قد يجذبك غياب طبق معين رغم توافر مواده الأولية في بلد ما، أو قد يستفزك صرف مبالغ ليست بالقليلة للحصول على طبق محدد رغم وجود بدائل من أطباق أجمل وأشهى وأقل ثمنًا، لكن يصر الناس على اقتناء ذلك الطبق، ويبقى السؤال لماذا هذا التباين في التصرفات للمجموعات البشرية؟ هل هو اختلاف ذوقي؟
للجواب عن هذا السؤال سوف نستعرض بهذا التقرير عددًا من المعتقدات الدينية التي تؤثر بشكل مباشر في مطابخنا وترفع شأن أطباق وأكلات معينة بينما تضع أخرى وتجعلها مبذولة دون طلب.
درنة نبات القلقاس
القلقاس المصري
في الـ19 من يناير من كل عام يحتفل الأقباط المصريون بعيد الغطاس، حيث يعتبر هذا اليوم هو الذكرى لمعمودية السيد المسيح عليه السلام وتطبخ نبتة القلقاس بالتحديد لفلسفة اعتبار أن النبات يحتوي على مادة سمية ومضرة للحنجرة وهي المادة الهلامية، وبتغطيس النبات في الماء لفترة معينة تتحول المادة إلى مادة غذائية غير ضارة وهذه الفكرة تشابه إلى حد كبير فكرة التعميد المسيحي الذي يزيح الخطايا والذنوب عن الإنسان بتغطيسه بالماء.
القلقاس أصبح طبقًا مصريًا شعبيًا ليس خاصًا بالأقباط فقط، الأمر الذي جعل المعتقد الديني المسيحي الشرقي يساهم في نشر الطبق في أكبر البلدان العربية وأكثرها عشقًا للطبخ
وكذلك فإن طبخ القلقاس يشترط تعريته من القشرة الخارجية، الأمر المتطابق مع المعمودية المسيحية، حيث يتم خلع ثياب الخطية ليلبس بالمعمودية الثياب الجديدة الفاخرة، ثياب الطهارة والنقاوة، ومن هذه الفكرة تجد أن القلقاس أصبح طبقًا مصريًا شعبيًا ليس خاصًا بالأقباط فقط، الأمر الذي جعل المعتقد الديني المسيحي الشرقي يساهم في نشر الطبق بأكبر البلدان العربية وأكثرها عشقًا للطبخ.
سمك الجرّي معروض في الأسواق العراقية
الجري العراقي
يعتبر سمك الجري من عائلة السلوريات، ويُطلق عليه أيضًا أسماك القراميط، ويشتهر بوجوده في العراق بنهري دجلة والفرات وكذلك في شط العرب، ويعتبر جزءًا من الثروة السمكية العراقية، ورغم فوائده الغذائية وكثافة وجوده وزهد ثمنه، فإن الجنوب العراقي يمتنع أغلب أهله عن أكل هذا النوع من السمك لتحريمه لدى أتباع المذهب الشيعي الإثني عشري.
تحريم الشيعة جعل أسماك الجري العراقي زهيدة الثمن بشكل كبير مما جعل باقي أطياف الشعب العراقي يعتمدونه كأكلة شعبية للفقراء بدلاً من الأسماك الگطان والكارب وغيره التي يطبخ منها أكلة المسگوف الشهيرة
تقول بعض الروايات الشعبية العراقية إن الإمام علي بن أبي طالب لعن السمكة عندما قامت بضرب الماء بذيلها مما جعله يتناثر على الإمام علي الواقف على حافة النهر ليتوضاء للصلاة.
لكن رغم هذه الرواية المشهور فإن علماء الشيعة يعتمدون في تحريم السمك الجري كونه لا يحتوي على القشور “الفلس” وكل السمك الذي ليس له قشور يعتبر محرمًا لديهم بالاعتماد على حديث من كتاب الكافي ينسب التحريم للإمام علي ويحرم أكل سمك الجرّي بالاسم الصريح، إضافة لكل الأسماك التي لا يجد فيها حراشف باستثناء الروبيان.
هذا التحريم جعل أسماك الجري العراقي زهيدة الثمن بشكل كبير مما جعل باقي أطياف الشعبي العراقي يعتمدونه كأكلة شعبية للفقراء بدلاً من أسماك الگطان والكارب وغيره التي يطبخ منها أكلة المسگوف الشهيرة.
البقر المقدس لدى الهندوس في الهند
البقر الهندي
ضمن المعتقد الهندوسي المقدس للأبقار حماية لها من الذبح والأكل في أغلب الولايات الهندية وفق القانون، يمتلك الهندوس فلسفة دينية عن الأبقار تجعلهم يقدسونها بشكل كبير ويمنعوا ذبحها وأكلها ويقول غاندي عن البقرة: “هي أم الملايين من الهنود، وحمايتها تعني حماية كل المخلوقات، إن الأم البقرة أفضل من الأم التي ولدتنا من عدة طرق”.
الهندية التقليدية تخلو بشكل واضح من اللحم البقري لدى الهندوس فيما على العكس من ذلك بسبب توافرها المفرط ورخص سعرها يعتبر لحوم الأبقار الطبق الرئيسي لمسلمي الهند الذي يشكلون أكثر من 20% من سكانها
هذا المعتقد دفع الكثير من هندوس الهند إلى تفضيل الأكل النباتي بشكل أساسي على لحوم الأبقار وكذلك الدجاج، مما جعل الأطباق الهندية التقليدية تخلو بشكل واضح من اللحم البقري لدى الهندوس، فيما على العكس من ذلك بسبب توافرها المفرط ورخص سعرها يعتبر لحوم الأبقار الطبق الرئيسي لمسلمي الهند الذي يشكلون أكثر من 20% من سكانها، لكن ذلك جعل الأبقار في الهند تتكاثر بشكل كبير جدًا مما جعل تجارة تهريب الأبقار وذبحها في مسالخ غير نظامية تجارة رابحة في الهند التي تمتلك ما يقارب ربع أبقار العالم.
يتميز تمر العجوة عن باقي التمور باللون الأسود الداكن
تمر العجوة
قد تصادف لدى زيارتك لمحلات التمور تفوق نوع معين من التمور عن غيره من الأنواع بالسعر، ويعود ذلك للإضافة الدينية التي تعزز قيمة تمر العجوة المدني التي ذكرت في حديث عن النبي محمد صل الله عليه وسلم “من تصبح بسبع تمرات من عجوة المدينة لم يضره سحر ولا سم”، هذا البُعد الديني لتمور العجوة جعله يتفوق في التسويق والطلب على باقي التمر الذي قد يفوقه من ناحية المذاق والجودة.
ولأن هناك اعتقاد بوجود نخيل من غرس يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في أرض المدينة المنورة فإن غالبية الناس يحملون تمر المدينة المنورة بشكل عام والعجوة بشكل خاص مع حجاج بيت الله الحرام والمعتمرين إلى بلدان العالم الإسلامي خلال رحلات الحج والعمرة، فلا تخلو حقيبة العائد من الحرمين من ماء بئر زمزم وتمور نخيل المدينة؛ الأمر الذي أوصل ذلك النوع من التمر للعالمية وجعله جزءًا مهمًا مما يقدم على موائد الاحتفالات الإسلامية خاصة في العيدين وشهر رمضان المبارك.
هناك أكلات سوقت على أنها من الموروث الديني رغم خلوها من أي ارتباط حقيقي، فقط لأجل أغراض تجارية كما يحدث في تسويق ارتباط الديك التركي “الحبشي أو الرومي” كأكلة رئيسية في أعياد الميلاد المسيحية، وهذا تقليد أمريكي لا دخل له بالمسيحية بقدر ارتباطه بالتسويق التجاري للمنتج الأمريكي
هذه الأمثلة الواضحة نموذج صغير عن الكثير من الأطباق حول العالم المتأثرة بالمعتقد الديني سلبًا أو إيجابًا، فالأتراك من الأحناف يرفضون أن يأكلوا أكلة المحار المحشوة بالأرز الشهيرة لتحريمهم لها على اعتبار أنه من الميتة، فيما هناك أكلات سوقت على أنها من الموروث الديني رغم خلوها من أي ارتباط حقيقي، فقط لأجل أغراض تجارية كما يحدث في تسويق ارتباط الديك التركي “الحبشي أو الرومي” كأكلة رئيسية في أعياد الميلاد المسيحية، وهذا تقليد أمريكي لا دخل له بالمسيحية بقدر ارتباطه بالتسويق التجاري للمنتج الأمريكي.
وعلى ذلك يمكن قياس أهمية التأثير الاقتصادي والمجتمعي للموروث الديني في تسويق الأطعمة أو خسارة المليارات كما يحدث في الهند نتيجة عدم الاستفادة من غالبية ثرواتها الحيوانية، ويبقى السؤال الأهم: هل نحن نختار أطباقنا وفقًا لذوقنا الشخصي أم وفقًا لمعتقدات وتقاليد وتعليمات موروثة لا يمكن أن تتغير؟