الاهتمام بالتراث اليهودي في مصر.. لماذا خرج للعلن بعد سنوات من العمل السري؟

mbd_dly

في فبراير 2016 تقدمت 11 مؤسسة يهودية من مختلف دول العالم على رأسها “اللجنة الأمريكية اليهودية” بمذكرة مطولة من خمسة محاور رئيسية للحكومة المصرية تطالبها بالاعتراف بالتراث اليهودي في مصر وتحثها على حفظ هذا التراث وعدم إهماله والتعامل معه كما تراث الأديان الأخرى.

الموقعون على المذكرة اعترضوا على ما أسموه “التقليل من شأن اليهود في مصر خلال السنوات القليلة الماضية”، متهمين السلطات المصرية بالتقصير على مدار الـ14 عامًا الماضية، حيث تقدموا بعريضة موجهة بصورة رئيسية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يطالبونه فيها بإعادة النظر في التراث اليهودي ومكانة اليهود في مصر.

وفي الـ11 من ديسمبر الحاليّ أصدر السيسي قرارًا بتخصيص مليار و270 مليون جنيه (71 مليون دولار) لترميم التراث اليهودي في مصر، علمًا بأن عدد اليهود المقيمين فوق الأراضي المصرية تقلصوا إلى أقل من 20 فردًا على أقصى تقدير، مقسمين بين القاهرة والإسكندرية، بحسب الأرقام والإحصاءات الصادرة مؤخرًا.

حالة من الجدل أثارها القرار المفاجئ الذي تزامن مع دعوات السلطات المصرية تقليل حجم الإنفاق، الشعبي كان أو الحكومي، ما أثار العديد من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية وراء هذه الخطوة في هذا التوقيت رغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي يحياها المصريون وأودت بما يقرب من 3 ملايين منهم إلى ما دون خط الفقر.

يهود مصر.. تباين في الأرقام

لا توجد إحصاءات رسمية موثقة عن الأعداد الحقيقية لليهود في مصر، إذ خضعت الأرقام المعلنة التي تداولتها بعض وكالات الأنباء العالمية لتقديرات خاصة، غير أن ما أُجمع عليه هو أن العصر الذهبي لليهود في مصر كان إبان الحقبة الملكية، حيث وصل العدد وفق بعض التقديرات حينها إلى 120 ألف شخص.

تقلص هذا العدد إلى 85 ألف شخص في الأعوام التي سبقت الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وبعد عام 1948 هاجر ما يقرب من 20 ألف يهودي من مصر خلال أربع سنوات، واستمر نزوح اليهود من الأراضي المصرية خلال الحقبة الناصرية بعدما توترت العلاقات بين تل أبيب والرئيس الراحل جمال عبد الناصر.

وبعد تأميم قناة السويس عام 1956 بدأت الجالية اليهودية في مصر تلفظ أنفاسها الأخيرة بصورة كبيرة وذلك قبل القضاء عليها نهائيًا في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر والاشتباه في تجسس أفراد من الجالية لصالح الكيان الصهيوني، حيث تعرضت نسبة كبيرة منهم للاعتقال والأخرى فرت هاربة.

وخلال حرب الأيام الست في 1967 ظل في مصر ما يقرب من 12 ألف يهودي يعيشون في قلب القاهرة، ولكن سرعان ما ترك معظمهم البلاد عقب هذا الصراع، ورغم اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، فلم يتبق من الجالية اليهودية في مصر أكثر من 20 فردًا فقط، عادوا من أوروبا بعد استقرار الأوضاع السياسية.

نجح اليهود المقيمون في مصر في الاندماج داخل المجتمع، كما ساهموا في كثير من مراحل التاريخ في إثراء الحركة الفنية والثقافية والاقتصادية، على رأسهم الفنانة ليلي مراد والسينمائي توجو مزراحي والموسيقار داوود حسني ويعقوب صنوع الذي أنشأ أول مسرح في مصر عام 1870.

“المواطنون لهم حق العبادة، ولو عندنا ديانات أخرى سنبني لهم دور عبادة، ولو كان في يهود سنبني لهم، لأن ده حق المواطن أن يعبد ما يشاء أو لا يعبد” عبد الفتاح السيسي

قلق على التراث اليهودي

بعد الهروب الكبير لليهود من مصر لم يبق لهم من أثر سوى سيدات طاعنات في السن ومعابد خاوية، ست نساء في القاهرة و12 شخًصا في الإسكندرية معظمهم من السيدات المسنات، هذا ما أكدت عليه مارسيل هارون واحدة من آخر ستة أعضاء من الطائفة اليهودية في القاهرة.

هارون في تصريحات سابقة لها أبدت قلقها على التراث اليهودي المصري، موجهة اتهامها للحكومات المصرية بأنها ترغب في القضاء على هذا التراث قائلة: “ربما تكون هناك رغبة في محو كل أثر ليهود مصر”، متسائلة: “وفقًا للتاريخ، اليهود موجودون في مصر منذ الفراعنة، كيف تريدون محو قرون من التاريخ؟”.

وفي المحصلة، ترك اليهود المصريون تراثًا يهوديًا لا يستهان به يشمل المعابد وغيرها من الأملاك والقطع الفنية، والكثير من هذا التراث مهمل، حيث يوجد في مصر نحو 13 معبدًا يهوديًا تم بناؤهم في القرنين الماضيين، وتضم القاهرة خمسة معابد، منها معبد عدلي الشهير بوسط البلد الذي يسمى بـ”شعار هاشامايم” الذي يعني بوابة الجنة، وتزخر مكتبة هذا المعبد بنوادر المخطوطات التي جمعت من المعابد اليهودية المصرية المغلقة، وسميت بـ”مكتبة التراث اليهودي”.

ماجدة هارون رئيس الطائفة اليهودية في مصر

معبد عدلي

في وسط مدينة القاهرة وبداخل شارع عدلي الذي يعد من الأكثر ازدحامًا في هذه المنطقة، يجذب أنظار المارين مبنى تراثي قديم، على بابه نجمة داوود، وأمامه تقف سيارات الأمن المصفحة، مغلق معظم أيام العام إلا في مناسبات بعينها، وحين يفتح بابه يتحول الشارع إلى ثكنة عسكرية.

 معبد “شعار هاشامايم” الذي يعد أحد أبرز المعالم الأثرية ليهود مصر، ففيه تقام الاحتفالات وتنصب الفعاليات التي يحضرها رؤوس اليهودية في العالم، لا سيما من “إسرائيل” والولايات المتحدة، المعبد الذي يعني بالعبرية “بوابة السما” أو “بوابة الجنة”، وأطلق عليه البعض اسم “معبد الإسماعيليه”، أسسته عائلة بوصيري اليهودية في الفترة من 1903-1905، لكن تم تحديثه بالشكل الذي عليه الآن 1981 بإسهامات من المليونير اليهودي نسيم جالعون، وهو مبني على الطراز المعماري لمصر القديمة.

في وسط المعبد قاعة كبيرة لإقامة القداس والصلوات، تملك مفتاحها ماجدة هارون (65 عامًا) التي تترأس الآن الطائفة اليهودية في القاهرة، كما يوجد بالمعبد مكتبة التراث اليهودي التي افتتحها شيمون بيريز سنة 1990، بها نحو 75 ألف كتاب ومخطوطة، وتم أرشفتها وترتيبها بصورة جعلت منها مزارًا سياحيًا للعديد من يهود العالم.

هارون طالما دافعت عن جهودها في خدمة التراث اليهودي غير أنها امتنعت عن الإدلاء بأي تصريحات لـ”نون بوست” مكتفية بأن ما تقوم به واجبها تجاه الأجيال المقبلة، مؤكدة أن التراث اليهودي جزء من تاريخ مصر لا يمكن تجاهله، وأنها تحلم باليوم الذي ترى فيه تراث هويتها الدينية معروضًا أمام الجماهير بشكل علني، ملمحة إلى أن وزير الآثار المصري وعدها بفتح معبد يضم كل الحضارات المصرية القديمة ومنها التاريخ اليهودي.

“أخبرونا أننا نفعل هذه الأشياء، لكن لا يمكنك أن تخبر أحدًا بذلك.. ففي مصر كانوا يفعلون الأشياء، لكنهم يهمسون (لا تدع أحدًا يعلم!)” مدير الشؤون اليهودية الدولية للجنة اليهودية الأمريكية الحاخام أندرو بيكر

صحوة الاهتمام بالتراث اليهودي

في كلمته بمؤتمر الشباب الذي عقد في مدينة شرم الشيخ في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، قال الرئيس المصري: “المواطنون لهم حق العبادة، ولو عندنا ديانات أخرى سنبني لهم دور عبادة، ولو كان في يهود سنبني لهم، لأن ده حق المواطن أن يعبد ما يشاء أو لا يعبد”.

التراث اليهودي في عهد السيسي شهد طفرة كبيرة في مجال الترميم والإحياء، فرغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة خرجت الحكومة المصرية قبل أيام بقرار لحماية ممتلكات وتراث اليهود المصريين داخل مصر، عبر تخصيص مليار و270 مليون جنيه مصري (71.1 مليون دولار تقريبًا) لترميم التراث اليهودي.

وزير الآثار المصري خالد العناني علق على هذه الخطوة بقوله: “التراث اليهودي جزء من التراث المصري، ولن أنتظر أن يقول لي أحد خد فلوس ورممه؛ لأنه أولوية عندي كمثل التراث الفرعوني والروماني والإسلامي والقبطي”.

لم تكن هذه الخطوة هي الأولى من نوعها في هذا المضمار، ففي أغسطس 2017 أعلنت الحكومة عن مشروع لترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية بتكلفة 100 مليون جنيه مصري، وكان ذلك جزءًا ضمن حزمة مشاريع ترميم تراث، وقبل ذلك بعام وفي 2016 شكلت الحكومة لجنة لتسجيل التراث اليهودي بمصر، ولتحديد جميع المعالم الأثرية اليهودية وجميع المجموعات اليهودية في المعابد اليهودية.

فاروق حسني وزير الثقافة المصري سابقًا

من السرية للعلن

الجهود المبذولة لترميم المعابد اليهودية في مصر ليست وليدة اليوم، بل منذ عقود طويلة، لكن معظمها كان يتم في السر دون الإفصاح عن ذلك خشية رد فعل الشارع المصري الغاضب من الممارسات الوحشية لدولة الاحتلال، وهو ما صرح به مدير الشؤون اليهودية الدولية للجنة اليهودية الأمريكية الحاخام أندرو بيكر وأيدته الإجراءات الأخيرة.

بيكر في تصريحات له نقلتها “نيويورك تايمز” في سبتمبر 2009 قال: “أخبرونا أننا نفعل هذه الأشياء، لكن لا يمكنك أن تخبر أحدًا بذلك، ففي مصر كانوا يفعلون الأشياء، لكنهم يهمسون (لا تدع أحدًا يعلم!)”، ملمحًا إلى عدد من المشروعات التي كانت تتم في هذا الاتجاه في إطار من الكتمان والسرية.

وفي الشأن ذاته قالت رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، عن النشاط الذي تقوم به: “رممنا معبدي مصر الجديدة والمعادي، لاستغلالهما في أنشطة ثقافية، وتم تجهيز معبد المعادي لإقامة عروض مسرحية وموسيقية، والحقيقة أنني حاولت التواصل مع وزيرة الثقافة أكثر من مرة دون جدوى لمعرفة آخر التطورات في عدد من القضايا، ومن بينها ما تم في فهرسة أرشيف الطائفة اليهودية المصرية الذي سلمته للوزارة، وما زلت أطلب لقاءها”.

الأمر لم يقتصر على مشروعات لترميم التراث اليهودي وفقط، بل تجاوز ذلك إلى تدشين بعض الكيانات داخل مصر التي أخذت على عاتقها حماية هذا التراث والدفاع عنه، وهو ما كشفته مجلة “الإيكونومست” في تقرير لها نشر في سبتمبر 2017، حين كشفت أسماء بعض الجمعيات التي تم تأسيسها خصيصًا لهذا الغرض.

المجلة أماطت اللثام عن عدد من أسماء تلك الكيانات مثل جمعية الصداقة المصرية الإسرائيلية التي تعمل مع بعض الجمعيات في مصر على حماية هذا التراث، مثل جمعية “قطرة لبن” التي تعرف أيضًا باسم “أبواب السماء”، ويعمل أعضاء الجمعية من أجل الحفاظ على التراث.

وعن أهداف تلك الجمعية ونشاطها تقول “إيكونوموست” إنها تعمل على “إحداث نهضة في التراث اليهودي، ويلتقي أعضاؤها مرتين في الأسبوع لتعلم اللغة العبرية؛ حتى يتمكنوا من فهرسة 20 ألف كتاب في الطابق السفلي من معبد أبواب السماء، إذ يريدون تنظيم معرض حول تاريخ مصر اليهودي داخل المعبد، كما يريدون حماية المواقع الأخرى، مثل المقبرة اليهودية في القاهرة”.

السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي

ما الدوافع؟

دومًا كان الحديث عن إحياء التراث اليهودي في مصر مرتبطًا بمصالح تسعى القاهرة لتحقيقها من وراء فتح باب النقاش في هذا الملف، ففي عام 2009 على سبيل المثال فاجأ وزير الثقافة المصري آنذاك الجميع بالإعلان عن ترميم المعابد اليهودية في مصر، وهو الإعلان الذي أثار استغراب الجميع وقتها، لكن سرعان ما زال هذا الاستغراب مع الإعلان عن ترشح الوزير لرئاسة منظمة “اليونسكو” التي خسرها رغم ذلك.

الأمر ذاته تكرر في 2017 بعد ترشح السفيرة مشيرة خطاب لرئاسة ذات المنظمة، حيث أعلنت الحكومة المصرية عن ترميم المعبد اليهودي في الإسكندرية في 2016، رغم عدم تجاوز أعداد يهود الإسكندرية 12 شخًصا كما تم ذكره، وهو ما أعاد للأذهان وقتها سيناريو فاروق حسني، وقد حدث وخسرت المعركة هي الأخرى.

آخرون ذهبوا إلى أن مثل هذه التحركات تأتي في إطار المرحلة الحميمية التي دخلتها العلاقات بين القاهرة وتل أبيب خلال الأعوام الأربع الأخيرة على وجه التحديد، ومن ثم التمهيد العقلي والفكري للمصريين للقبول بعلاقات أكثر قوة ومتانة مع الكيان الصهيوني وهو ما ظهر جليًا على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني.

مثل هذه التحركات الأخيرة “استدرارًا لتعاطف الغرب، وهناك من يقولون إن هذه الخطوات تحدث الآن فقط، في وقت لم يعد هناك يهود في البلاد”

الكاتب الإسرائيلي أرئيل لافين في مقال له أشار إلى أنه منذ 2015 بدأت بعض المحاولات لتقديم صورة إيجابية عن اليهود في مصر على رأسها مسلسل “الحي اليهودي” هذا بخلاف التنسيق الواضح بين وزارتي الآثار في مصر و”إسرائيل”، حيث خصصت سلطة الآثار في تل أبيب 6 ملايين دولار لتجديد سقف الكنيس في الإسكندرية.

لافين أضاف إلى أنه “بعد أربعة عقود من توقيع معاهدة السلام بين مصر و”إسرائيل”، بدأت مصر في قبول اليهود داخلها، إذ قال مسؤول بوزارة الآثار إنهم (المصريين) دائمًا ما عاشوا في سلام مع اليهود، كان هذا مخبأً بداخلهم، لكن أعيد فتحه الآن، لافتًا إلى أن هناك 12 معبدًا يهوديًا في القاهرة، معظمهم في حالة سيئة.

الكاتب الإسرائيلي اختتم مقاله بترجيح ما ذهب إليه البعض بأن مثل هذه التحركات الأخيرة “استدرارًا لتعاطف الغرب، وهناك من يقولون إن هذه الخطوات تحدث الآن فقط، في وقت لم يعد هناك يهود في البلاد”، كاشفًا عما أشارت إليه بعض الجمعيات اليهودية بقولها: “تراث اليهود المصريين سيكون أكثر حماية خارج البلاد”.

ما ألمح إليه لافين في مقاله يتناغم بصورة كبيرة مع ماكشفته بعض المصادر لـ”نون بوست” بشأن اعتزام رجل الأعمال القبطي نجيب ساويرس شراء عدد من العقارات التراثية في منطقة وسط البلد خلال الآونة الأخيرة، تلك المباني التاريخية التي كانت مملوكة لعائلات يهودية أجبرت على تركها منذ عقود.

بعض من تلك المصادر ذهب إلى احتمالية قيام ساويرس بدور الوسيط لإعادة مثل هذه العقارات للعائلات اليهودية بمبالغ طائلة، فيما استبعد آخرون هذا التصور خاصة بعدما فطنت السلطات المصرية لتلك الممارسات خلال الأشهر القليلة الماضية التي على إثرها أوقفت عمليات البيع في هذه المنطقة.

ومن ثم  فيهود مصر وإن قل عددهم باتوا على مشارف مرحلة جديدة من التوافق والانسجام مع النظام الحالي، ما قد يدفع للتساؤل حول احتمالية قدوم يهود آخرين للإقامة في مصر  خلال الفترة القادمة خاصة وأن  العائلات القليلة المتواجدة حاليا تمتد  جذورها إلى خارج الحدود الجغرافية المصرية، ليبقى السؤال: هل تنجح محاولات إقناع العقل المصري بقبول علاقات أكثر قوة مع اليهود استغلالا لحالة الوئام بين القاهرة وتل أبيب؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة