تخصص تركيا كل عام، ما بين يومي 7 و17 من ديسمبر/كانون الأول، للاحتفال بذكرى وفاة الشاعر والمتصوف الفارسي الأصل، التركي الموطن، جلال الدين الرومي، المعروف بـ”مولانا”، وتُعرف ليلة وفاته بـ”شب عروس” أو ليلة العرس”، لأنها الليلة التي كان ينتظرها مولانا للقاء الذات الإلهية.
يُقام هذا العام نحو 3649 فعالية خلال عشرة أيام، وتتضمن هذه الفعاليات ندوات للحديث عن ديوان “المثنوي”، وعن فلسفة مولانا في التصوف باللغتين التركية والإنجليزية، إلى جانب العروض المسرحية التي تتناول حياة مولانا، والورش الفنية والمعارض للخط والرسم والمنمنمات، بالإضافة إلى حفلات موسيقى التصوف، وتُقام جميع هذه الفعاليات في كل المدن التركية، لكنها تتركز بشكل خاص واستثنائي في مدينة قونية التي تضم ضريح مولانا.
يعتبر كثير من الباحثين أن المؤسس الفعلي للطريقة المولوية، الذي نشرها في أرجاء الأناضول بمرحلة البدايات، هو سلطان ولد، ابن جلال الدين الرومي
لا تُعنى هذه المقالة بحياة جلال الدين الرومي الذي ولد في مدينة بلخ (تقع اليوم في أفغانستان) ولا برحلته في طلب العلم بالشام، قبل أن ينتقل مع عائلته إلى الأناضول عام 1212، ويستقر في مدينة قونية، عاصمة الدولة السلجوقية آنذاك، بقدر عنايتها بطريقته الصوفية المعروفة بـ”المولوية” وانتشارها في الأناضول، ومدى اهتمام سلاطين بني عثمان بها.
المولوية بعد مولانا
بحسب ما ذكر بديع الزمان فروزانفر، أستاذ الأدب الفارسي بجامعة طهران، في كتابه المعنون “من بلخ إلى قونية: سيرة حياة مولانا جلال الدين الرومي”، فإن جلال الدين الرومي لم يكن معنيًا بتأسيس طريقة لها نظامها وتقاليدها كما فعل خلفاؤه من بعده، حيث كان عاشقًا منهمكًا في نظم الشعر والنثر ومجالس السماع، بل إن مصطلح “مولوي” لم يكن من الأساس معروفًا على أيامه.
ويعتبر كثير من الباحثين أن المؤسس الفعلي للطريقة المولوية، الذي نشرها في أرجاء الأناضول بمرحلة البدايات، هو سلطان ولد، ابن جلال الدين الرومي، إذ أسس العديد من التكايا في مدن عديدة أخرى غير قونية، وكانت التكايا بمثابة المدرسة لمتصوفي المولوية، فكان على كل درويش أن يخدم في التكيّة لمدة 1001 يوم، وإلى جانب تعلّمهم أصول التصوف، كانوا يتعلمون أيضًا مهنًا عديدة كصناعة القناديل والمكانس.
جلال الدين الرومي
بالإضافة إلى ذلك كانوا يتعلّمون بعض الفنون كالموسيقى والخط والرسم على الخشب، ولعل أهم ما يميز الطريقة المولوية من بين سائر الطرق الصوفية الأخرى، أنها ساهمت في تشكيل التراث الموسيقي الصوفي، حتى قيل إن أعظم الملحنين الأتراك كانوا من المولوية.
المولوية والسلاطين العثمانيون
حظيت المولوية بالدعم والحماية من كثير من السلاطين العثمانيين وكبار رجال الدولة في أغلب الأوقات، وربما يكون سبب ذلك هو ابتعاد شيوخ المولوية في كثير من الأحيان عن الحركات الدينية والاجتماعية التي وقفت بوجه الدولة العثمانية، وهو ما أكسبها ثقة كثير من السلاطين حتى إن بعضهم انضم إلى المولوية.
السلطان محمد الفاتح (1432 – 1481) شيّد مسجدًا بالقرب من ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري، وكان يُقام بجوار المسجد حفلاً دينيًا رسميًا عقب اعتلاء كل سلطان جديد للعرش
وكان أول السلاطين الذين دعموا المولوية، السلطان مراد الثاني، وبحسب إحدى الروايات المتداولة، فإن السلطان في عام 1439 رأى مولانا في منامه، ووفاءً له، أمر بإقامة تكيّة كبيرة لدروايش المولوية في إدرنة.
مرقد جلال الدين الرومي في ولاية قونيا
وفي عهد يافوز سلطان سليم، تم إنشاء العديد من الأوقاف لخدمة تكايا المولوية، وتم إمداد الماء إلى ضريح مولانا، وقد بلغ اهتمام يافوز سلطان سليم بالمولوية إلى حد أنه كان قبل خروجه إلى الحرب، يذهب إلى قبر مولانا في قونية وتكيّة المولوية، مثلما فعل على سبيل المثال قبل خروجه إلى مصر عام 1516.
جدير بالذكر أن السلطان محمد الفاتح (1432 – 1481) شيّد مسجدًا بالقرب من ضريح الصحابي أبي أيوب الأنصاري، وكان يُقام بجوار المسجد حفلاً دينيًا رسميًا عقب اعتلاء كل سلطان جديد للعرش، ويذهب السلطان في موكب رسمي إلى الضريح ليتسلم سيف عثمان الأول (الجد الأكبر للسلاطين العثمانيين) من يد شيخ الطريقة المولوية.
رقصة “السما” التي تشتهر بها الطريقة الصوفية المولوية
أما السلطان سليمان القانوني فأمر بصنع ضريح مولانا وولده بالمرمر، وكان مثل والده السلطان سليم يذهب لزيارة ضريح مولانا قبل خروجه إلى الحرب، وكان لدى السلطان سليم الثاني ابن سليمان القانوني ميلاً واضحًا للمولوية، وانتسب في عهده كثير من كبار رجال الدولة إلى المولوية، وفي عام 1558 أمر سليم الثاني ببناء جامع كبير أمام ضريح مولانا، وأنشأه المعماري العثماني الشهير معمار سنان.
ومن بين السلاطين الذين عنوا عناية خاصة بالمولوية، السلطان مراد الثالث، الذي يُعرف عنه أنه كان شاعرًا، ويظهر في ديوانه مدى عشقه لمولانا، وقد أمر بتوسيع تكية المولوية وبنى غرفًا للدراويش.
أما بالنسبة للسلاطين الذين انتسبوا إلى المولوية، فكان السلطان سليم الثالث أولهم، وقد اشتهر بتأليف الموسيقى، وانتسابه للمولوية جعلها تتبوّأ في عهده مقامًا رفيعًا، حيث عُمّرت التكايا وشُيّدت الأوقاف لخدمتها، وكان الشاعر المولوي الشهير “شيخ غالب” مقربًا من السلطان، حتى إن سليم الثالث أخذ بعضًا من أشعاره وأشعار مولانا ولحنها، وبحسب بعض الروايات، فإنه رغم العصيان الذي قاده أحد شيوخ المولوية وهو محمد أمين شلبي ضد عساكر “النظام الجديد” في عهد سليم الثالث، فإن السلطان أمر بعدم إيذائه.
السلطان محمود الثاني أيضًا كان منتسبًا إلى الطريقة المولوية، وقد اهتم بنفسه بعائلة مولانا، حيث خصص لهم معاشًا شهريًا، وكان حريصًا على اصطحاب أولاده: الأميرين عبد المجيد وعبد العزيز معه إلى مجالس المولوية، وجدير بالذكر أن شيوخ المولوية كانوا أصحاب كلمة في عهد محمود الثاني، وبحسب إحدى الروايات فإن “علي نوتكي داداه” وهو أحد شيوخ المولوية قال للسلطان: إذا كنت تأتي إلينا بصفتك محمود أفندي فأهلاً بك، أما إذا كنت تأتي بصفة السلطان محمود فلا تأت.
وقد حرص ابنه عبد المجيد بعد اعتلائه العرش خلفًا لوالده محمود الثاني على إقامة علاقات طيبة مع شيوخ المولوية، وجدد تكية المولوية بجلاطة سراي، وهي على شكلها هذا حتى اليوم، ومن أجل تعليم ديوان “المثنوي” لمولانا، أمر عبد المجيد بافتتاح “دار المثنوي” في تكية مراد مولا بحي الفاتح.
بعد صعود عبد الحميد الثاني إلى العرش، شهدت العلاقات بين المولوية والسلطان منعطفات مختلفة، ففي المرحلة الأولى كان بعض شيوخهم يذهبون إلى قصره لقراءة المثنوي، ولكن مع صعود نجم حركة “تركيا الفتاة” المعادية لعبد الحميد، وانتشار الأخبار بأن هناك محاولات تقارب بين أعضاء تركيا الفتاة ودراويش المولوية، وضع عبد الحميد المولوية تحت عينيه بشكل دائم.
وربما يكون من ضمن أسباب عدم ارتياح عبد الحميد الثاني إلى المولوية، هو أن ولي عهده رشاد (محمد الخامس) كان مولويًا، وقد تعرض شيوخ المولوية الذين ارتبطوا بالسياسة في عهد السلطان عبد الحميد إلى بعض المضايقات، أما الذين ظلوا بعيدين عن السياسة فكانت علاقتهم جيدة بالسلطان، حتى إنه جدد تكية كوتهية لهم.
بعد الانقلاب على عبد الحميد الثاني، آخر سلطان عثماني يمارس حكمًا فعليًا، واعتلاء محمد الخامس العرش، قام شيخ قونية عبد الحليم شلبي بتسلميه سيف الخلافة، وفي فترة الحرب العالمية الأولى، أعدّ شيوخ المولوية جيشًا تطوعيًا، وذهبوا إلى الشام، لكنهم لم يشاركوا في الحرب، كانوا فقط من أجل المساندة الروحية للجيش التركي.
تأسست الجمهورية التركية عام 1923، وضمن الخطوات التي اتخذها مصطفى كمال لعلمنة الحياة الاجتماعية، التي وُضعت موضوع التنفيذ في عام 1925، أغلق أتاتورك جميع الزوايا والتكايا في البلاد وحوّلها إلى متاحف، وظلت مغلقة خلال حكم حزب “الشعب الجمهوري”، حتى أُعيد افتتاحها من جديد مع وصول الحزب الديمقراطي برئاسة عدنان مندريس، في مطلع الخمسينيات.