على نحو مفاجئ، تلقى عدد من كبار الصحفيين السودانيين ورؤساء التحرير اتصالات من رئاسة الجمهورية مساء الأحد الماضي تفيد بعودة الرئيس البشير في تمام التاسعة والنصف مساءً من زيارة خارجية سرية لم يتم الإعلان عنها من قبل.
السودانيون انتظروا وديعة خليجية.. ولكن!
لأول وهلة تصور معظم الإعلاميين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي أن البشير قادم من إحدى دول الخليج إما قطر أو السعودية أو الإمارات، وتحدث آخرون عن تركيا وأنه يحمل بشارة خير بمنحة مالية أو وديعة على الأقل تنتشل البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها السودانيون منذ فترة ليست بالقليلة.
فرضية الترتيب الروسي لزيارة البشير تبدو أقرب للحقيقية كون الطائرة التي أقلته وأعادته كانت طائرة روسية
لكن سرعان ما تبخرت الأحلام رغم حالة الاستنفار والتجييش الإعلامي بدعوة رئاسة الجمهورية للصحفيين ليحل على الجميع شعور بالصدمة والذهول عندما كشفت وكالة الأنباء السورية ووسائل إعلام روسية أن البشير أجرى زيارة إلى العاصمة السورية دمشق التقى خلالها رئيس النظام بشار الأسد، ورغم أن الرئيس السوداني لم يقطع صلته نهائيًا مع النظام السوري، فإنه كثيرًا ما انتقده وهاجم بشار الأسد شخصيًا في أكثر من مناسبة، وهذه إحدى صور براغماتية البشير عندما يأتي إلى السعودية كان يهاجم إيران وحزب الله وبشار الأسد وعندما يزور الإمارات يقول إن تنظيم الإخوان خطر على أمن الدولة العربية، أما عند لقائه مع شباب ورموز حزبه المحسوبين على تيار الإخوان فيقول لهم “نحن حركة إسلامية كاملة الدسم” وهكذا دواليك.
زيارة بترتيب روسي وأردوغان يرد على البشير
من الواضح أن زيارة البشير إلى سوريا تمت بترتيب ورعاية روسية كاملتين فقد جاءت بعد مُضي عام من زيارته لموسكو ولقائه مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي أثار جدلًا عنيفًا في وسائل الإعلام، إذ طلب الأول من الثاني بشكلٍ صريحٍ الحماية من التدخلات الأمريكية وبدأت منذ تلك اللحظة عبارات المغازلة من جانب البشير للنظام السوري، حيث قال إن السلام غير ممكن من دون بشار الأسد، معتبرًا أن ما يحدث في سوريا نتيجة التدخل الأمريكي هناك.
عمر البشير في العاصمة الروسية موسكو
والبشير لم ينسَ كذلك أن بشار وقف إلى جانبه في أزمة المحكمة الجنائية الدولية ـ الهاجس الأكبر للرئيس السوداني ـ فقد كان رئيس النظام السوري أول من عبّر عن رفضه لمذكرة الاعتقال التي أصدرها قضاة لاهاي بحق عمر البشير عام 2009، ولذلك احتفظ الأخير بخط التواصل مع الأسد وبقي التمثيل الدبلوماسي للنظام السوري موجودًا في الخرطوم، وسفارة السودان كذلك لم تغلق في دمشق حتى عندما كان الأسد في أضعف حالاته.
في حديثه لـ”نون بوست”، يرى الناشط الإسلامي وليد دليل مؤسس مجموعة “سائحون” الشهيرة على فيسبوك أن “الرئيس البشير لم يذهب إلى سوريا من تلقاء نفسه، بل يحمل رسالة من دول عربية تريد جس النبض قبل إرسال وفودها الرسمية”، ويذهب دليل إلى أبعد من ذلك حين يقول: “البشير استقل طائرة روسية بمباركة أمريكية وإجماع عربي والأيام القادمة ستشهد انفراج الأزمات السودانية وحدوث توافق مع المعارضة السودانية تحت ضغط دولي”.
الرئيس التركي رجب طيب أروغان الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع البشير صرح مساء الإثنين قائلًا:: “الشخص الممسك بمقاليد السلطة في سوريا (بشار الأسد) يسعى للحفاظ على موقعه والبعض يعينه على ذلك، رغم مقتل مليون مسلم في هذا البلد”
لكن فرضية الترتيب الروسي لزيارة البشير تبدو أقرب للحقيقية كون الطائرة التي أقلته وأعادته كانت طائرة روسية ويمكننا بسهولة الربط بين الزيارة الحاليّة وزيارته العام الماضي إلى روسيا التي أعطت مؤشرًا على تحول تدريجي في إستراتيجية النظام السوداني إلى المعسكر الروسي الإيراني بعد أن يئس من تجاهل حلفاء حرب اليمن له، وازداد هذا الاحتمال عقب تفجر احتجاجات شهدها الشارع السوداني مطلع العام الحاليّ جراء ندرة الخبز والوقود بينما وقفت كل من الرياض وأبو ظبي موقف المتفرج رغم التضحيات الكبيرة التي قدمها لهم البشير في حرب اليمن.
الاحتمال الذي ذكره وليد دليل وتناقله العديد من الكتاب والمراقبين بأن زيارة الرئيس السوداني تحمل رسالة من أطراف إقليمية كالسعودية لنظام بشار وارد على أي حال، لكنه يبدو بعيدًا لمن يتتبع بدقة تطورات العلاقة الفاترة بين الخرطوم والرياض وتوقف زيارات البشير وجولاته المكوكية إلى العاصمة السعودية منذ فترة طويلة بعد أن وصلت إلى 10 زيارات خلال عامين.
اللافت أن الرئيس التركي رجب طيب أروغان الذي يتمتع بعلاقات جيدة مع البشير صرّح مساء الإثنين قائلًا: “الشخص الممسك بمقاليد السلطة في سوريا (بشار الأسد) يسعى للحفاظ على موقعه والبعض يعينه على ذلك، رغم مقتل مليون مسلم في هذا البلد”، مما يعد ربما ردًا غير مباشر على البشير الذي زار الأسد وتبادل معه عبارات المجاملة ما يعني اعترافًا بشرعيته.
الرئيس السوداني عمر البشير
تحول مرتقب في إستراتيجية البشير ومخاطر أمنية تواجه معارضي الأسد بالسودان
دليل آخر على تحول مرتقب في إستراتيجية البشير وهو الترحيب الإيراني والروسي بزيارة الرئيس السوداني، فقد احتفت وسائل الإعلام الإيرانية والروسية بالحدث الاستثنائي، وعدّته دليلًا على انتصار النظام السوري ودمجت وكالة تسنيم الإيرانية “شبه رسمية”، خبر زيارة البشير مع تقرير آخر عن زيارة مسؤول إيراني رفيع هو حسين جابري أنصاري، كبير مساعدي وزير الخارجية الإيراني للشؤون السياسية الخاصة، حيث ذكرت أن الأسد خلال اللقاء، أكد “أهمية الجهود التي تبذلها الدول الحليفة والصديقة لسوريا، وبالأخص إيران وروسيا لوقف تدخلات بعض الدول الغربية في المسار السياسي، وتكريس قيام عملية سياسية يقودها السوريون بأنفسهم”.
غير بعيدٍ من ذلك، علّق أستاذ الإعلام والأكاديمي السوداني ياسر محجوب الحسين قائلًا: “روسيا وإيران تهللان لزيارة البشير إلى سوريا؛ الخارجية الإيرانية تقول إن زيارة البشير إلى سوريا مهمة جدًا بعد تخلي العرب عن الشعب السوري، والخارجية الروسية تقول نأمل أن تسهم زيارة رئيس السودان إلى دمشق في عودة سوريا إلى الجامعة العربية، ومن هنا قد تتضح خيوط الزيارة المتشابكة”.
روسيا وإيران تهللان لزيارة البشير إلى سوريا؛ الخارجية الإيرانية تقول أن زيارة #البشير إلى سوريا مهمة جدا بعد تخلي العرب عن الشعب السوري. والخارجية الروسية تقول نأمل أن تسهم زيارة رئيس السودان إلى دمشق في عودة سوريا إلى الجامعة العربية. ومن هنا قد تتضح خيوط الزيارة المتشابكة. pic.twitter.com/ngcMqobmlp
— ياسر محجوب الحسين Yasir Elhussein (@yasir_mahgoub) December 17, 2018
حالة الصدمة والغضب الذي اعترى أقطاب الثورة السورية وداعميها العرب وحتى النشطاء السودانيين مفهوم في هذه الحالات، خصوصًا أن النظام السوداني كان قد فتح البلاد أمام دخول المواطنين السوريين ولم يضع عليهم شروطًا قاسية كما فعلت معظم الدول العربية، وربما تضع التطورات الأخيرة معارضي الأسد الموجودين داخل السودان في مأزق كبير بعد التحسن العلني وعبارات الغزل بين نظامي الخرطوم ودمشق، فثمة مخاطر حقيقية تواجه أمنهم وسلامتهم الشخصية بعد الدعم اللامحدود الذي أبداه البشير لنظام الأسد.
هل هناك وعود روسية بحل ضائقة الخبز؟
سيطرت زيارة الرئيس عمر البشير على اهتمامات رواد مواقع التواصل الاجتماعي في السودان منذ مساء الأحد، ولكن هذا الوضع مؤقت بطبيعة الحال، إذ سرعان ما بدأ الشباب يعودون في نقاشاتهم إلى الأوضاع المأساوية التي تشهدها البلاد وانعدام السلع الأساسية مثل الخبز والدواء والوقود إلى جانب ارتفاع سعر الدولار وتهاوي العملة الوطنية.
عجائب البشير وسياساته الخارجية ـ التي من المؤكد أنه يديرها بشكل شخصي ـ لا تنتهي، مع حالة الغضب الداخلي التي توشك على التسبب في ثورة شعبية بدأت بشائرها باحتجاجات متفرقة منذ يوم الجمعة الماضية وانضم إليها طلاب جامعات وكل السيناريوهات مفتوحة أمام إعادة التموضع الخارجي تجاه روسيا وإيران مع تسريبات متواترة عن قرب سحب القوات السودانية من اليمن وفي ظل غضب أرودغان وتصريحه القوي ضد داعمي الأسد، ولكن التحدي الداخلي يبقى الأهم في ظل السخط الشعبي الذي يتسع يومًا بعد يوم، فهل توجه البشير نحو روسيا كفيل بمساعدته في حل ضائقة الخبز بمنحه قمحًا وفق اشتراطات معينة، وحمايته من الملاحقة والتدخلات الأجنبية كما طلب من قبل؟