ترجمة وتحرير: نون بوست
هذه السيدة المتخصصة في معالجة مشاكل النطق واللغة لدى الأطفال، والتي عملت على مدى الأعوام التسعة الماضية مع الأطفال الذين يعانون من الإعاقة، التوحد، أو العجز عن النطق، مع تلاميذ مدرسة ابتدائية في مدينة أوستن في ولاية تكساس، تم إخبارها بأنها لا يمكنها الاستمرار في العمل في هذه المدرسة، بعد أن رفضت التوقيع على تعهد ينص على أنها “لا ولن تنخرط في مقاطعة “إسرائيل”، أو تقوم بأي أعمال تهدف إلى إلحاق الضرر الاقتصادي بهذا البلد الأجنبي.”
تم رفع دعوى قضائية نيابة عن هذه السيدة، في صبيحة يوم الإثنين، في المحكمة الفيدرالية في المقاطعة الغربية من ولاية تكساس، بدعوى انتهاك حقها في حرية التعبير، المنصوص عليه في التعديل الأول من الدستور. هذه الأخصائية في في النطق واللغة لدى الأطفال، وهي تدعى بهية أموي، هي مواطنة أمريكية متحصلة على درجة الماجستير في علاج النطق في العام 1999، وهي منذ ذلك الوقت متخصصة في تقويم المشاكل اللغوية لدى الأطفال الصغار.
ولدت بهية أموي في النمسا، وهي تعيش في الولايات المتحدة منذ أكثر من 30 عاما، وتتكلم الإنجليزية والألمانية والعربي بطلاقة، ولديها أربعة أطفال ولدوا كلهم في الأراضي الأمريكية. وقد بدأت أموي العمل في 2009، في إطار عقد يربطها بإدارة التعليم الحكومي في هذه المنطقة التي تضم مدينة أوستن، وهي تقوم بعمل التشخيص وتقديم الدعم لأطفال المدارس في هذه المقاطعة التي تتزايد فيها أعداد المهاجرين الناطقين بالعربية. وتتراوح أعمار الأطفال الذين تعمل معهم بهية بين 3 و11 عاما. ومنذ أن بدأت عملها مع إدارة المدارس في هذه المقاطعة في 2009، كان عقدها يتم تجديده في كل عام دون وجود أي مشاكل أو خلافات.
كانت اللهجة الحادة التي تمت مخاطبة بهية أموي بها، عند حثها على التوقيع على التعهد، تشبه إلى حد كبير ما كان سائدا في فترة الماكارثيزم في الولايات المتحدة، وروايات جورج أورويل حول الاستبداد والرقابة
لكن خلال هذا العام، تغير كل شيء فجأة. إذ أنه في 13 أغسطس/آب، قدمت إدارة المدارس مرة أخرى عرضا لتمديد عقد بهية عام إضافي، وأرسلت لها نفس العقد تقريبا، إلى جانب مجموعة من الشروط التي كانت تتلقاها وتوافق عليها في نهاية كل سنة دراسة منذ 2009.
في هذه المرة، كانت بهية أموي تستعد لتجديد العقد، إلى أن لاحظت شيئا جديدا وفي غاية الخطورة، تمثل في ملحق لم يكن موجودا، وهو تعهد كانت مطالبة بالتوقيع عليه، ينص على أنها “لا تقوم حاليا بمقاطعة “إسرائيل”، ولن تقوم بمقاطعة “إسرائيل” خلال مدة العقد، وأنها ستمتنع على القيام بأي أعمال تهدف إلى معاقبة، أو إلحاق الضرر، أو الحد من العلاقات التجارية مع “إسرائيل” أو أي شخص أو مؤسسة تتعامل مع “إسرائيل” أو تتواجد في الأراضي التي تخضع للسيطرة الإسرائيلية”.
كانت اللهجة الحادة التي تمت مخاطبة بهية أموي بها، عند حثها على التوقيع على التعهد، تشبه إلى حد كبير ما كان سائدا في فترة الماكارثيزم في الولايات المتحدة، وروايات جورج أورويل حول الاستبداد والرقابة، فهو كان بمثابة قسم الولاء السياسي التي يفترض أن يشعر أي أمريكي بالصدمة عندما يقرأه.
العبارات التي تضمنها هذا التعهد، لا تحرم أموي من حقها في الامتناع عن شراء البضائع من الشركات المتواجدة في “إسرائيل” فقط، بل أيضا من الشركات الإسرائيلية التي تنشط في الضفة الغربية المحتلة. هذا الالتزام الذي تم تسليمه لبهية أموي، سيؤدي على الأرجح إلى منعها حتى من التعبير على مساندتها لهذه المقاطعة، بما أن خطابا من هذا النوع قد يجعلها تبدو كأنها تسعى “لمعاقبة، وإلحاق الضرر الاقتصادي، والحد من العلاقات التجارية مع “إسرائيل”.”
مهما يكن رأي كل واحد من هذا الموضوع، فإن مقاطعة “إسرائيل” من أجل وقف احتلالها للأراضي الفلسطينية، هي حركة سياسية عالمية تستلهم مبادئها من حركة المقاطعة التي استهدفت جنوب إفريقيا خلال ثمانينات القرن الماضي، وساهمت في وضع حد لنظام الفصل العنصري الذي كان قائما في البلاد. وقد أصبحت هذه الحركة الجديدة رائجة إلى درجة أن اثنين من الأعضاء الجدد المنتخبين في الكونغرس، عبروا عن مساندتهم لها بشكل علني، كما أن مقاطعة الشركات الإسرائيلية الناشطة في الأراضي المحتلة لطالما كانت مطلبا حنى لبعض الجماعات الصهيونية اليهودية على غرار منظمة السلام الآن، والكاتب الأمريكي اليهودي الصهيوني بيتر بينارت.
هذا التعهد بشأن “إسرائيل” كان الإشارة الوحيدة في العقد الذي تم إرساله إلى أموي، التي تتضمن تدخلا في آرائها ونشاطها السياسي. ولم يتم طلب أي تعهدات أخرى متعلقة بالأطفال مثلا، مثل الالتزام بعدم الدفاع عن المتحرشين بالأطفال، كما لم تتم مطالبتها بتقديم التزامات وولاء تجاه البلد الذي هي مواطنة فيه وتعيش وتعمل فيه، وهو الولايات المتحدة. بهذا الشكل، يمكن اعتبار أنه من أجل الحصول على عقد في ولاية تكساس، أصبح المواطن حرا لتشويه الولايات المتحدة والعمل ضد مصالحها، والانخراط في الدفاع عن قضايا تضر بالأطفال الأمريكيين بشكل مباشر، وحتى دعم حملة مقاطعة ضد ولايات أمريكية معينة، مثلما حدث في 2017 في ولاية نورث كارولينا احتجاجا على قوانينها المعادية للشواذ.
يشار إلى أن بهية أموي، وهي أم لأربعة أطفال، وأخصائية في تقويم النطق، ليست زعيمة لأي حركة سياسية، بل هي بكل بساطة قررت القيام بخيارات استهلاكية، من أجل دعم حركة المقاطعة
من أجل مواصلة عملها، ستكون بهية أموي قادرة على الانخراط في أي أنشطة سياسية ضد بلدها، والمشاركة في المقاطعة الاقتصادية ضد أي ولاية أو مدينة أمريكية، والعمل ضد سياسات أي دولة أخرى في العالم، باستثناء “إسرائيل”. هذا الجانب من القصة يبدو مذهلا: حيث أن الالتزام السياسي الوحيد الذي يتوجب على سكان ولاية تكساس من أمثال بهية أموي القيام به، من أجل التمكن من العمل مع أطفال مدارس المقاطعة، هو تعهد ليس مصمما لحماية الولايات المتحدة وأطفال تكساس، بل للدفاع على المصالح الاقتصادية لـ”إسرائيل”.
تقول أموي في حوار مع الانترسبت: “من الغريب أن يجرؤوا على وضعنا في هذا الموقف، ويقرروا هكذا حماية المصالح الاقتصادية لبلد أجنبي، على حساب حماية حقوقنا الدستورية”. خلصت أموي إلى أنها لا يمكنها في أي حال من الأحوال، وحتى على سبيل حسن النية، التوقيع على هذا التعهد، لأنها هي وكامل أفراد عائلتها، اتخذوا قرارا عائليا بالامتناع عن شراء البضائع من الشركات الإسرائيلية، وذلك دعما للحركة العالمية للمقاطعة، من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وغزة، الذي يستمر منذ عقود.
يشار إلى أن بهية أموي، وهي أم لأربعة أطفال، وأخصائية في تقويم النطق، ليست زعيمة لأي حركة سياسية، بل هي بكل بساطة قررت القيام بخيارات استهلاكية، من أجل دعم حركة المقاطعة، وذلك من خلال تجنب شراء المنتجات من شركات تعمل في “إسرائيل” أو في الأراضي المحتلة. كما تشارك بهية من حين لآخر في التحركات السلمية دفاعا عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير من خلال تحركات مثل الدفاع على حركة المقاطعة العالمية من أجل إنهاء الاحتلال.
لدى سؤالها حول ما إذا كانت تعتزم التوقيع على هذا التعهد من أجل الحفاظ على فرصتها في العمل، قالت بهية لموقع الانترسبت: “بالتأكيد لن أوقع، ولا يمكن أن أقوم بذلك وأنا في كامل وعيي. وإذا أقدمت على التوقيع على هذا التعهد، فلن أكون قد خنت فقط الفلسطينيين الذين يعانون تحت الاحتلال الظالم، وأصبحت بذلك شريكة في هذا القمع، بل هذا سيمثل أيضا خيانة لأبناء وطني الأمريكيين، بما أنني سأسمح بهذا الانتهاك لحقوقنا الدستورية التي تنص على حرية التعبير والتظاهر السلمي”.
بما أن بهية أموي هي أخصائية تقويم النطق الوحيدة في المقاطعة، التي تمتلك شهادة في تخصص تقويم نطق اللغة العربية، فإنه من المرجح أن رفض تجديد عقدها سوف يترك العشرات من الأطفال الصغار يعانون من صعوبات في الكلام
على ضوء هذا الموقف، أخبرت أموي المشرفة على إدارة المدارس في المنطقة بأنها لا يمكنها التوقيع على التعهد. كما توضح الشكوى التي تقدمت بها لدى إدارة المدارس، أنها لا تتفهم الطريقة التي تؤثر بها مواقفها السياسية الشخصية حول فلسطين، على عملها في تقويم نطق الأطفال. وفي ردها على شكوى بهية أموي، قالت المشرفة إنها ستحقق فيما إذا كانت هنالك طريقة لتجاوز هذا الخلاف. ولكن في النهاية قالت هذه المشرفة أنه لا توجد خيارات أخرى، ويجب على بهية التوقيع على التعهد أو أن الإدارة ستكون ممنوعة قانونا من تقديم أجر لها تحت أي عقد.
بما أن بهية أموي هي أخصائية تقويم النطق الوحيدة في المقاطعة، التي تمتلك شهادة في تخصص تقويم نطق اللغة العربية، فإنه من المرجح أن رفض تجديد عقدها سوف يترك العشرات من الأطفال الصغار يعانون من صعوبات في الكلام، دون وجود أي شخص مؤهل وخبير لتقييم حالاتهم وتقديم العلاج اللازم. وتقول بهية: “لقد حصلت على الماجستير في هذا التخصص وكرست نفسي لهذا العمل، لأنني لطالما أردت خدمة الأطفال. إنه من المهم جدا إجراء هذه التقييمات في سن مبكرة للكشف عن مختلف اعتلالات النطق، والمشاكل النفسية، على يد شخص يفهم جيدا اللغة الأم لهؤلاء الأطفال”.
بعبارة أخرى، فإن تعهد الولاء لـ”إسرائيل” الذي تم فرضه في تكساس، لن يلحق فقط الضرر ببهية أموي، التي تعتبر مواطنة أمريكية ممنوعة من العمل في مجال تخصصها الذي كرست له حياتها، بل سيضر أيضا بالأطفال الصغار الذين يحتاجون لتدخل شخص صاحب خبرة ومعرفة في هذا المجال.
يشار إلى أن هذا التعهد المضاد لحركة مقاطعة “إسرائيل” وسحب الاستثمارات منها ومعاقبتها، الذي تم تضمينه في وثائق العقد الجديد لبهية أموي، يأتي في إطار القانون الجديد الذي أقرته ولاية تكساس في 2 مايو/أيار 2017، والموجه خصيصا لفائدة “إسرائيل”، بعد أن أقره المجلس التشريعي في تكساس، وأصبح قانونا نافذا بعد أن وافق عليه حاكم الولاية، غريك أبوت، المنتمي للحزب الجمهوري. وقد حصل مشروع القانون على موافقة بالإجماع في مجلس نواب الولاية، بواقع 131 صوتا مقابل 0. أما في مجلس الشيوخ، فقد كان عدد الأصوات الموافقة 25 والرافضة 4.
حين صادقت ولاية تكساس على القانون الذي يمنع المتعاقدين من دعم مقاطعة “إسرائيل”، أصبحت هي الولاية السابعة عشر في الولايات المتحدة التي تتبنى هذا الموقف
في حفل التوقيع الذي أقيم في مركز الجالية اليهودية في مدينة أوستن، قال حاكم الولاية غريك أبوت: “أي سياسة معادية لـ”إسرائيل” هي سياسة معادية لتكساس”. ويشار إلى أن البنود التي يتضمنها هذا القانون، صارمة وشاملة إلى درجة أن بعض ضحايا الإعصار هارفي، الذي دمر جنوب ولاية تكساس في أواخر 2017، تم إخبارهم أنهم لن يحصلوا على المساعدات المقدمة من الولاية، إلا بعد أن يوقعوا على هذا التعهد بعدم مقاطعة “إسرائيل”.
كان هذا المطلب مربكا لضحايا الإعصار، الذين كانوا في حاجة ماسة للمساعدة، ولم يفهموا ما هي العلاقة بين أراءهم بشأن فلسطين و”إسرائيل”، وحقهم في الحصول على الإعانات من حكومة ولايتهم. ويشار إلى أن محرر نص هذا القانون المساند لـ”إسرائيل”، وهو النائب عن الحزب الجمهوري فيل كينغ، المنتمي إلى الإنجيليين، ادعى في فترة تطبيق هذا القانون على ضحايا الإعصار، أن الأمر كان مجرد سوء تفاهم، ولكنه لم يفته التأكيد على أن هدف هذا القانون كان فعلا ضمان عدم وصول تمويلات الأموال الحكومية إلى أي شخص يدعم حركة مقاطعة “إسرائيل”.
حين صادقت ولاية تكساس على القانون الذي يمنع المتعاقدين من دعم مقاطعة “إسرائيل”، أصبحت هي الولاية السابعة عشر في الولايات المتحدة التي تتبنى هذا الموقف. وفي الوقت الحالي، هنالك 26 ولاية صادقت على هذا القانون، من بينها ولايات يسيطر عليها الحزب الديمقراطي مثل نيويورك، كاليفورنيا، نيوجيرسي، فيما سيتم في الفترة القادمة التصويت على هذا القانون في 13 ولاية أخرى. وفيما يلي، هذه الخريطة التي تظهر حجم انتشار مختلف أشكال القوانين التي تفرض التعهد بالولاء لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة، حيث أن الولايات الملونة باللون الأحمر هي التي باتت فيها هذه القوانين نافذة، بينما الولايات التي هي بالأزرق الداكن هي التي ينتظر فيها النظر في هذه القوانين.
غالبية المواطنين الأمريكيين حاليا، أصبحوا رسميا ممنوعين من دعم حركة مقاطعة “إسرائيل”، دون أن يتعرضوا لنوع من العقوبة أو الحرمان، الذين قد تفرضه عليهم ولاياتهم. وحتى العدد القليل من الأمريكيين الذين لا يزال بإمكانهم تبني أراء حول هذا الموضوع الشائك، دون أن يتعرضوا لعقوبات رسمية، أصبحوا الآن يواجهون خطر خسارة حقهم في حرية التعبير، بما أن المزيد من الولايات تتجه نحو تفعيل قوانين رقابة مماثلة.
من أولى الولايات التي تفرض هذه القيود القمعية على حرية التعبير، كانت ولاية نيويورك. إذ أنه في العام 2016، أصدر الحاكم الديمقراطي أندرو كومو أمرا تنفيذيا يأمر كل الوكالات الخاضعة لسلطته بإنهاء كل أشكال التعاقد والتعامل مع الشركات والمنظمات التي تدعم مقاطعة “إسرائيل”.
نشر كومو تغريدة يقول فيها: “إذا قاطعتهم “إسرائيل”، نيويورك سوف تقاطعكم”، في إشارة منه إلى الافتتاحية التي كتبها في صحيفة واشنطن بوست، والتي حملت هذا التهديد في عنوانها. ومثلما أورد موقع الانترسبت في ذلك الوقت، فإن الأمر الذي أصدره كومو “ينص على تكليف أحد مفوضية بإعداد قائمة بالمؤسسات والشركات التي تقدم دعما لحركة المقاطعة، بشكل مباشر أو عبر أحد فروعها أو أصولها. تلك القائمة الحكومية تم بعد ذلك نشرها أمام العلن، وبات لزاما على هؤلاء المتهمين بالمقاطعة أن يثبتوا لحكومة الولاية أنهم لم يشاركوا في هذا الموقف.
الشيء الذي جعل الأوامر التي أصدرها الحاكم أندرو كومو صادمة بشكل خاص، هو أنه قبل شهرين فقط من صدور هذا القرار، أمر كومو وكالات ولاية نيويورك بمقاطعة شمال كارولينا، احتجاجا على قيام هذه الولاية بإصدار قوانين معادية للشواذ. كما أنه قبل سنتين، كان كومو قد منع كل موظفي ولاية نيويورك من السفر إلى إنديانا، إلا في الحالات الضرورية، وذلك في إطار مقاطعة هذه الولاية، على خلفية تمريرها قوانين معادية للشواذ.
هكذا فإن المحافظ أندرو كومو أجبر موظفي ولايته على مقاطعة ولايتين أخريين في داخل وطنه، رغم أن هذه المقاطعة ستضر طبعا بالاقتصاد الأمريكي، وفي نفس الوقت منع المواطنين العاملين في القطاع الخاص في نيويورك من دعم حركة مقاطعة مماثلة، موجهة نحو دولة أجنبية، وذلك باعتماد ضغوط مثل منع هؤلاء المواطنين من الحصول على عقود من ولاية نيويورك. يبدو أن هذه المخططات التي بدأت بالانتشار، والتي تسمح وحتى تشجع على مقاطعة المصالح الاقتصادية الأمريكية، وفي نفس الوقت تمنع مقاطعة المصالح الاقتصادية الإسرائيلية، هي أمر يظهر الحالة السيئة التي وصلت إليها الأوضاع السياسية الأمريكية وحالة حرية التعبير.
على خطى أندرو كومو، بدأ المجلس التشريعي الذي يسيطر عليه الجمهوريون في ولاية تكساس، إلى جانب حكومات ولايات أخرى يسيطر عليها كلا الحزبين، والكونغرس الذي يتعرض لضغوط من لجنة الشؤون الأميركية الإسرائيلية، في التحضير لاقتراح قوانين تعتمد على سلطة القانون لمعاقبة الأمريكيين الذين يرتكبون جرم مساندة حركة مقاطعة “إسرائيل”.
في يوليو/ تموز من العام الماضي، قدمت مجموعة من 43 سيناتور، منهم 29 جمهوريا و14 ديمقراطيا، دعمها لمشروع يسمى “قانون مكافحة مقاطعة إسرائيل”، اقترحه السيناتور الديمقراطي بنجامين كاردن عن ولاية ميريلاند، ينص على تجريم المشاركة في أي حملات دولية لمقاطعة “إسرائيل”. وقد أصدر الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بيانا يندد فيه بشدة بالقانون الذي قدمه كاردن، واعتبره انتهاكا لجوهر حرية التعبير، سيؤدي لمعاقبة الأفراد دون أي سبب باستثناء اعتقاداتهم السياسية، وحينها أعلن عديد السيناتورات أنهم سوف يعيدون النظر في دعمهم للمقترح.
لكن الآن، كما ذكر موقع الانترسبت خلال الأسبوع الماضي، فإن نسخة معدلة من هذا القانون أعيدت للنظر فيها في الوقت المناسب، حيث أن كاردن يقوم بتحركات وراء الكواليس من أجل تمرير هذا القانون في الدقائق الأخيرة، خلال الجلسة الأخيرة التي تسبق النواب المنتخبين الجدد لمهامهم. كما ندد الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية بمشروع القانون، لأن “القصد منه، والقصد من قوانين الولاية التي ستنتج عنه، مناقض لروح ومبدأ التعديل الأول في الدستور، الذي يضمن حرية التعبير والاجتماع”.
أضاف هذا الاتحاد في بيانه: “رغم أن النسخة المعدلة توضح أن المواطنين لا يمكن أن يواجهوا عقوبة السجن على المشاركة في حركة المقاطعة، فإن هذا القانون لا يزال يسمح بإيقاع عقوبات مالية على كل من تثبت مشاركته أو دعمه لحركة مقاطعة “إسرائيل”. ومن الصعب تخيل وقوع هجمات على حرية التعبير أخطر من هذه القوانين. ولذلك فإن أي شخص يدعي دفاعه عن حرية التعبير، سواء كان ينتمي لليمين، اليسار أو الوسط، لا يمكنه تبرير الصمت في مواجهة هذه الهجمة المنسقة والواضحة على أهم الحقوق الأساسية المتعلقة بحرية التعبير والاجتماع.
من الأفكار المغلوطة في هذا الصدد، الاعتقاد بأن التعديل الأول في الدستور المتعلق بحرية التعبير يمنع الولاية من سجن أو معاقبة الناس على كلامهم، ولكن لا يمنع الولاية من وضع شروط للحصول على منافع (مثل الدعم الاجتماعي والوظائف)، بالامتناع عن التعبير عن آراء معينة. إضافة إلى هذه الحقائق، وباستثناء بعض الحالات النادرة، فإن المحاكم الأمريكية أكدت في عدة مناسبات أن الحكومة ممنوعة دستوريا، وبناء على التعديل الأول للدستور، من ربط المنافع والمساعدات الحكومية بمسائل تمس حرية التعبير، وهذا يعني منع سن قانون ينص مثلا على أن الليبراليين فقط، أو المحافظين فقط، مخولون للحصول على إعانات البطالة، وعلى ضوء كل هذه الحجج، فإن المعاملة التي تعرضت لها بهية أموي في ولاية تكساس، من الواضح جدا أنها تعد انتهاكا للدستور.
لنتخيل فقط، أنه عوضا عن إجبارها من قبل الولاية على التعهد بعدم مقاطعة “إسرائيل” كشرط لمواصلة عملها كأخصائية تقويم نطق، تم عوضا عن ذلك إجبار بهية على التعهد بعدم الدفاع عن حقوق الشواذ، أو الانخراط في أي أنشطة لدعم أو معارضة حق امتلاك الأسلحة، أو الإجهاض (من خلال الانضمام للجمعية الوطنية للبنادق، أو جمعية تحديد النسل)، أو إجبارها على عدم دفع اشتراك في إحدى وسائل الإعلام، أو عدم المشاركة في مقاطعة إيران أو كوريا الشمالية أو فنزويلا أو كوبا أو روسيا، بسبب الخلاف العميق بين الولايات المتحدة وحكومات هذه الدول.
التحركات الرسمية التي قام بها عمدة شيكاغو، من أجل الإضرار بمصالح سلسلة المطاعم تشيك فيلاي، على خلفية مواقف مديرها المعارض للمساواة مع الشواذ، تمت إدانتها من قبل النشطاء الليبراليين
في هذه الحالات سيكون الاستبداد وتقييد حرية التعبير أمرا واضحا، وسنشهد ردود فعل حادة وفورية من قبل مختلف التيارات الإيديولوجية. وقد حذرت لارا فريدمان، رئيسة مؤسسة السلام في الشرق الأوسط من أن “هذا الإطار القانوني يمكن تطويعه واستغلاله في عديد السياقات، مثل منع إبرام العقود مع الأفراد والجماعات التي تساند قضية أو منظمة سياسية بعينها، سواء كانت من اليمين أو اليسار، إذا كانت أغلبية المشرعين أو حاكمو تلك الولاية يعارض تلك القضية.
يشار إلى أنه في العام 2012، كان عمدة مدينة شيكاغو رام إيمانويل، قد حاول منع سلسلة المطاعم تشيك فيلاي من التوسع في المدينة، وذلك على خلفية معارضة العمدة للأنشطة التي تدعو للمساواة مع الشواذ التي يقوم بها مدير الشركة. وقد كتبت في ذلك الوقت منددا بالطبيعة غير الدستورية لتصرفات العمدة، وقلت: “إذا كنتم تساندون ما يفعله رام إيمانويل في شيكاغو، فيجب عليكم أيضا بنفس الطريقة أن تساندوا تصرفات عمدة تكساس وحاكم ولاية إيداهو الذي يعرقل نشاط الشركات التي يديرها أشخاص يساندون زواج المثليين، أو يعارضون الحروب الأمريكية، أو يدعمون الحرية الجنسية، أو يقدمون التبرعات لمجموعات الشواذ ومساندة الإجهاض، على اعتبار أن هذه الآراء تتعارض مع تعاليم المسيحية أو لا تعجب السكان المحافظين.”
تلك التحركات الرسمية التي قام بها عمدة شيكاغو، من أجل الإضرار بمصالح سلسلة المطاعم تشيك فيلاي، على خلفية مواقف مديرها المعارض للمساواة مع الشواذ، تمت إدانتها من قبل النشطاء الليبراليين، الذين استنكروا قيام العمدة باستغلال سلطاته لربط منح تراخيص العمل والتوسع للشركات، بالآراء السياسية الفردية للمواطنين، بخصوص موضوع مثير للجدل.
يبدو أن الشركات إذا مارست التمييز ضد الموظفين الشواذ وانتهكت القانون، سيكون من المسموح التحرك ضدها. ولكن هذا لا يبرر ما قم به عمدة شيكاغو، مثلما قال المدون السياسي والكاتب كيفين درام: “فإن هذه القضية كانت مجرد تقييد لحرية التعبير، إذ أنه لا يوجد أي مبرر يسمح لعمدة شيكاغو، بالقيام بهذه الإجراءات، حيث أن منح تراخيص النشاط والتوسع للشركات لا يمكن إقراره بناء على الآراء السياسية للمدراء، وهذا الأمر غير مسموح في الولايات المتحدة على الأقل.
بينت المستشارة القانونية للاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية، كايت روان، كيف أن حتى الصيغة المعدلة والمخففة والتي تحظى بدعم الحزبين، من هذا القانون المتعلق بعدم معاداة “إسرائيل”، والذي ينتظر التصويت عليه في الكونغرس
كما أن فرع الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية في إلينوي ندد بالجهود التي يقوم بها عمدة شيكاغو ضد شركة تشيك فيلاي، واعتبرها خاطئة وخطيرة، مضيفا: “نحن نعارض استخدام السلطة ونفوذ الحكومة للانتقام من الناس الذين يعبرون عن مواقف مثيرة للجدل أو مناقضة لمواقف الماسكين بالسلطة. ويمكن اعتبار أن هذا الموقف هو الوحيد الذي كان فعلا مدافعا عن حرية التعبير، بقطع النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع الرأي السياسي الذي كان يتعرض للتضييق.
خلال الأسبوع الماضي، بينت المستشارة القانونية للاتحاد الأمريكي للحقوق المدنية، كايت روان، كيف أن حتى الصيغة المعدلة والمخففة والتي تحظى بدعم الحزبين، من هذا القانون المتعلق بعدم معاداة “إسرائيل”، والذي ينتظر التصويت عليه في الكونغرس، إلى جانب القوانين التي تم المصادقة عليها فعلا في 26 ولاية، والتي أدت لإنهاء عقد بهية أموي، كلها تمثل انتهاكات مباشرة لأهم الحقوق المتعلقة بحرية التعبير.
قالت كايت روان: “هذا هجوم واسع النطاق على حريات الأمريكيين المنصوص عليها في التعديل الأول للدستور. إذ أن أشكال المقاطعة السياسية، ومن بينها مقاطعة الدول الأجنبية، لطالما لعبت دورا محوريا في تاريخ الأمة، منذ مقاطعة البضائع البريطانية أثناء الثورة الأمريكية، إلى حملة مقاطعة الحافلات في مونتغومري، إلى حملة سحب الاستثمارات من نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا. وقد أكدت المحكمة العليا الأمريكية أن التعديل الأول يحمي الحق في المشاركة في حملات المقاطعة السياسية.
كما تشير الدعوى القضائية التي رفعتها بهية أموي، إلى أن المقاطعة الاقتصادية الهادفة لإحداث التغيير السياسي، متأصلة في التاريخ الأمريكي، بداية بمقاطعة الأمريكيين للشاي البريطاني. ولاحقا اعتمدت حركة الحقوق المدنية على حملات المقاطعة لمحاربة العنصرية والدفع نحو التغيير الاجتماعي. وقد أقرت المحكمة العليا بأن حملات المقاطعة غير العنيفة، الهادفة للدفاع عن الحقوق المدنية، تمثل شكلا من أشكال التعبير والتحرك، التي تتمتع بحماية التعديلين الأول والرابع في الدستور.
المحامي الليبرالي وولتر أولسون، وهو باحث منتسب في معهد كاتو للدراسات الدستورية، فقد حذر هو أيضا من أنه: “ليس ملائما من الناحية القانوني إجبار الأمريكيين على القيام بمعاملات تجارية خارجية يعارضونها بشكل شخصي”
على ضوء هذه المعطيات، من يستطيع أن يبرر القول بأنه كشرط للعمل مع الأطفال الذين يعانون من إعاقات ومشاكل في النطق، يجب على بهية أموي قبول انتهاك الولاية لحريتها، والتراجع عن آرائها السياسية المتعلقة بشراء بضائع من دولة هي تعتبرها (والأمم المتحدة أيضا)، دولة غير قانونية وتستعمل العنف لاحتلال أراضي لا تعود إليها؟ وسواء كنت تتوافق أو لا مع آرائها السياسية حول “إسرائيل” وفلسطين، فإن كل أمريكي يتمتع بالقدر الأدنى من الإيمان بحرية التعبير يجب أن يرفع صوته منددا بهذا الانتهاك لحق أموي في حرية التعبير، وحقوق أمريكيين آخرين يتعرضون للتضييق بسبب هذه القوانين التي تعمل على حماية “إسرائيل”.
في ظل انتشار هذه التعهدات المساندة لـ”إسرائيل”، فإن بعض المعلقين من مختلف التوجهات الإيديولوجية لاحظوا أن هذا الأمر يشكل تهديدا خطيرا لحرية التعبير. حيث أن لارا فريدمان من معهد الشرق الأوسط للسلام، بينت أن الأمر لا يحتاج لمخيلة واسعة لفهم أن تجريم مشاركة الأمريكيين في حملات المقاطعة السياسية لـ”إسرائيل”، يمكن أن يمهد الطريق للمزيد من الانتهاكات لحقوق الأمريكيين في دعم والمشاركة في الاحتجاجات في مواضيع أخرى. وقد وصفت فريدمان هذه القوانين بأنها “استثناءات لحرية التعبير من أجل “إسرائيل”.
أما المحامي الليبرالي وولتر أولسون، وهو باحث منتسب في معهد كاتو للدراسات الدستورية، فقد حذر هو أيضا من أنه: “ليس ملائما من الناحية القانوني إجبار الأمريكيين على القيام بمعاملات تجارية خارجية يعارضونها بشكل شخصي، سواء كانت دوافعهم لهذا الموقف جيدة، سيئة أو اعتباطية.
يشار إلى أن نواه دا بونتي سميث، الكاتب في مجلة “ناشيونال ريفيو”، ندد في العام الماضي بالقانون الذي أصدره كاردن، في محاولة لتجريم المشاركة في حملات مقاطعة “إسرائيل”، واصفا هذه المحاولة بأنها غبية لدرجة أنه يصعب التعليق عليها، مضيفا أن هذا القانون يجرم الاعتقادات السياسية ولهذا فهو غير معقول وغير دستوري. كما قال هذا الصحفي المحافظ: “إن السيناتورات الذين يساندون هذا المقترح، يجب عليهم بكل صراحة أن يخجلوا من أنفسهم، فقد تناسوا واحد من أهم مبادئ الحوكمة الأمريكية، وسمحوا للخلاف حول “إسرائيل” وفلسطين بالتغطية على هذه المبادئ”.
في الأثناء، نشهد وجود طبقة كاملة من النقاد والمحللين الذين كسبوا أموالا كثيرة من خلال التظاهر بأنهم مدافعون عن حرية التعبير، مثل جوناثان شايت، بيل ماهر، وباري وايس، الذين يلتزمون الصمت المطبق عندما تستهدف الانتهاكات منتقدي “إسرائيل”.
هؤلاء الذين يزعمون الدفاع عن حرية التعبير، لم يكتبوا كلمة واحدة حول حادثة طرد مارك لامونت هيل من شبكة قنوات سي إن إن، على خلفية خطابه المساند لفلسطين، إلى جانب تعرضه لتهديدات بفصله من جامعة تمبل في فيلادلفيا. ونفس الأمر ينطبق أيضا على ما حدث في جامعة إلينوي، التي قررت التراجع عن تقديم عرض للتدريس لفائدة أستاذ أمريكي من أصول فلسطينية تدعى ستيفن سلايطة، بدعوى أنه ارتكب جريمة التنديد بالقصف الإسرائيلي على قطاع غزة.
لكن كما أورد ووثق موقع الانترسبت في عدة مناسبات، فإن أغلب ضحايا هذه الانتهاكات في الجامعات الأمريكية ليسوا من النقاد المنتمين للتيار المحافظ، بل النشطاء المساندون لفلسطين، حيث أن أخطر وأكبر تهديد لحرية التعبير في الغرب، يستهدف ناقدي “إسرائيل”، مثل حادثة اعتقال مواطنين فرنسيين كانت جريمتهم ارتداء قمصان كتب عليها قاطعوا “إسرائيل”، إلى جانب تعرض نشطاء كنديين للتهديد بالملاحقة القانونية في بريطانيا على خلفية مشاركتهم في حملة مقاطعة “إسرائيل”.
بعبارات بسيطة، فإنه من غير الممكن، أن يكون الإنسان صادقا وواقعيا وفعالا في دفاعه عن حرية التعبير، دون أن يعارض هذه الحملة المنسقة والشرسة ضد حرية التعبير وحقوق التجمع والعمل المدني، التي يتم شنها لحماية الحكومة الإسرائيلية من الانتقادات. أما من يصفون أنفسهم بأنهم حماة حرية التعبير، الذين لا تعلوا أصواتهم إلا عندما يتم المساس بحلفائهم السياسيين، فيمكن وصفهم بأنهم دجالون ومخادعون. إذ أن المدافعين الحقيقيين عن حرية التعبير يعارضون القيود والتضييقات، حتى لو كانت ضد حق وحرية خصومهم السياسيين.
كل شخص يقف صامتا بينما تجبر بهية أموي على خسارة وظيفتها التي عملت فيها بجد من أجل بناء مسيرتها المهنية، وذلك على خلفية رفضها التخلي عن آراءها السياسية، فيما سيتم حرمان الأطفال الصغار من الدعم التخصصي الذي يحتاجونه وتوفره لهم بهية يمكنهم تسمية أنفسهم بعدة أسماء، ولكن في كل الأحوال لا يحق لهم أن يطلقوا على أنفسهم تسمية “مدافعين عن حرية التعبير”.
المصدر: الانترسبت