تتواصل معاناة اللاجئين الماليين في مخيم أمبرة الواقع في قلب الصحراء شرقي موريتانيا، للعام السادس على التوالي، معاناة يبدو أن لا نهاية لها في الوقت القريب على الأقل، فالمشاكل ذاتها أو أكثر بقليل ويد الموريتانيين قصيرة والدعم الدولي مفقود وإرادة العودة الطوعية لا توجد لدى غالبية اللاجئين.
أمبرة.. حكاية غربة وتشرد
بدأت المعاناة، في يناير/كانون الثاني 2012، مع إعلان “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” الحرب على القوات المالية من أجل طردها من إقليم أزواد شمال البلاد، وتدعمت مع دخول حركتيْ التوحيد والجهاد وأنصار الدين في المعركة وإعلان سيطرتهما الكاملة على المنطقة، ما دفع الجيش الفرنسي والاتحاد الإفريقي للتدخل العسكري ووقف زحف هذه الجماعات المسلحة على باقي البلاد.
هذا الصراع العسكري متعدد الأطراف، دفع الآلاف من سكان إقليم أزواد المالي إلى اللجوء للشرق الموريتاني والإقامة بمخيم خاص أقامته الحكومة الموريتانية لهم قرب مدينة باسكنو الحدودية، عرف المخيم فيما بعد بمخيم أمبرة.
ومع الوقت، نما المخيم بشكل كبير وتناثرت مئات الخيم البيضاء فوق رمال تلك الصحراء الصفراء القاحلة اللامتناهية في الشرق الموريتاني، حتى فاق عددهم المئة ألف نتيجة تواصل القتال وخوف اللاجئين على حياتهم إن عادوا إلى منازلهم وقراهم التي غادروها.
ينص الاتفاق على وضع إطار قانوني لعودة أكثر من 40 ألف لاجئ مالي لا يزالون يقيمون في مخيم أمبرة شرقي موريتانيا
نتيجة هذا التدفق المتواصل للاجئين الماليين إلى موريتانيا، تحولت أغلب أحياء إقليم أزواد ومنازله إلى أطلال مهجورة، وأشكال بلا أرواح بعد أن ظل قرونًا من الزمن يعج بالحياة والناس، ويستنشق أريج الماضي وعبق التاريخ، ما جعل البعض يطلق عليه إقليم الأقفال الموصدة والبيوت المغلقة.
وينقسم المخيم إلى أربع مناطق مختلفة، مقسمة إلى كتل، يتركز فيها: البولار والبامبارا والسونغاي والبيضان، وقبل كل شيء الطوارق، وقد جاء أغلبهم من مناطق مختلفة تضررت بشدة خلال نزاعات عام 2012 (تمبكتو وتينينكو أو نيورو، وغاو وكيدال أو موبتي).
طوارق وعرب وفلان وسونغاي، تعددت الأقليات في إقليم أزواد، لكنها جميعًا اتجهت نحو هذا المخيم، لتمتزج وتشكل حكاية واحدة لها لون الضياع وطعم الغربة والتشرد، حكاية يتجرعها الجميع بمرارة، ويعبر عنها في كبرى المنتديات والمؤتمرات دون أن يكون لها حل.
اتفاق لتنظيم العودة الطوعية
قبل سنتين من الآن، وقعت موريتانيا ومالي والمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، اتفاقًا لتنظيم العودة الطوعية للاجئين الماليين في موريتانيا إلى بلادهم، غير أنه لم يطبق، فأغلب اللاجئين رفضوا العودة كل وأسبابه.
وينص الاتفاق على وضع إطار قانوني لعودة أكثر من 40 ألف لاجئ مالي لا يزالون يقيمون في مخيم أمبرة شرقي موريتانيا، كما يقضي بتشكيل لجنة ثلاثية من البلدين والمفوضية لتحديد الإجراءات العملية لعودة هؤلاء الطوعية.
وتضمن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بموجب الاتفاق توفير الظروف الملائمة للراغبين في العودة من خلال تقديم الدعم المالي لهم، والعمل على تحسين أوضاعهم المعيشية في مناطقهم الأصلية، بالتعاون مع السلطات المالية والمجتمع الدولي.
يرفض اللاجئون العودة إلى ديارهم
يلزم الاتفاق الأطراف الثلاث باحترام الطابع الطوعي لعودة اللاجئين إلى بلادهم في ظروف تضمن أمنهم وكرامتهم، ويفرض عليهم كذلك ضمان حقوقهم في اللجوء إذا أرادوا ذلك، حسبما ورد في بيان للمفوضية في نواكشوط.
هذا الاتفاق لم ينه رحلة لجوء الماليين، لأن نسبة عالية منهم ترفض العودة الطوعية بل وتدفع بلاجئين جدد إلى هذا المخيم، رغم الظروف القاسية التي يعيشون على وقعها، ويبرر أغلب اللاجئين سبب رفضهم العودة إلى تواصل الصراع في موطنهم الأصلي، فرغم مضي 3 سنوات على توقيع الحكومة المالية والحركات المسلحة في الشمال اتفاقية سلام برعاية دولية وإقليمية، فإن الأوضاع في البلاد لا تزال غير مستقرة.
أوضاع معيشية صعبة
في البداية، كانت الأوضاع منظمة بعض الشيء، فالحكومة الموريتانية ومنظمة أطباء بلا حدود البلجيكية تؤمنان القطاع الصحي، فيما تؤمن منظمة العمل ضد الجوع الإسبانية القطاع الهيدروليكي، وأما قطاع الأمن الغذائي فهو مؤمن من طرف مفوضية الأمن الغذائي الموريتانية وبرنامج الأغذية العالمي وشركاؤهما ومنظمة العمل ضد الجوع، وقطاع توليد الأنشطة وإدارة أزمات المستقبل فتعنى به المنظمات غير الحكومية الأخرى مثل الرابطة اللوثرية العالمية، ويتم تأمين القطاع البيئي من منظمة غير حكومية موريتانية محلية، وأما قطاعات الحماية والتعليم فتتكفل بها منظمة اليونيسيف ومنظمة إيطالية غير حكومية تدعى (إنتر أس أو أس).
غير أن طول المدة جعل جودة الخدمات تقل، وأصبح اللاجئون يعيشون ظروفًا إنسانية صعبة وشاقة لا يبدو لها من تحسن في المدى المنظور، وقد تكون أسوأ بكثير مما توقع اللاجئون حين غادروا قراهم وتركوا خلفهم أغنامهم ومنازلهم وكل ما يملكون في الإقليم، على أمل العودة التي لم يكتب لها أن تتحقق بعد.
ويعيش اللاجئون الماليون بالمخيم في السنوات الأخيرة أوضاعًا صعبة، كأنهم في سجن مفتوح لصعوبة الوصول إليهم، فالوصول إلى مخيم أمبرة ليس أمرًا سهلاً، تمامًا مثل الخروج منه، ذلك أن الظروف المناخية صعبة جدًا، مثل أي منطقة من مناطق الساحل والصحراء.
معظم مخيمات اللجوء المعدة أصلاً لإنهاء حياة التشرد أصبحت مكانًا للتشرد والمعاناة نتيجة تراجع التدخل الدولي وأسباب عدة
في هذه الفترة من كل سنة، خلال أيام فصل الشتاء، تغلق الطرق المؤدية إليه بالوحل نتيجة الأمطار، ولا يمكن سوى لطائرة تابعة للأمم المتحدة الوصول، بطريقة سريعة، إلى باسكنو من العاصمة نواكشوط، التي تبعد نحو 1500 كيلومتر، لتوزيع المساعدات الإنسانية للقاطنين في المخيم.
في البداية، كانت المساعدات الغذائية تشمل السكر والزيت، وبعض الخضراوات المجففة، غير أنها عرفت تناقصًا مستمرًا حتى باتت تقتصر على تقديم 12 كيلوغرامًا من الأرز و5 دولارات في الشهر للفرد الواحد، ما يجعل اللاجئين في حيرة من أمرهم وخوف مستمر على حياتهم من الجوع المنتظر.
سوء الأوضاع المعيشية وقساوة الظروف الطبيعية وارتفاع أعداد اللاجئين، انعكس بدوره سلبًا على الحالة الصحية لسكان المخيم، فرغم الجهود التي تبذلها الجهات المحلية والدولية لتقديم الخدمات الصحية للاجئين، فإن المراكز الصحية بالمخيم تعاني من نقص في الكوادر والمعدات الطبية، مقارنة مع الإقبال الكثيف للمصابين بأمراض من أكثرها انتشارًا سوء التغذية والإنتانات التنفسية والرمد الحبيبي لدى الأطفال خاصة.
معاناة اللاجئين الأزواديين لم تنته هنا، فهم يشتكون أيضًا من عدم مواءمة خيام اللجوء للبيئة الصحراوية الصعبة التي ترتفع درجة الحرارة فيها إلى قرابة الـ50 درجة مئوية وربما تفوقها في الصيف.
دعم دولي ضعيف
يعود تراجع الأوضاع المعيشية في المخيم، بدرجة كبيرة إلى نقص الموارد المالية المتأتية في الغالب من المنظمات الداعمة والجهات المانحة، نتيجة توسع مناطق النزاع عبر مختلف مناطق العالم خلال السنوات الأخيرة.
تراجع الدعم المالي الدولي للمخيم
حتم تراجع الدعم المالي للجهات العاملة في المخيم إلى خفض حجم المساعدات التي تقدم هناك لعشرات آلاف اللاجئين، وتلتزم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين بمواصلة تقديم العون للاجئين الأزواديين بسبب تعذر العودة إلى بلادهم في الوقت الحاليّ.
وكثيرًا ما طالبت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من الممولين والشركاء زيادة الدعم المالي من أجل مواجهة استحقاقات إعاشة وإقامة عشرات آلاف اللاجئين الأزواديين المقيمين على الأراضي الموريتانية، غير أن معظم مطالبهم راحت أدراج الرياح.
مخيم أمبرة الذي يعاني فيه اللاجئون الأزواديون من مشاكل متواصلة منذ سنوات عدة، ليس المخيم الوحيد في العالم الذي يعرف هذه الظروف، فمعظم مخيمات اللجوء المعدة أصلاً لإنهاء حياة التشرد أصبحت مكانًا للتشرد والمعاناة نتيجة تراجع التدخل الدولي وأسباب أخرى عدة.