومن أبرز المقابر الموجودة فيه، مقبرة التمساح ومقبرة سي آمون ومقبرة باتحوت.
جبل الدكرور
واحد من أكثر المعالم جاذبية، يقعد على بعد 3 كيومترات من جنوب الواحة، عبارة عن سلسلة من التلال المتجاورة، له قمتان تسميان “نادرة وناصرة”، في قمة ناصرة توجد مغارة منحوتة في الصخر تسمى “تناشور”، وأسفلها يوجد أثر يسمى “بيت السلطان” مصنوع من الحجر الجيري النظيف.
هل تتخيل أن فندقًا بلا كهرباء ولا خدمات؟ ذو مبانٍ طينية وغرف ملحية، أسرة من “جريد النخل” وعين مياه تحولت إلى حوض سباحة؟ هذا بالفعل ماعليه فندق “أدرال ملال” أو “الجبل الأبيض” الذي يقع بواحة سيوة ويعد وفق خبراء من أغرب فنادق العالم إن لم يكن أغربها على الإطلاق
الجبل يشتهر برماله الساخنة ذات الخصائص العلاجية، واحتوائه على الصبغة الحمراء المستخدمة في تصنيع الأواني الفخارية السيوية، تحول في وقت قصير إلى قبلة السائحين الأجانب والمصريين على حد سواء لا سيما في فترة الصيف، وذلك للاستمتاع بحمامات الرمال الساخنة التي تتميز بقدرتها على علاج الأمراض الروماتيزمية وآلام المفاصل والعمود الفقري والأمراض الجلدية.
قلعة شالي
“شالي” هي أكبر مدن الواحة، يتوسطها “قصر شالي” ذو الصيت الشائع، ومنه تأخذك الممرات الرملية إلى عدد من المعابد المجاورة على رأسها “معبد الوحي”، يرجع تاريخ تأسيسها إلى عام 1203، وكان لها باب واحد فقط بغرض الاطمئنان على دفاعاتها، وسمي “أنشال” بمعنى باب المدينة، وكانت تعد الحصن الحصين للواحة قديمًا، غير أنها تعرضت للعديد من أوجه الدمار على أيدي الغزاة قديمًا في القرن الثالث عشر.
أغرب فندق في العالم
هل تتخيل أن فندقًا بلا كهرباء ولا خدمات؟ ذو مبان طينية وغرف ملحية، أسرة من “جريد النخل” وعين مياه تحولت إلى حوض سباحة؟ هذا بالفعل ما عليه فندق “أدرال ملال” أو “الجبل الأبيض” الذي يقع بواحة سيوة ويعد وفق خبراء من أغرب فنادق العالم إن لم يكن أغربها على الإطلاق.
الطبيعة الغريبة للفندق جعلته قبلة للشخصيات البارزة ورجال الأعمال والفنانيين ممن أرادوا معايشة تلك التجربة، فكان مقصد الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا الذي له جناح مخصص في هذا الفندق، وهو ما شجع 14 سفيرًا من عدة دول، بينها البرازيل وبلجيكا وفرنسا والمكسيك والاتحاد الأوروبي وسويسرا، على خوض التجربة ذاتها، حيث الإقامة في الفندق، وقضاء ليلة بمبنى مصمم على التراث السيوي.
الدكتور منير نعمة الله صاحب فكرة إقامة الفندق على حالته تلك، قال في تصريحات له “بدأت الفكرة في تسعينيات القرن الماضي، وكان المكان مجرد صحراء يحيطها الجبل والنخيل وتتوسطها عين مياه، وكان هذا المكان مجرد حجرة للطعام والمبيت، وبعد ثلاثة أيام قررت أن أصمم مشروعي ليكون بلا كهرباء لأنني بعد ثلاثة أيام من الإقامة كنت أشعر بحالة من السلام النفسي غير المسبوق، وقد كان، ولم أتوقع أن يحقق المشروع هذا النجاح الكبير، ويصبح وجهة عالمية”.
فندق أدرار أغرب فنادق العالم
عيد الحصاد
طقوس شعبية تعود إلى نحو مئتي عام تقريبًا، حيث يسارع أهالي الواحة إلى جبل الدكرور ليقضوا هناك ثلاث ليال قمرية في احتفالية سنوية يسميها الأهالي “عيد الحصاد” تزامنًا مع انتهاء موسم حصاد الزيتون والبلح، حيث تكتسي جنبات الجبال بالألوان المفرحة المبهجة ويسود طقس من الدفء والود والمحبة بين سكانها.
رغم التطورات التكنولوجية التي لحقت بالواحة في مقابل حزمة من المشكلات التي تواجه سكانها كالتصحر وزيادة استهلاك المياه الجوفية، غير أن أهالي سيوة لا يزالون حتى الآن رافعين شعار التمسك بتراثهم الثقافي والمجتمعي
أصل هذه المناسبة يعود إلى نجاح أحد مشايخ الطرق الصوفية ويدعى محمد المدني في عقد مصالحة بين أهالي الواحة المتنازعين حينها، حيث كانت تتسبب تلك المنازعات في إفساد الحياة على بقية السكان، وجمعهم لعقد صلح فوق جبل الدكرور، ومنذ هذا الحين قرر أهالي سيوة الاجتماع كل عام فوق الجبل لإحياء سير التصالح والتسامح بين الجميع في أجواء احتفالية مميزة.
الاحتفال بعيد الحصاد
كذلك يوجد مهرجان التمور، وهو المهرجان الذي توقف قبل فترة ثم تم إحياؤه مرة أخرى قبل 3 سنوات، حيث يجتمع نحو 200 من أصحاب مزارع النخيل ومصانع التمور، ليتنافسوا فيما بينهم بجائزة صاحب أفضل محصول في العام، علمًا بأن الواحة تحتوي على نحو مليون نخلة، تنتج نحو 84 ألف طن من التمور ويقدر إنتاجها السنوي بنحو 1.5 مليون طن، أي ما يعادل 20% من الإنتاج العالمي المقدر بـ7.5 مليون طن.
ورغم التطورات التكنولوجية التي لحقت بالواحة في مقابل حزمة من المشكلات التي تواجه سكانها كالتصحر وزيادة استهلاك المياه الجوفية، غير أن أهالي سيوة لا يزالون حتى الآن رافعين شعار التمسك بتراثهم الثقافي والمجتمعي والذي يترسخ يومًا تلو الآخر دون ان تزحزحه آلة العصرنة.