أول مرة تقرر فرنسا أن تكسر ألواح الثلج السميكة التي وضعتها على بروتوكول “باريس الاقتصادي” الذي كبد الفلسطينيين طوال الـ24 عامًا الماضية، خسائر مالية قدرت بمليارات الدولارات شلت اقتصادهم، وسمحت لـ”إسرائيل” أن تمتص أموالهم وتسرقها أمام أعين الجميع.
24 عامًا مرت على توقيع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، على ما يعرف بـ”بروتوكول باريس الاقتصادي” الذي ينظم العلاقة الاقتصادية بين السلطة والاحتلال، بتاريخ (29 من أبريل 1994)، لكن ما جرى خلال تلك السنوات لم يكن تنظيمًا للعلاقات الاقتصادية بقدر ما كان ظلمًا وقع بكل فصوله القاسية على الفلسطينيين الذين عانوا الأمرين من تبعات هذا البروتوكول الذي صنُف من أسوأ الاتفاقات التي وقعت مع الاحتلال.
ومع قرار فرنسا الأخير بفتح ملف “بروتوكول باريس الاقتصادي”، لتعديله، عاد الأمل مجددًا ليدب في نفوس الفلسطينيين، لإمكانية تعديل هذا البرتوكول المجحف والظالم، ووضع حد لسياسة تحكم “إسرائيل” بالاقتصاد الفلسطيني وحركة الاستيراد والتصدير، وعودة كل الأموال التي سرقت طوال الـ24 عامًا الماضية.
24 عامًا من الظلم
قال وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي: “فرنسا أبدت موافقتها الأولية على فتح بروتوكول باريس الاقتصادي، وتحديد الآليات المناسبة في كيفية المراجعة المطلوبة لهذا البروتوكول الموقع بين السلطة الفلسطينية والجانب الإسرائيلي ضمن اتفاقيات أوسلو”.
على ضوء هذا التطور الذي جاء بعد 24 عامًا، قال وزير العمل الفلسطيني مأمون أبو شهلا: “اتفاقية باريس الاقتصادية، كبدت الاقتصاد خسائر مالية تتجاوز المليار دولار سنويًا”
وأضاف المالكي: “يجب أن يتم تعديل هذا البروتوكول لصالح الحق الفلسطيني، بعد كل هذه السنوات من التعامل الذي كان يضر بالمصالح الاقتصادية الفلسطينية”، ونقلت إذاعة “صوت فلسطين” عن المالكي قوله: “رئيس الوزراء رامي الحمد الله، كلف وزيرة الاقتصاد عبير عودة، بمتابعة هذه المسؤولية المباشرة مع الفرنسيين”، وأضاف: “نحن بانتظار الإشارة من الجانب الفرنسي للتعاون معهم في فتح هذا البروتوكول وعمل المراجعة المطلوبة، وهو ما يستدعي من باريس التواصل مع الجانب الإسرائيلي لمعرفة طبيعة ردود فعله وهل لديه الجاهزية للتعامل بإيجابية مع هذا الملف”.
وعلى ضوء هذا التطور الذي جاء بعد 24 عامًا، قال وزير العمل الفلسطيني مأمون أبو شهلا: “اتفاقية باريس الاقتصادية، كبدت الاقتصاد خسائر مالية تتجاوز المليار دولار سنويًا”، ويوضح أبو شهلا، أن هذا يعود إلى عدم التزام “إسرائيل” بالبنود التي تضمنتها الاتفاقية كحجز أموال المقاصة لعدة أشهر، واقتطاع جزء كبير منها لابتزاز السلطة، بالإضافة لتحكم “إسرائيل” بسياسات الاستيراد والتصدير، بما يحقق لها مكاسب تجارية على حساب الفلسطينيين.
توقيع اتفاق أوسلو الذي انسلخ عنه برتوكول باريس الاقتصادي
ويشير إلى أن ذلك مرتبطًا بنسب الجمارك المرتفعة التي تفرضها على المواد الخام والسلع نصف المصنعة التي تحتاجها الصناعات الفلسطينية، مضيفًا “كما قيدت اتفاقية باريس السلطة في إمكانية إقدامها على تأسيس بنك مركزي، ليتولى مهمة إدارة السياسية النقدية والمالية، بما ينسجم مع الحالة الاقتصادية، وذلك بسبب اشتراطات “إسرائيل” الالتزام بعملة الشيكل كعملة أساسية للتداول في السوق المحلية”.
واستطرد: “تستفيد “إسرائيل” جراء ذلك من وجود سوق إضافي، تستطيع من خلاله التحكم في نسب السيولة، وأسعار الصرف بحجم الاقتصاد الفلسطيني، الذي يعادل ثمانية مليارات دولار”.
بدوره قال مستشار الرئيس الفلسطيني للشؤون الاقتصادية محمد مصطفى: “اتفاق باريس تخطاه الزمن وتخطته إجراءات “إسرائيل” الأحادية ولا بد من تغييره”، وذكر مصطفى أن تغيير الاتفاق يحتاج إلى جهد كبير، مشيرًا إلى أن التواصل مع الجانب الفرنسي في هذا الصدد خطوة في رحلة طويلة، معربًا عن عدم تفاؤله بالموقف الإسرائيلي وتوافقهم على تغيير الاتفاق بشكل كامل وشامل ومتوازن.
واعتبر أن الجانب الإسرائيلي يفهم فقط لغة الإجراءات الأحادية لأنه غير في الاتفاق من خلال فرض بنود غير موجودة فيه على أرض الواقع نتيجة سلوكه وتصرفاته الأحادية، وأشار إلى أن من الإجراءات الواردات التي تأتي من الجانب الإسرائيلي يتم فرض رسوم جمركية معينة عليها وبالتالي يصبح السوق غير مفتوح كما تنص عليه الاتفاقية بالإضافة إلى مجموعة من الخطوات التي فيها مصلحة للجانب الفلسطيني واقتصاده.
لفت الخبير في الشأن الاقتصادي سمير أبو مدللة، إلى أنه رغم مرور 24 عامًا على توقيع اتفاق “باريس الاقتصادي”، لم تحدث تغييرات جوهرية على معدلات نمو الاقتصاد الفلسطيني
وتعتبر فرنسا راعية رئيسية للاتفاق الذي وقع بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل” في أبريل عام 1994 في العاصمة الفرنسية باريس بهدف تنظيم العلاقة الاقتصادية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن ذلك لم يتم بسبب تعثر المفاوضات النهائية بينهما.
كيف سيستفيد الفلسطينيون من التعديل؟
“موافقة فرنسا المبدئية على فتح بروتوكول باريس الاقتصادي، ليست كافية لأن هناك بندًا في البروتوكول يتيح المجال لإمكانية التعديل كل ستة أشهر، وهو الأمر الذي لم يحدث طيلة السنوات الماضية بسبب التعنت الإسرائيلي”، الحديث هنا للخبير الفلسطيني في الشأن الاقتصادي، معين رجب، ويضيف “ديباجة البروتوكول تنص على أن الطرفين يتعاملان مع بعضهما البعض كندين وعلى أساس متكافئ كل منهما له حقوق والتزامات، لكن الجانب الإسرائيلي كان هو المسيطر وتعامل بتفرد بتطبيق هذا البروتوكول فهو يسمح وقتما يشاء ويمنع وقتما يشاء”.
ويشير الخبير في الشأن الاقتصادي إلى أن الجانب الفلسطيني ملتزم تمامًا بكل شيء في البروتوكول بغض النظر عن التزام “إسرائيل” وهذا يظهر حالة ضعف، داعيًا في الوقت ذاته إلى إدخال الدور الفرنسي في إمكانية تعديل البروتوكول، كونه وقع في أراضيها، رغم ذلك رأى أن فرص التعديل ضعيفة.
بدوره، لفت الخبير في الشأن الاقتصادي سمير أبو مدللة، إلى أنه رغم مرور 24 عامًا من توقيع اتفاق “باريس الاقتصادي”، لم تحدث تغييرات جوهرية على معدلات نمو الاقتصاد الفلسطيني والعديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، من تغيير في الناتج المحلي الإجمالي ومساهمة مكوناته فيه، ليس هذا فحسب، بل إنّه جرى تشويه سوق العمل الفلسطينية، وتحول الاقتصاد الفلسطيني إلى اقتصاد خدمي يغلب عليه الطابع الاستهلاكي، وزيادة العجز في الميزان التجاري الفلسطيني لصالح دولة الاحتلال، وتعميق الاعتماد على السوق الإسرائيلية.
احتجاجات فلسطينية على اتفاق باريس الاقتصادي
وأضاف أبو مدللة “جعل عملية الاستيراد مرتبطة باتفاقيه مع طرف ثالث ليس له ارتباط بعملية الاستيراد، يعقّد الإجراءات، خاصة إذا رُبط هذا البند بالذي يليه، ويتضمّن تحديد صلاحيات ومسؤوليات السلطة الفلسطينية، وربطها بقوائم محدده (A1, B A2,)، التي تتضمن 500 سلعة، ومن خلال هذه القوائم، فتح الاتفاق المجال أمام السلطة لاستيراد مواد محددة من دول عربية وإسلامية، خاصة مصر والأردن، وأصبح للفلسطينيين بديل عن السلع الإسرائيلية المصدر، بما فيها الأسمنت والفولاذ والأسمدة والأدوات الكهربائية.
وأشار أن التزام الفلسطينيين بفرض ضريبة القيمة المضافة على السلع المستوردة بنسبة لا تجاوز (2%) عن النسبة المعمول بها في “إسرائيل” وهي (17%)، حرم الاقتصاد الفلسطيني والمستهلك الفلسطيني من التمتع بتخفيض أسعار السلع الضرورية، كما حرم الصناعة الوطنيّة من إمكانية تلقي الدعم والتشجيع من خلال الضريبة المضافة، وهذا الربط لا يتناسب مع الظروف الاقتصادية في المناطق التي تديرها السلطة الفلسطينية، فالقطاعات الإنتاجية في “إسرائيل” متطورة وتستطيع تحمل هذا السعر المرتفع، ما أدى إلى تعزيز التبعية الفلسطينية للاقتصاد الإسرائيلي.
ثم تناول أبو مدللة بعض الحقائق عن اتفاق باريس الاقتصادي، فقال: “إسرائيل تتحكم بالمعابر والحدود وحركة النقل والتجارة وحركة الأفراد من وإلى فلسطين بالكامل، والاقتصاد الفلسطيني لا يستطيع الاستيراد أو التصدير من ومع دول لا تقيم “إسرائيل” علاقات سياسية أو تجارية معها، وهذا يعني أن التجارة الخارجية الفلسطينية تخضع للمعايير والمواصفات الإسرائيلية بالكامل، ولا يمكن للمستثمرين والمستوردين والمصدرين على حد سواء التعامل التجاري بأي سلع وبضائع لا تنطبق عليها المواصفات الإسرائيلية”.
واستعرض أبو مدللة بعض الاقتراحات لفك ارتباط تدريجي مع اتفاق باريس الاقتصادي، حيث قال: “لا يجوز للدولة القائمة بالاحتلال أن تفرض على المناطق الخاضعة لاحتلالها غلافًا جمركيًا واحدًا، لأن في هذا مخالفة للقانون الدولي، لهذا من الأهمية بمكان تقليص تأثيرات هذا الغلاف الجمركي الواحد إلى الحدود الدنيا، وذلك بخفض ضريبة القيمة المضافة، ما قد يؤثر بشكل إيجابي على توسيع القاعدة الإنتاجية الفلسطينية”.
قال نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون، إن حكومته سترفض طلب رئيس السلطة الفلسطينية، فيما يتعلق بإعادة فتح اتفاقية باريس الاقتصادية التي تحدد العلاقة الاقتصادية بين الجانبين بهدف تعديلها
وفي 9 من ديسمبر الحاليّ، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إننا أبلغنا الإسرائيليين أننا نريد أن نعدل اتفاق باريس أو أن يلغى، وقالوا نعطيكم الجواب بعد يومين أو ثلاثة، وبعد يومين استقال وزير الجيش الإسرائيلي، الذي كنا نتكلم معه، والآن لا نعلم مع من نتحدث.
الرفض الإسرائيلي القاطع
الرد الإسرائيلي على القرار الفرنسي بتعديل الاتفاقية جاء سريعًا، فقال نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون، إن حكومته سترفض طلب رئيس السلطة الفلسطينية، فيما يتعلق بإعادة فتح اتفاقية باريس الاقتصادية التي تحدد العلاقة الاقتصادية بين الجانبين بهدف تعديلها.
وأبدى أيالون تحفظّه على هذا المطلب، معتبرًا أن الاتفاقات الاقتصادية مع الجانب الفلسطيني مرتبطة ارتباطًا عضويًا بالاتفاقات السياسية التي كانت ستوقّع بين “تل أبيب” ورام الله، إلا أنها لم تتم بسبب مواقف الأخيرة – على حد قوله -.
وأضاف في تصريحات للإذاعة العبرية: “لا مجال لتعديل اتفاق باريس ما دامت العملية السياسية تراوح مكانها، في الوقت الذي تتراكم فيه الديون المستحقة على الفلسطينيين مقابل الكهرباء والوقود وغيرها ممّا يحصلون عليه من “إسرائيل”، فضلًا عن استمرار النشاط الفلسطيني المضاد لـ”إسرائيل” في المحافل الدولية”.
واتفاقية باريس الاقتصادية التي وقعت عام 1994 كانت الإطار الذي وضع شروط العلاقات الاقتصادية بين “إسرائيل” والسلطة الفلسطينية التي أنشئت كجزء من اتفاقيات أوسلو.
الجدير ذكره أن الضفة الغربية تشهد حركة احتجاج واسعة في ظل الغلاء وارتفاع أسعار المواد الأساسية والمحروقات، رافقها في بعض الأحيان إشعال للإطارات المطاطية وحاويات القمامة وإغلاق بعض الطرق بالمتاريس الحجرية، ومطالب بإقالة ورحيل رئيس الحكومة رامي الحمد الله.