يحتفي العالم كله في 18 من ديسمبر من كل عام بما عُرف بـ#اليوم_العالمي_للغة_العربية، وهو شيء محمود بطبيعة الحال، حيث نتذكر أن هُويتنا وذاتنا ووجودنا – وفعلنا – ونظرتنا للعالم والحياة ترتبط بشكل كبير بطريقة تركيب اللغة وبنائها، وقد تحدّث المهندس أيمن عبد الرحيم، المتخصص في حقل هندسة اللغات ومعالجتها آليًا، عن هذا الموضوع المهم “علاقة بُنية اللغة وتركيبها برؤية العالم” بشيء من التفصيل في محاضرة مستقلة ضمن برنامج “تكوين وعي المسلم المعاصر”.
وبالقرب من هذا المعنى يقول الدكتور حسام قاسم أستاذ علم اللغة في جامعة القاهرة، في مقدمة الطبعة الأولى من كتاب “المحتوى الدلالي للوظائف النحوية”: “قضية العربية ليست مجرد قضية لغوية، بل ليست مجرد مشكلة ثقافية، وإنما تتعدى ذلك لترقى إلى أن تكون قضية وجود، فهي قضية تنمية من حيث إن تعلمها شرط في تحصيل الطلاب للعلوم، كما أنها شرط في تنمية قدرتهم على الإبداع؛ إذ ترتبط القدرة على الإبداع بأن يفكر الإنسان بلغته الأم التي اكتسبها في فترة صباه، والتي حصّل العلم بها. والقدرة على الابتكار والإبداع هي أساس التنمية في العالم المعاصر، فاختراع دواء واحد أو جهاز جديد قد يكون أربح من حقول البترول ومناجم الذهب. ويرتبط تعلم العربية ومعرفة الأدب العربي بالقدرة على الإبداع من جهة أخرى، إذ يقود ذلك الإنسان العربي إلى درجة من الثقة بنفسه والاعتزاز بثقافته وأدبه على نحو يسهم في مواجهة الشعور بالدونية الذي يراد له أن يتأصل في نفوس أبنائها، ومن شأن هذا الشعور بالدونية أن يدمر الرغبة في المحاولة والقدرة على الإبداع في أيٍّ من مجالات الحياة”.
وبشكل عام، فإن عوامل نهضة العربية وبقائها مغروسة مُضمّنة في سياق حضورها، على الأقل بشكل نظري، حيث ترتبط العربية ارتباطًا وثيقًا بالقرآن الكريم – آخر نور من السماء – ارتباط النفس بالجسد {إِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، كما أنها اللسان الجامع لأكثر من 400 مليون عربي، يشتركون في روابطَ تاريخية وحضارية وثقافية وجغرافية واحدة تقريبًا، ويتدفق المئات – وربما الآلاف – سنويًا من مناطق مختلفة من العالم على حواضنها بُغية تعلمها، آملين في أن ترخي لهم زمام قيادتها، فيسهل عليهم فهمُ نصوص الوحي والتفقهُ في الدين والتعرف على الثقافة العربية الإسلامية.
هذه المفردات غير العربية – بالمنطق التداوليّ – تُغطي معظم الحقول الدلالية في الحياة اليومية: الملابس والمواصلات والأماكن العامة والوظائف والرياضة والإعلام الرقمي والمُستحدثات
ولكن الأمر على أرض الواقع لا يعبر عن هذه الإمكانات النظرية السانحة؛ فمع وجود مُعوّقات منهجية في بُنية اللغة العربية تُصعّب تدريسها للراغبين فيها، لا سيما من غير أبنائها، رصدها الباحثون المُحدثون في كتاباتهم التفكيكية والتحليلية لبنى العربية وجذورها أمثال أحمد مختار عمر وإبراهيم أنيس وتمام حسان، التي تزيد وتتضح بتعنت وبلادة القائمين على تدريسها حينما يتمسكون بتدريس قواعد غير مستعملة وشواهد تحتاج إلى شواهد تفسرها، مُعمقين الهوة بين الشائع المنطوق والنظري المدروس، المعياري والوصفي، فيما يُعرف بظاهرة “الازدواج اللغوي”، غافلين عن كون اللغة خاضعةً بالأساس لمنطق “التداولية”، باعثين لطلابها رسالةً مفادها أن العربية لغةٌ ميتة! وبتتبع الواقع اللغوي التداولي المعاصر نجد أن العربية قد اختفت تمامًا من أهم حقولها الدلالية، وهو ناقوس خطر لنا جميعًا:
فأصبحنا [نرتدي] الـ Blouse, Short, T- shirt, Jeans, Jacket, Shoes, Skirt بدلاً من: القميص والبنطال والحذاء والمعطف والتنورة.
ثم [نركب]:Taxi, Metro, Auto Bus, Micro Bus, Mini Bus, Moto Bike بدلاً من: الأجرة والنقل والدراجة البخارية.
[لنذهب] إلى:Post, Police, Centre,Course, Market, Bank, Stadium, Café, Resturant, Cantine, Doctor, Mechanic, Engineer, Designer, Photographer, Programmer بدلاً من: البريد والشرطة والمصرف والسوق والملعب والمقهى والمطعم والطبيب، إلخ.
[لنلعبَ]:Gulf, Bing Bong, Tennis, Squash, Basket, Gym, Running, Volley Ball, Hand Ball بدلاً من: المضرب وكرة اليد وكرة الطائرة وكرة السلة والجري، إلخ.
الحل النوعي – كما نراه – ليس من داخل ميدان اللغة وحده، وإنما هو مُركبٌ متوازٍ
[ونستخدم]:Computer, Mobile, Dish, Remote, Sub, Reciever, Telivision, Mouse, Keyboard, Radio, Case, Profile, Cover, like, Comment, Share, Social Media, Virus, CD, Memory, lamp, Screen, Electric بدلاً من: الهاتف والحاسب والسماعة والمُستقبِل والمصباح والكهرباء والشاشة، إلخ.
[وتقول] فئة اجتماعية معينة:Home work, Lunch box, Breakfast, Mammy, School, Teacher, Grade, Exercise, Test بدلاً من: واجب مدرسي وفَطور ومدرسة ومُعلم وامتحان وصف دراسيّ.
ويُلاحظ الآتي مما سبق:
– أن هذه المفردات غير العربية – بالمنطق التداولي – تُغطي معظم الحقول الدلالية في الحياة اليومية: الملابس والمواصلات والأماكن العامة والوظائف والرياضة والإعلام الرقمي والمُستحدثات، بما يعني أن العربية غير مستعملة في يومنا بشكل شبه تام، و”الحقل الدلالي” هو مصطلح علمي يرتبط غالبًا بعلميْ البلاغة، والدلالة، واستقراء المفردات المذكورة استقراء غير تام بطبيعة الحال، إذ لا يتسع المقام لأكثر من ذلك، كما أن طبيعة اللغة تحول دون ذلك، ولكنه في نفس الوقت، كافٍ للحكم والاستنتاج.
– بعض الكلمات المذكورة من غير العربية ذات أصل فرنسي: الكوافير والكانتين والريستوران، وبعض تعريبات الكلمات الأجنبية هي أيضًا غير عربية: أجرة مثلاً.
– لا يمكن عزو هذه الكلمات غير العربية المستعملة إلى ظاهرة “الاقتراض اللغوي” التي تُفسر وجود كلمات غير عربية في القرآن مثلاً.
بعض الطبقات تتداول المفردات الأجنبية في تعاملاتها تعبيرًا عن الرقي الاجتماعي، وهذا مفهوم في ظل التخلف الحضاري المُعاش وارتباط الغرب – ذهنيًا ولا شعوريًا – بالتقدم
– كثير من الكلمات غير العربية المذكورة لها بدائل عربية، لكنها لا تُستخدَم لثقلها أو ضعف دلالتها على الشيء (كلمة مُستقبِل كتعريب لـReciever قد تستخدم للدلالة على الـ”راديو” أو الجهاز الذي يتصل بالقمر الصناعي لبث القنوات الفضائية، فسنضطر إلى تقييدها ببعض المقيدات لتوضيح الدلالة، كأن نقول: مُستقبِل إشارات القمر الصناعي، وهذا سخيف طبعًا!)، وفي النهاية، نجد أننا نستورد مُنتجًا ماديًا ونستورد اسمه، أي أننا أمام استيراد مركب: مادي وثقافي.
– بعض الكلمات غير العربية التي نستخدمها في سياق عربي هي نتاج لحالة “العولمة” وتذويب الهُويات، وبالتالي فهي منتجات عابرة للحدود أصلاً مثل كل ما يتعلق بالاتصال الجديد والإعلام الرقمي.
– بعض الطبقات تداول المفردات الأجنبية في تعاملاتها تعبيرًا عن الرقي الاجتماعي، وهذا مفهوم في ظل التخلف الحضاري المُعاش وارتباط الغرب – ذهنيًا ولا شعوريًا – بالتقدم.
ولسوء الحظ فإن الحل النوعي – كما نراه – ليس من داخل ميدان اللغة وحده، وإنما هو مُركبٌ متوازٍ، فاللغة تُقيّم بالتداول، واختفاء المنتجات الحضارية والتقنية والثقافية العربية يُميت تداولها، والاستمرار في تدريس غريبها وشاذها يحبس العربية في صورة ذهنية مُتخلفة ويحدها بإطار تاريخي وحضاري وثقافي مُنتهٍ، غير صالح للاستخدام المعاصر (افرنقعوا عني، ما لكم تكأكأتم علىّ كتكأكأكم علىٰ ذي جنة!)، ويقصر استخدامها في الصلاة وقراءة القرآن، كما يحدث في باكستان، فإذا قُضيت الصلاة، انتشر المسلمون في الأرض متحدثين باللهجات المحلية.
والمبادرات اللغوية التي تقدم خِدمةً نوعية للعربية ترتكز الآن فيما نرى على قاعدتين لا تنفصلان:
1- التركيز على الشائع المستعمل من الفصحى في الصحافة والإعلام، وأخصّ بالذكر هنا شبكة الجزيرة الإعلامية التي تقدم برامج بفصحى أنيقة، يتبارى فيها المقدمون على التجويد والتحسين، وموقعها الذي يقدم مساحةً خاصة لتعلم العربية.
2- توظيف التكنولوجيا واستغلالها لتقديم العربية في حُلّة معاصرة، كقراءة النصوص والتقارير الصحفية صوتيًا، كما فعل القائمون على “رواة” و”ميدان”، أو تقديم القواعد المستعملة التي يكثر فيها الخطأ كالهمزات وعلامات الترقيم بشكل مبسط مثل “أبسطهالك” و”نحو وصرف” و”اكتب صح”، ومن ذلك أيضًا البوابة الإلكترونية لـ”معجم الدوحة” الجديد، أول معجم تاريخي للغة العربية، ومجهودات “معهد قطر للحوسبة” في هندسة اللغة العربية عبر أنظمة معالجة اللغة العربية: صوتًا وصرفًا ونحوًا وإملاءً ودلالةً وتشكيلاً، وفهرسة.