أرجأت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، التصويت للمرة الثانية على اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست) في البرلمان إلى الأسبوع الثالث من يناير/كانون الثاني المقبل، في الوقت الذي طالب فيه زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربن التصويت على سحب الثقة من ماي، بعد أن نجت الأسبوع الماضي من تصويت لسحب الثقة داخل حزبها، فهل تخسر رئيسة وزراء بريطانيا معركة البريكست؟
حظوظ ضئيلة لتمرير الاتفاق
المسؤولة البريطانية أجلت التصويت على الاتفاق بالبرلمان لقناعتها بأن حظوظ تمريره ضئيلة للغاية، وتفيد استطلاعات الرأي بأن 56% من البريطانيين يفضلون البقاء في الاتحاد الأوروبي في حال عدم التوصل لاتفاق بشأن الانفصال عنه.
وقبل أيام، أرجأت ماي أيضًا التصويت على الاتفاق، لتقوم بعد ذلك بجولة أوروبية للحصول على ضمانات إضافية لإقناع المشرعين البريطانيين، لا سيما ما يتعلق بالحدود بين أيرلندا الشمالية وأيرلندا الجنوبية، إلا أنها لم تحصل على شيء.
وأعلنت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي، خلال كلمة لمجلس العموم البريطاني، أمس الإثنين، أنه سيتم البدء في مناقشة اتفاق خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي الذي تم التوصل إليه في مجلس العموم البريطاني في الـ7 من يناير المقبل، على أن يتم إجراء التصويت على الاتفاق خلال الأسبوع الذي يليه.
وأبدت ماي، خلال كلمتها، تفهمها لعدم شعور النواب البريطانيين بالارتياح تجاه ما يعرف باتفاق “شبكة الأمان” أو “الباك ستوب” الخاص بأيرلندا الشمالية، وقالت إن قادة دول الاتحاد الأوروبي أطلعوها على سلسلة من النتائج خلال المناقشات الأخيرة التي أجرتها معهم في بروكسل، مشيرة إلى أن هناك عزمًا جادًا بأن يتم العمل سريعًا على اتفاقية تالية تؤسس بحلول 31 من ديسمبر 2020، ترتيبات بديلة، لكيلا يتم تفعيل اتفاق “شبكة الأمان”.
تسعى ماي إلى الدفاع عن صفقتها بالقول إن الشعب البريطاني صوّت مرتين لصالح “بريكست”
أضافت ماي أنه في حال تم إطلاق اتفاق “شبكة الأمان” فسيتم استخدامه بشكل مؤقت، مشيرة إلى أن نظراءها الأوروبيين لا يريدون استخدام “شبكة الأمان”، لافتة إلى أنهم يرغبون في إقامة أفضل علاقة مستقبلية ممكنة مع بريطانيا.
وشددت ماي على ضرورة أن يفكر النواب البريطانيون مليًا، خلال التصويت على الاتفاق، في المصلحة الفضلى للبلاد، وتابعت قائلة: “أعلم أن هذا الاتفاق ليس الأفضل بالنسبة للجميع، ولكنه حل وسط، ولكننا إذا تركنا الكمال يكون عدوًا للشيء الجيد، فإننا نخاطر بمغادرة الاتحاد الأوروبي دون اتفاق.”
وقالت ماي إنه لا يجب التوهم بأنه إذا تم التصويت ضد هذا الاتفاق، فإن اتفاقًا مختلفًا سيظهر على نحو خارق، لافتة إلى أن أي مقترح آخر للعلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي سيتطلب الموافقة على اتفاق الانسحاب الذي توصلت إليه.
ويعتزم نواب أحزاب “العمال” و”الديمقراطيين الأحرار” و”الوطني الأسكتلندي” و”الديمقراطي الوحدوي” كلها التصويت ضد اتفاق الخروج، رفقة العديد من نواب حزب المحافظين الغاضبين من رئيسة الوزراء.
الترتيب الخاص بأيرلندا
يعتبر البند المتصل بقضية الحدود الأيرلندية، أبرز أسباب رفض النواب البريطانيين للاتفاق الحاليّ، وخلال جولتها الأخيرة التي شملت برلين ولاهاي وبروكسل، أكّد القادة الأوروبيون أنهم لن يعيدوا التفاوض على اتفاق الانسحاب، وفي أحسن الأحوال سيقدمون إيضاحات للاتفاق للمساعدة في تمريره من البرلمان البريطاني.
ويخشى النواب المحافظون وحلفاء ماي في الحزب الوحدوي الديمقراطي الأيرلندي أن يتحول هذا الترتيب المؤقت بشأن الحدود الأيرلندية مع الاتحاد الأوروبي إلى حل دائم، ويطلق على هذا البند “الترتيب الخاص بأيرلندا”، وهو بند يلزم بريطانيا باتباع قواعد الاتحاد الأوروبي التجارية إلى حين إيجاد طريقة أفضل لتجنب فرض قيود حدودية صارمة عبر جزيرة أيرلندا.
في حال تصويت البرلمان ضدّ صفقة ماي، فإنه يتوجب عليها طرح البديل أمام البرلمان خلال 21 يومًا، ويستطيع البرلمان بعد تعديلات أمس التدخل في صياغة ما سيجري بعد ذلك، وهو ما يأمل البعض أن يؤدي إلى التوجه لاستفتاء ثانٍ، وخاصة بعد أن كشف استطلاع أجري لصالح “ذا تايمز” البريطانية أن 49% من البريطانيين يرون أنه كان من الخطأ التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما يرى 38% عكس ذلك.
وتسعى ماي إلى الدفاع عن صفقتها بالقول إن الشعب البريطاني قد صوّت مرتين لصالح “بريكست”، من خلال التصويت بالأغلبية لأحزاب تلتزم بتطبيق “بريكست”، وذلك في استفتاء 2016، وانتخابات 2017، التي شمل برنامجا حزبي المحافظين والعمال فيها تطبيق نتيجة الاستفتاء.
تصويت ثانٍ على البريكست سيقسم البلاد
اعتبرت ماي في كلمتها للبرلمان أن تصويت ثان على البريكست سيقسم البلاد في اللحظة التي يجب العمل على وحدتها، حاثة النواب البريطانيين إلى عدم كسر ثقة الشعب البريطاني عبر إجراء تصويت ثان على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وحذرت ماي من الدعوة إلى إجراء انتخابات عامة، مشددة على ضرورة عدم التفكير، خلال هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، في مصالح الأحزاب السياسية، بل ينبغي التفكير في المصلحة الوطنية.
وقالت رئيسة الوزراء البريطانية أمام نواب مجلس العموم البريطاني، أمس، إن إجراء استفتاء جديد على الخروج من الاتحاد الأوروبي سيهز ثقة الشعب البريطاني في مؤسساته الديمقراطية، وأضافت “من المرجح أن يجعلنا استفتاء آخر لا نتقدم أكثر مما حدث مع الاستفتاء الأخير”.
وكانت ماي قد أبرمت اتفاقًا للانفصال عن الاتحاد الأوروبي في الـ8 من ديسمبر/كانون الأول الحاليّ، وشمل الاتفاق ملف حقوق المواطنين الأوروبيين ببريطانيا والبريطانيين في دول الاتحاد، وملف كلفة الانفصال المتمثلة في الالتزامات المالية لبريطانيا في إطار موازنة الاتحاد، وملف الحدود الأيرلندية.
طلب سحب الثقة من ماي
تأجيل التصويت على الاتفاق، قابله تقديم زعيم حزب العمال المعارض جيريمي كوربن، طلب غير ملزم من أجل التصويت بالبرلمان على سحب الثقة من رئيسة الحكومة تيريزا ماي، ولن يؤدي طلب سحب الثقة إذا حصل على أغلبية أصوات أعضاء مجلس العموم إلى الإطاحة بالحكومة، لكنه يعد طلبًا غير ملزم لها بالاستقالة من رئاسة الوزراء.
ووصف جيريمي كوربن، حكومة ماي بالفوضوية وبأن رئيستها لم تعد تحظى بتأييد أعضاء حكومتها، ويسعى حزب العمال المعارض إلى التسريع بالتصويت على الاتفاق الذي توصلت له ماي لتأكّدهم من صعوبة تمريره، ما يمكنهم من التقدم بطلب لسحب الثقة من حكومة ماي ككل.
صوت البريطانيون بأغلبية طفيفة لفائدة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في استفتاء جرى يوم 23 من يونيو/حزيران 2016
قبل أسبوع من الآن، نجت تيريزا ماي من اقتراع لحجب الثقة عن زعامتها لحزب المحافظين، وقد عارض سحب الثقة من ماي 200 من أعضاء الحزب في حين أيده 117، ومع أن هذا التصويت أضعف ماي فإنه حصنها لمدة عام على الأقل ضد أي تحد جديد قد تواجهه داخل حزبها.
وجاء طرح مذكرة حجب الثقة عن ماي بناء على رسائل بهذا المعنى تقدّم بها عشرات من النواب المحافظين بعد قرار رئيسة الوزراء تأجيل التصويت على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، الذي أقرت بأنها ستخسره.
الخيارات المتاحة
لم يتبق سوى أقل من أربعة أشهر على الموعد المقرر لخروج بريطانيا من التكتل يوم 29 من مارس/آذار المقبل، وفي حال لم يلق اتفاق الانسحاب الذي توصلت إليه ماي قبولاً بين النواب البريطانيين، فهناك خيارات أخرى يمكن الالتجاء إليها.
من هذه الخيارات التي يمكن اللجوء إليها الدعوة لاستفتاء جديد على البريكست وهو ما قد يتجه إليه حزب العمال، ومع ذلك فإنه لا يزال هناك معارضة كبيرة لهذا الخيار أو الدعوة لانتخابات عامة جديدة، من خلال سحب الثقة من حكومة ماي وهو ما قد لا يلقى عددًا كافيًا من الأصوات.
ومن الخيارات المطروحة أيضًا، تأجيل الانسحاب خاصة مع قرار المحكمة الأوروبية الأخير الذي أعطى لبريطانيا حق إلغاء “بريكست” وتجميد العمل بالمادة 50 من ميثاق الاتحاد التي تمكّن من تعليق المفاوضات عامين شرط موافقة الدول الأعضاء الـ27.
وخلال الأسبوع الماضي، قضت أعلى محكمة في الاتحاد الأوروبي اليوم بأنه يمكن للحكومة البريطانية التراجع عن قرارها الانسحاب من الاتحاد دون استشارة باقي دوله الأعضاء، وجاء الحكم متوافقًا مع رأي قدمه المستشار القانوني للمحكمة الأسبوع الماضي.
تخشى “ماي” من استفتاء ثاني على الانفصال
إلى جانب ذلك، يطرح خيار الخروج الناعم، في نموذج يشبه وضع النرويج، حيث يمكن للبريطانيين أن يخرجوا بشكل ناعم مع علاقات أكثر قربًا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يقد يحظى بدعم كبير بين الأحزاب، إلا أن هذا الخيار يتطلّب تغيير الحكومة أولاً، ذلك أن ماي قد رفضته سابقًا.
وضمن هذه الخيارات، يلوح خيار الخروج دون اتفاق، غير أنه الخيار الأخطر، فالخروج من الاتحاد دون اتفاق يعني نهاية حرية الحركة بمجرد وضع خطة جديدة للهجرة، أما ما سيحدث قبل وضع هذه الخطة فمجهول.
وكان البريطانيون قد صوتوا بأغلبية طفيفة لفائدة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في استفتاء جرى يوم 23 من يونيو/حزيران 2016، ومنذ ذلك الحين دخلت لندن في مفاوضات عسيرة مع الاتحاد للاتفاق على صيغة للانفصال.
انطلاقًا مما تناولنا تبدو الأوضاع شديدة الغموض في بريطانيا، خاصة أمام تشبّث الأوروبيين باتفاق الانفصال الذي توصلوا إليه مع تيريزا ماي وفشل الأخيرة في إقناع غالبية النواب، بأن هذا الاتفاق هو الأفضل والوحيد الممكن.