لطالما تفوقت المرأة بشكل ملفت على الرجل في التحصيل الدراسي، ولكن بعد مرور أكثر من 40 عامًا على وصول النساء إلى سوق العمل، نجد أن قلة منهن وصلن إلى المناصب الرفيعة والأجور العالية، وذلك بالمقارنة مع الرجال الذي يحصدون العديد من الترقيات والأموال والسلطات التنفيذية. فما الذي يمنع المرأة من تسلق السلم الوظيفي؟
وجد الباحثون أن مشكلة انحصار المرأة في آفاق مهنية محددة تقع بسبب دورها الاجتماعي الذي يقيدها بين مسؤولياتها المنزلية ومشاعر الأمومة، إضافة إلى التحيز المؤسسي، والأسوأ من ذلك مساهمة المرأة نفسها في تعزيز هذا الموقف الهيكلي من خلال بعض السلوكيات السلبية.
مستقبل المرأة المهني بين الطموح والضغوط
تقول سوزان بينكر، عالمة نفسية، إن التفسير الرئيسي للفروق بين الجنسين في مكان العمل يعود إلى أن أدمغة النساء ليست أقل شأنًا من الرجال ولكنها تختلف بشكل كبير عنهم، فالمرأة تهتم أكثر بالمكافآت الذاتية ولديها اهتمامات أوسع وأكثر توجهًا نحو الخدمات والمساعدات. وهذا على النقيض من الرجال، الذي يكونوا غالبًا حازمين ومنتقمين وجريئين وجاهزين للتنافس، وهو العامل الذي يدفعهم بقوة إلى الأمام في سوق العمل، خاصةً أنهم لا يعانون من أي ضغوط ثقافية أو اجتماعية.
مسألة التوازن الوظيفي والعائلي تؤرق النساء وتجعل خياراتهن محصورة بين دورهن الاجتماعي ومشاعر الأمومة من جهة وبين طموحاتهن المهنية من جهة أخرى
تقول مارني وايت، أستاذة مساعدة في جامعة ييل الأمريكية، في تقرير لها بعنوان “الوسط الأكاديمي والأمومة: يمكننا الحصول على كليهما”، بأنها في بداية كل فصل دراسي تجد نفسها في نقاش مع إحدى الطالبات التي أحاطها الارتباك والقلق حول ما إذا كان يجب أن تبدأ حياتها الأسرية أم لا، وتشير إلى أن مسألة التوازن الوظيفي والعائلي التي تؤرق النساء وتجعل خياراتهن محصورة بين دورهن الاجتماعي وعاطفة الأمومة من جهة وبين طموحاتهن المهنية من جهة أخرى.
لماذا لا تحصد المرأة نجاحات مهنية مرموقة؟
بحسب دراسة أجراها أساتذة علم النفس دانييل وسوزان فويير في جامعة نيو برونزويك الكندية، والتي اعتمدوا في دراستها على نتائج أكثر من مليون طالب وطالبة من 30 دولة مختلفة، بينت النتائج أن الفتيات يحصلن على درجات أعلى من الفتيان في جميع المراحل والمواد الأكاديمية.
كما تتفوق النساء على الرجال في الالتحاق بالجامعات بنسبة 1.4 إلى 1، ولكن هذا النجاح لا يدوم طويلًا في الحياة المهنية، فسرعان ما تغيب صورة المرأة في المراكز الرفيعة والقيادية وتنحصر غالبًا في الوظائف ذات الدوام الجزئي أو المرن.
المرأة تعي أن احتمالية سعيها لآفاق مهنية عالية يمنعها من التمتع بحياة أسرية مستقرة، وعلى النقيض تمامًا، فإن ارتباطها بعائلتها أو أسرتها قد ينذر بإخفاقها المهني
وتفسيرًا لذلك، وجد الباحثون أن الصور النمطية للجنسين لعبت دورا كبيرًا في إخبار الذكور على أنهم لا يحتاجون إلى طاعة القواعد أو العمل بجد، وبإمكانهم التسرب من المدارس دون أي يواجهوا مشاكل جدية قد تعيق مسيرتهم المهنية في المستقبل، إذ يقول تومال ديبريت، أستاذ علم الاجتماع ومؤلف كتاب “نهوض المرأة”، إن الشباب “متفائلين أكثر من اللازم” حول قدرتهم على الحصول على وظيفة، على الرغم من أنهم أقل تعليمًا من النساء.
وفي نفس الجانب، توضح وايت عاملًا آخر وتقول: “عندما يرغب الرجال في الحصول على وظيفة وأطفال في آن واحد، لا يتم تحذيرهم من هذه القرارات وبالتالي لا تتقيد خياراتهم، لكن حين تختار المرأة إنجاب الأطفال فهي تلغي الطموح المهني من خططها، بسبب اقتناعها بأنه من المستحيل تحقيق التوازن العائلي والوظيفي”.
ما يعني أن المرأة تعي أن احتمالية سعيها لآفاق مهنية عالية يمنعها من التمتع بحياة أسرية مستقرة، وعلى النقيض تمامًا، فإن ارتباطها بعائلتها أو أسرتها قد ينذر بإخفاقها المهني، ولكن بالنسبة إلى وايت فهي ترى أن “النساء لا يحتجن إلى التخلي عن طريق واحد سعيًا وراء الآخر، ولكن هناك تحديات موازية لهذه الخيارات وليس هناك طريق واحد مثالي”.
أشار استطلاع رأي أن 49% من النساء العاملات هن بلا أطفال مقارنة مع 19% من الرجال، وهناك تسع نساء من بين كل عشر نساء متزوجات في المراكز المهنية الرفيعة
في عام 2001، أجريت دراسة استقصائية توضح مدى عمق عدم المساواة بين الجنسين، بالجانب إلى ساعات العمل الطويل والمهام الشاقة، بينت الدراسة أن النساء يتعرضن لضغوط مهنية ضعف ما يتعرض له الرجال بسبب التحديات الشخصية، فقد خلصت الدراسة إلى أنه كلما كان الرجل أكثر نجاحًا، كلما زاد احتمال بناءه حياة أسرية، على العكس من النساء العاملات، إذ أشار استطلاع رأي أن 49% من النساء العاملات هن بلا أطفال مقارنة مع 19% من الرجال، وهناك تسع نساء من بين كل عشر نساء متزوجات في المراكز المهنية الرفيعة.
هل تتحمل المرأة مسؤولية هذا الغياب؟
ترى البروفيسورة كارول بلاك، أن نصف المشكلة تقع على عاتق المرأة التي نادرًا ما تروج لغيرها من النساء لإدارة مناصب رفيعة وتفقد الثقة بنفسها ولا تدرك ما تريد، ما يجعلها مرشحًا ضعيفًا للمناصب الرفيعة والترقيات. وتقول: “طالبتُ بالحصول على العديد من الأشياء التي لم أحصل عليها، في بعض الأحيان كان من السهل الاستسلام، لكني تعلمت أهمية المرونة في التغلب على التوقعات المنخفضة لما يمكن أن تحققه النساء”.
وبحسب رأيها، فمن الصعب أن تبدأ المرأة أو تستعيد مسارها المهني إذا كانت تأخذ فترات راحة وإجازة طويلة، لأن الوقت الطبيعي للترقية يمكن أن يتزامن مع سنوات تربية الأطفال، فوفقًا لإحدى الدراسات، يزيد دخل النساء نحو 10% عن كل عام تأخير فيه قرار إنجاب الطفل الأول.
أجرت جامعة كاليفورنيا دراسة تشير فيها إلى ان الشركات الكبيرة التي لديها بعض النساء في المراكز القيادية كانت أفضل بكثير من الشركات التي يحتكرها الذكور بشكل كامل
فلا شك بإن الفجوة المستمرة في الأجور بين الرجال والنساء ترجع بشكل رئيسي إلى العقوبات التي تتكبدها النساء عندما يقاطعن مهنتهن لإنجاب أطفال، ففي دراسة حديثة، قارن الاقتصاديون الفجوة في الأجور عبر سبع دول صناعية ووجدوا أنها واسعة بشكل خاص في الولايات المتحدة. على سبيل المثال، في فرنسا تحصل النساء على 81٪ من أجر الذكور وفي السويد 84٪ ،وفي أستراليا 88٪، بينما في الولايات المتحدة، تستمر المرأة في الحصول على 78٪ من أجر الرجل.
كما وجدوا أن الأمهات يكسبن أقل من النساء الأخريات حتى وإن كن يمتلكن خبرة أكاديمية ومهنية واسعة، ورأى البعض منهم أن هذا التقصير يعود إلى فشل المؤسسات والمجتمعات في تطوير سياساتها لدعم الأمهات العاملات.
وتأكيدًا على قدرة المرأة في قيادة مناصب رفيعة، أجرت جامعة كاليفورنيا دراسة تشير فيها إلى ان الشركات الكبيرة التي لديها بعض النساء في المراكز القيادية كانت أفضل بكثير من الشركات التي يحتكرها الذكور بشكل كامل. فقد وجد الباحثون أن متوسط العائد على الأصول وحقوق الملكية في عام 2015 كان أعلى بنسبة 74٪ على الأقل من إجمالي مجموعة الشركات التي شملها الاستطلاع.