البداية كانت عندما هدد الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، قبل توليه لمقاليد الحكم، بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ما لم تقرر الدخول في مفاوضات مباشرة ونتائج إيجابية مع الطرف “الإسرائيلي”، معتبراً أن الفلسطينيين هم الذين يعيقون التفاوض. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2017، لم يُصدر الرئيس الأمريكي الشهادة الخاصة بتمديد عمل بعثة المنظة في واشنطن لستة شهور جديدة، ما رفع الصفة الرسمية عن المكتب الذي بات يعمل خارج القانون.
وبعد مرور ما يقارب العامين على توليه لمقاليد الحكم، أظهر الرئيس الأمريكي أنه لن يتوانى عن اتخاذ الإجراءات التي تُزهق حقوق الفلسطينيين لصالح “الإسرائيليين”، وأفصح عن توجهه لانضمام الفلسطينيين إلى المفاوضات التي تُنهي القضية الفلسطينية على نحوٍ يخدم الطموح الصهيونية على صعيد استراتيجي. وهذا ما جعل بحث الفلسطينيين عن بديل حقيقي للولايات المتحدة، يرعى عملية السلام، أمراً لا بد منه.
مؤشرات الميل الأمريكي لدعم الطرف “الإسرائيلي” على حساب حقوق الفلسطينيين:
في الآونة الأخيرة، بدت الكثير من الأمور التي تُظهر الولايات المُتحدة كدولة ترعى السلام لكن بمحاباة واضحة للطرف “الإسرائيلي”. ولعل المؤشرات على ذلك كثيرة، لكن أبرزها:
ـ الاعتراف بالقدس عاصمة “لإسرائيل”:
بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 2017، اعترفت الإدارة الأمريكية بالقدس عاصمة “لإسرائيل”، مشيرةً إلى أنه سيتم نقل السفارة لهناك. وعلل رئيس الإدارة الأمريكية، دونالد ترامب، هذه الخطوة بالرغبة في تسريع إتمام عملية السلام في الشرق الأوسط، والتوصل إلى حل دائم.
اللافت في قرار ترامب، إشارته إلى أنه لا زال يدعم مسار حل الدولتين، ما يضع عدة إشارات استفهام عن عاصمة الفلسطينيين البلدية لمدينة القدس بنظره
يُذكر أن الكونغرس الأمريكي أقر خطوة نقل السفارة الأمريكية لدى “إسرائيل” إلى القدس منذ عام 1995، لكن رؤوساء الولايات المتحدة المتتاليين أجلوا المصادقة عليه. وبطبيعة الحال، يأتي قرار إدارة ترامب على نحوٍ مخالف لجميع القرارات الدولية التي تشدد على ضرورة بقاء القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطينية المُنتظرة.
وكان اللافت في قرار ترامب، إشارته إلى أنه لا زال يدعم مسار حل الدولتين، ما يضع عدة إشارات استفهام عن عاصمة الفلسطينيين البلدية لمدينة القدس بنظره. ولكن عدم إقدام دولة مرموقة بنقل سفارتها إلى القدس، يحمل أملاً في إمكان استجداء الفلسطينيين دعماً دولياً ضد هذه الخطوة التي تضرب جميع القرارات الدولية السابقة بعرض الحائط.
وتُعدّ هذه الخطوة إحدى أهم الخطوات التي تؤكد دعم إدارة ترامب للتوجهات “الإسرائيلية”، فقد أعلنت “إسرائيل” المدينة عاصمة لها منذ احتلالها عام 1967.
ـ إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن:
لم يصدر ترامب في تشرين الثاني/نوفمبر من العام المنصرم، شهادة التصديق المطلوبة فيما يتعلق بتمديد عمل مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وفي 10 أيلول/سبتمبر 2018، أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً بخصوص المكتب، قالت فيه: “بعد تحليل دقيق، قررت الإدارة إغلاق منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن.”
وفي ذات البيان، شددت الخارجية الأمريكية على أن الولايات المتحدة لا زالت ترى أن المفاوضات المباشرة بين الطرفين هي السبيل الوحيد للسير إلى الإمام، محذرةً من “استغلال إجراءاتها من قبل الذين يسعون إلى منع التوصل إلى اتفاق سلام”. وهذا ما يحمل في طياته، على الأرجح، تهديداً للسلطة الفلسطينية، أكثر من الفصائل الفلسطينية المُقاومة. تهديدٌ يحذرها من الجنوح للبحث عن طريق أو راعٍ بديل لعملية السلام.
تزامن الحديث عن بحث منظمة التحرير الفلسطينية عن راعٍ جديد للقضية الفلسطينية، يشكّل بديل للولايات المتحدة، بانطلاق واشنطن نحو اتخاذ إجراءات صارمة بحق الفلسطينيين
فلسطينياً، وُجهت الخطوة باستنكار شديد، فقد صرح أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، صائب عريقات، حينها، وبحسب ما نقلته وكالة “وفا”، بأن “هناك هجمة تصعيدية مدروسة ضد الفلسطينيين، وسيكون لها عواقب سياسية وخيمة في تخريب النظام الدولي قاطبة“، مضيفاً أن هذه الخطوة جاءت كعقاب للسلطة الفلسطينية التي تواصل عملها مع المحكمة الجنائية الدولية ضد جرائم الحرب “الإسرائيلية”. ولعل مهاجمة مستشار الأمن القومي، جون بولتون، في 11 أيلول/سبتمبر، أي بعد يوم واحد فقط من اتخاذ قرار مكتب المنظمة، لمحكمة الجنايات الدولية بفرض عقوبات على قضاتها، لحماية مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها، يوحي، بما لا يدع مجالاً للشك، توجهاً واضحاً نحو دعم طموح “إسرائيل”، بتحدي جميع النتائج العكسية لذلك، وبإرغام المجتمع الدولي، ككل، على ذلك.
ـ العزوف عن المساهمة في دعم الأونروا:
أقدمت واشنطن، 30 آب/أغسطس، على تجميد 150 مليون دولار من حجم مساهمتها في تمويل “الأونروا”؛ ما جعل الأمر مثار تساؤل عن جوانب وتبعات هذا القرار الذي يأتي في إطار إعلان الإدارة الأمريكية نيّتها عن إكلال القضية الفلسطينية بحلٍ نهائيٍ يكون في صالح الاحتلال على أقل تقدير، لا سيما بعد اتهام منظمة التحرير الفلسطينية واشنطن بالسعي صوب “تصفية” القضية الفلسطينيين، لا سيما حق العودة.
دوافع البحث عن عن بديل للطرف الأمريكي:
ـ المؤشرات المذكورة أعلاه، والتي تزيد الخناق على الحقوق الفلسطينية.
ـ عدم قبول واشنطن فعلياً في أي مرحلة من مراحل عملية السلام بإقامة دولة فلسطينية مُستقلة، فقد كان أحد شروطها لعقد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، عدم تأييدها إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
المحاولة الفرنسية لرعاية القضية الفلسطينية، لم تكن معدومة، بل ظهرت للسطح في اقتراح الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، بعقد مؤتمر دولي للسلام الذي عُقد فعلاً في كانون الثاني/يناير 2017، بمشاركة 70 دولة، وغياب السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”.
ـ ممارسة واشنطن سياسة “الحرب النفسية الابتزازية”؛ “الديموغاجية” القائمة على التلويح بفرض عقوبات سياسية واقتصادية في حال أراد الفلسطينيون صُنع أي تحرك دولي من شأنها خدمة قضيتهم.
البدائل الدولية:
تزامن الحديث عن بحث منظمة التحرير الفلسطينية عن راعٍ جديد للقضية الفلسطينية، يشكّل بديل للولايات المتحدة، بانطلاق واشنطن نحو اتخاذ إجراءات صارمة بحق الفلسطينيين، لا سيما بعد إيقاف الرئيس الأمريكي إطلاق تصريح عمل مكتب المنظمة في واشنطن. غير أن التحرك الفعلي في هذا الاتجاه، ظهر قبل الاجتماع الدوري للجمعية العامة في الأمم المتحدة، حيث اتجه الرئيس الفلسطيني إلى باريس، في 21 أيلول/سبتمبر 2018، ملتقياً الرئيس الفرنسي، قبل التوجه إلى أعمال الجمعية العام، حيث طرح هناك مبادرته الناشدة لمؤتمر دولي للسلام.
ـ فرنسا:
ربما تُفهم جولة الرئيس عباس في إطار محاولته لتكثيف الجهود الدولية الداعمة لمبادرته، لكن أشار مرافقون له في جولته، لصحيفة الحياة، إلى أن عباس طالب ماكرون بأن تعمل أوروبا، لا سيما فرنسا وألمانيا، على توفير رعاية دولية بديلة عن الرعاية الأمريكية الحصرية.
إن المحاولة الفرنسية لرعاية القضية الفلسطينية، لم تكن معدومة، بل ظهرت للسطح في اقتراح الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، بعقد مؤتمر دولي للسلام الذي عُقد فعلاً في كانون الثاني/يناير 2017، بمشاركة 70 دولة، وغياب السلطة الفلسطينية و”إسرائيل”.
باتت دول المنطقة مرتبطة بديناميكيات أمريكا المُتربعة على عرش المنطقة، كقوة عُظمى، منذ فترة طويلة من الزمن
بطبيعة الحال، في ظل غياب أصحاب القضية الأساسيين، لا يمكن اعتبار المؤتمر على أنه مُجدي. كما يمكن وصف محاولة فرنسا للعب دور فاعل في القضية الفلسطينية “بالضعيف”، ونتائج المؤتمر المذكور “بالخاوية”، ففرنسا لم تمتلك القوة التي تدفع طرفي القضية للمشاركة، وإن حاولت السلطة الفلسطينية، في الوقت الحالي، الميل إليها، كيف يمكن لفرنسا أن تمتلك قوة رادعة أو هيبة تأثيرية تُجبر “إسرائيل” على الالتزام بمخرجات أي حراك دولي خارج عن المسار الأمريكي.
إلى جانب عدم امتلاكها القوة في إقناع “إسرائيل” بالانخراط في مسار جديد لعملية السلام، بلا أدنى شك تأتي محاولات فرنسا للعب دور حيوي في المنطقة كمحاولة “اللعب في الوقت الضائع”. وتنطلق فرنسا في محاولاتها المذكورة من مسعى لاستعادة دور محوري على الساحة الدولية، في إطار مشروعها الذي بات يتبناه الاتحاد الأوروبي “توحيد شطري البحر المتوسط” أو “الاتحاد من أجل المتوسط” في إطار تكتلات اقتصادية وسياسية متناغمة توفر للاتحاد الأوروبي منافذ بحرية ودور حيوي في المنطقة والعالم. لكن الهيمنة الأمريكية الصارخة في منطقة الشرق الأوسط، والتي تأتي في إطار السيطرة العُظمى التي تحول دون تحول “مبادرات الوقت الضائع” الفرنسية لملأ الفراغ الناجم عن تراجع الدور الأمريكي، نسبياً، في المنطقة، وتحوله نحو توجيه دعم كامل “لإسرائيل”.
لقد باتت دول المنطقة مرتبطة بديناميكيات أمريكا المُتربعة على عرش المنطقة، كقوة عُظمى، منذ فترة طويلة من الزمن، وهو ما يعزز فرضية اتباع فرنسا “دوراً تكميلياً” لا يتعارض كثيراً، أو لا يخرج عن المسار الأمريكي. وبحسبان حالة الصدمة النفسية التي أُصيبت بها فرنسا إبان العدوان الثلاثي على مصر، حيث اعترضت الولايات المتحدة الأمريكية عليه، وهدد الاتحاد السوفيتي بالتدخل العسكري لوقفه، والتي أشعرت فرنسا وبريطانيا، معاً، أنهما لم دروهما التأثيري الاستعماري في المنطقة بات من الماضي، يُتوقع أن تتجنب فرنسا الخوض في محاولات تُحرجها من جديد أمام الولايات المتحدة. ولعل استهداف “إسرائيل” لمفاعل تموز النووي في العراق، مطلع الثمانينيات، والتي كانت ترعاه فرنسا، لكنها لم تستطع أن تتحرك بشكلٍ يردع الاستهداف “الإسرائيلي”، خير مثال على نكوص دورها، وضعفه، أمام الولايات المتحدة وحليفها في المنطقة “إسرائيل”.
يمكن اعتبار الدولة الفرنسية أكثر فاعلية وأكثر تأثيراً في مسار بعض القضايا الفاعلة في الساحة الدولية، مقارنة بألمانيا التي وإن باتت تُمثل زعامة الاتحاد الأوروبي، ضمنياً،إلا أنها لا زالت تناور تحت عباءة النفوذ السياسي والعسكري الأمريكي الفعلي فوق أراضيها.
أخيراً، تحتل مطقة أفريقيا الدرجة الأولى في سلم أولويات السياسة الخارجية الفرنسية، فتلك المنطقة تعتبر حديقتها الخلفية، ولها ما لها فيها من مصالح أمنية وسياسية واقتصادية واسعة. وعليه يصعب توقع أن تُبرز فرنسا دور فعال في منطقة الشرق الأوسط كدرجة أولى من توجه سلم أولوياتها، نظراً لكثرة المنافسين، وانعدام تأثيرها الكامل في المنطقة.
ـ ألمانيا:
في الحقيقة، يُطرح سيناريو أن تكون ألمانيا بديلاً للولايات المتحدة، انطلاقاً من دورها الأخير في رعاية مفاوضات صفقة تبادل الأسرى التي تمت بين “حماس” والجانب “الإسرائيلي” عام 2011.
لكن لا تختلف حالة ألمانيا كثيراً عن الحالة الفرنسية. بل يمكن اعتبار الدولة الفرنسية أكثر فاعلية وأكثر تأثيراً في مسار بعض القضايا الفاعلة في الساحة الدولية، مقارنة بألمانيا التي وإن باتت تُمثل زعامة الاتحاد الأوروبي، ضمنياً،إلا أنها لا زالت تناور تحت عباءة النفوذ السياسي والعسكري الأمريكي الفعلي فوق أراضيها. فلا يُعقل أن تتولى دولة، لا زالت تحت عباءة دولة عُظمى، رعاية ملف ترعى الدولة العُظمى الراعية له، الولايات المتحدة، مصالح أحد أطرافه، “إسرائيل”.
كما أن ألمانيا تسير وفق سياسة التوازن أو ما يسمى بعدم الانحياز في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط عامةً، ومع الطرفين الفلسطيني و”الإسرائيلي” خاصةً، وإن أظهر في بعض الأحيان تحيزاً للطموح “الإسرائيلية”، إلا أنها، منذ ستينيات القرن الماضي، تُظهر توازناً في توجهها حيال القضية، فبينما تدعم المشاريع التنموية لصالح الجانب الفلسطيني، وتعترض على استخدام الولايات المتحدة أراضيها لتزويد “إسرائيل” بالأسلحة أو المسلتزمات اللوجستية التي تُستخدم في النزاعات، ووقوفها على الحياد في الحروب الكبيرة بين العرب و”إسرائيل،ورفضها لوجود المستوطنات المُنتشرة في الضفة الغربية، لا زالت تؤكّد على التزامها أخلاقياً في تعويض الجانب “الإسرائيلي” عن مجازر الهولوكوست والدفاع عن وجود “إسرائيل” وأمنها،وتعقد صفقات السلاح الكبيرة، وتصوت في المحافل الدولية لصالح القرارات التي تخدم “إسرائيل”، كتصويتها ضد قرار إدانة الصهيونية ونعتها “بالعنصرية”، كما أنها لم تعترف، إلى الآن، بحق الفلسطينيين في إقامة دولة مُستقلة، ولم تدعم قرار قبول فلسطين كعضو مراقب في الأمم المتحدة، حيث امتنعت عن التصويت، ولم تعترف إلى الآن بفلسطين.
لعبت بريطانيا الدور التاريخي الأكبر في مسار القضية الفلسطينية، حيث رسخت سلطتها الانتدابية في فلسطين عام 1917، وبسياساتها المقصودة وغير المقصودة، أدت لنشوء دولة “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية
إن انعدام التأثير الدبلوماسي الواسع لألمانيا في الساحة الدولية، وإظهارها لسياسة توازن عادة ما تكون غير حقيقية وتُظهر انحيازاً للصالح “الإسرائيلي”، وتشابك بعض ملفاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل”، انعدام قوتها في امتلاك سلاح الشرعية الدولية الذي يعني صوت “فيتو” في مجلس الأمن، وغيرها من العوامل قد لا تدفع منظمة التحرير للتوجه إليها كبديل أصلاً، إنما قد يستمر النظر إليها “كشريك مُكمل” في دعم فرنسا لدفع الاتحاد الأوروبي نحو دعم بعض الحقوق الفلسطينية، للضغط على “إسرائيل”، ودفعها نحو القبول برعايات دولية، ليس بالضرورة أن تتزعمها الولايات المتحدة.
ـ بريطانيا:
لقد لعبت بريطانيا الدور التاريخي الأكبر في مسار القضية الفلسطينية، حيث رسخت سلطتها الانتدابية في فلسطين عام 1917، وبسياساتها المقصودة وغير المقصودة، أدت لنشوء دولة “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية. وعلى الرغم من مرور سنوات عديدة، إلا أن بريطانيا لا زالت تنحاز “لإسرائيل”، وخير دليل على ذلك، احتفالها السنوي بذكرى إصدار وعد بلفور، بالرغم من طلب منظمة التحرير منها الاعتذار عن هذا الوعد الذي يُوصف، من قبل المنظمة، “بالظالم”. لكن برفضها لسياسة الاستيطان، وخلافها مع “إسرائيل” حول الملف الإيراني، وتصويتها ضد قرار ترامب فيما يتعلق بالاعتراف بالقدس عاصمة “لإسرائيل”، نُظر إليها كثقل يمكن أن يلعب دور الوسيط في القضية الفلسطينة.
غير أنه وفي الوقت الحالي، يُتوقع ان تتجه السياسة البريطانية، بعد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، نحو المزيد من الانحياز والتأييد “لإسرائيل”، بحسبان أن الأخيرة من الدول العشرة الأولى التي بادرت لطرح إمكان توقيع اتفاقية تجارة حرة معها، بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي. وتزداد أهمية “إسرائيل” الاقتصادية لبريطانيا، في ظل كونها المستورد الثاني الأكبر للبضائع “الإسرائيلية” بعد الولايات المتحدة.
ربما تكون بريطانيا بحاجة لتوقيع اتفاقيات أمنية واقتصادية جديدة مع الولايات المتحدة، بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي، ما يعني صعوبة توقع جنوح بريطانيا للعب دور حيوي ينافس التوجه الأمريكي، لا سيما في ظل أزمتها الدبلوماسية والجيوسياسية مع روسيا، على خلفية اغتيال الأخيرة لأحد عملائها على الأراضي البريطانية، وعلى خلفية ميل روسيا للتوغل في حوض شرق البحر المتوسط الذي تمتلك بريطانيا فيه قاعدة عسكرية ـ في قبرص ـ والذي يُعد نقطة نفوذ هامة لبريطانيا والغرب و”إسرائيل” المحاذية للحوض، ما قد يدفع بريطانيا و”إسرائيل” للنظر في توحيد الجهود لتحقيق المصالح المُشتركة ضد روسيا. ولعل التدريبات الجوية العسكرية المُشتركة التي أقامها الطرفان العام الماضي، خير دليل على محاولتهما للتقارب ورفع مستوى التنسيق في حوض شرق البحر المتوسط.
في ظل سيطرة الحزب المحافظ في البرلمان البريطاني، وفي ضوء تغيّر أولويات مركز الاهتمام الدولي، لا سيما الأوروبي، حيال الشرق الأوسط من النظر في الصراع “الإسرائيلي” ـ العربي والفلسطيني، إلى الحرب ضد الإرهاب، من الصعب تصور إقدام بريطانياعلى لعب دور الوسيط في الوقت الحالي.
وبوضع سياسات حلف “الناتو” الكلية، والتي تُعد بريطانيا أحد أهم أعضائه، حيال الشراكة مع “إسرائيل”، يُصعب توقع ميل السياسة الخارجية البريطانية لصالح رعاية مفاوضات القضية الفلسطينية، بما يصب في الصالح الفلسطيني. فالسياسات العليا التي تربط بين بريطانيا و”إسرائيل” في ملفات التعاون الأمني والاستخباراتي والاقتصادي، أكبر وأهم من إيلائها أهميةٍ لإظهار أخلاقية ترعى حقوق الفلسطينيين.
أيضاً، في ظل سيطرة الحزب المحافظ في البرلمان البريطاني، وفي ضوء تغيّر أولويات مركز الاهتمام الدولي، لا سيما الأوروبي، حيال الشرق الأوسط من النظر في الصراع “الإسرائيلي” ـ العربي والفلسطيني، إلى الحرب ضد الإرهاب، من الصعب تصور إقدام بريطانياعلى لعب دور الوسيط في الوقت الحالي.
ـ روسيا الاتحادية:
باعتبار التنافس التاريخي بين واشنطن وموسكو، عند الحديث عن بديل للولايات المتحدة في عملية السلام، يخطر على البال للوهلة الأولى موسكو التي يُنظر إليها على أنها دولة تسعى لمنافسة واشنطن، للوصول إلى تحقيق أهدافها في إعادة روح تعدد القطبية على الساحة الدولية.
ويُستند في هذا الطرح إلى توجه موسكو للسياسة الخارجية القائم على نظرية جيوسياسية استراتيجية تُعرف باسم “الأوراسيانية” التي يطرحها المفكر الروسي ألكسندر دوغين. تلك الاستراتيجية التي تُشير إلى ضرورة “تكامل” روسيا مع “أعمدة” القوى البرية الدولية والإقليمية، لتُصبح قادرة على مواجهة القوى البحرية التي يتسنمها حلف “الناتو”، ويُصبح لها قدرة على الوصول إلى المياه الدافئة في أوراسيا التي تُعد قلب العالم، وبذلك يخرج للسطح ما يُسمى بـ “النظام العالمي الأوراسي الجديدة“.
الدور “الإسرائيلي” الواضح في سوريا، والذي أرغم، إن صح التعبير، موسكو على التنسيق معها، ومنحها الحرية في استهداف القوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا، خير دليل على مدى إدراك موسكو لأهمية الأمن “الإسرائيلي” بالنسبة للولايات المتحدة
وفي ظل التوجه الروسي، في الوقت الحالي، نحو تثبيت أركان نفوذه بالاعتماد على بعض “أعمدة” الأقاليم حيوية الأهمية الجيوساسية، لا سيما حوض شرق البحر المتوسط وسوريا ومصر وليبيا، وهذا ما يجعلها أمام منافسة مُحتدمة مع القطب الغربي الذي يدعم “إسرائيل” التي لا ترى في موسكو دولة عُظمى، بل دولة كُبرى يمكن إخضاعها للتفاوض حول مصالحها، أي المصالح الإسرائيلي، من خلال التلويح بالركون إلى الولايات المتحدة.
ولعل الدور “الإسرائيلي” الواضح في سوريا، والذي أرغم، إن صح التعبير، موسكو على التنسيق معها، ومنحها الحرية في استهداف القوات الإيرانية وقوات حزب الله في سوريا، خير دليل على مدى إدراك موسكو لأهمية الأمن “الإسرائيلي” بالنسبة للولايات المتحدة. وعليه، يبدو من الصعب توقع ميل روسيا ذات الدور التاريخي في دعم القطب الفلسطيني والعربي ضد “إسرائيل” التي لا تعتبر لدورها وثقلها في ظل ركونها للشرعية الدولية التي يوفره لها “الفيتو” الأمريكي، للعب دور الوسيط المؤثر في القضية الفلسطينية.
لم يستطع الاتحاد السوفياتي في تقديم رؤية سلام تضغط على الطرفين الأمريكي و”الإسرائيلي” للقبول بها ولو جزئياً، وعليه يبدو أنه من الصعب جداً على روسيا التي لا تساوي قوتها الحالية القوة التي كان عليها الاتحاد السوفياتي، تقديم خطة ناجعة للحل. وتجدر الإشارة إلى أن روسيا ترى في “إسرائيل” دولة ذات سيادة، لذا فإنها ترى حق عودة الفلسطينيين انتهاكاً للسيادة “الإسرائيلية”. كما أنها تقبل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، لكن على نحوٍ لا يهدد أمن “إسرائيل”، وانطلاقاً من هذه المعادلة، لم تُخالف مُعاهدة “أوسلو” التي تنافت مع القيمة المُتعارف عليها في القانون الدولي.
ـ الجمهورية الصينية الشعبية:
تتجه أنظار الجمهورية الصينية حيال منطقة الشرق الأوسط، انطلاقاً من مشروعها العالمي المعروف باسم “حزب واحد ـ طريق واحد”. ويرمي هذا المشروع الاستراتيجي إلى إعادة إحياء طريق الحرير القديم عبر شبكة طرق تجارية تمر عبر جنوب آسيا لتربط الصين بدول جنوب وشرق آسيا والشرق الأوسط وصولاً إلى تركيا. ويقوم هذا الهدف النابع من نظرية إنشاء روابط اقتصادية وثيقة تمنح الدول فائدة متبادلة تجعلها مقربة من بعضها على صعيدٍ أمني وسياسي أيضاً، على توثيق الروابط التجارية والاقتصادية والتمويلية والأمنية بين الدول المُشاركة، بقيادة الصين التي أسست صندوقاً استثمارياً برأس مال يُقدر بمليارات الدولارات لتمويل المشاريع في الدول الأخرى.
الصين لا تتبنى دوراً كاملاً في تولي ملف رعاية حل القضية، بل ترمي إلى دعم الجهود الدولية، كما أنها، كما روسيا والدول الأخرى، لا تتبنى الرؤية الفلسطينية فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين والحقوق الفلسطينية الأخرى
ويشمل هذا المشروع ميناء حيفا “الإسرائيلية”. لذا، ووفقاً للتوجه الاستراتيجي، من الصعب توقع ميل الصين للعب دور مستقل أو موازٍ لدور الولايات المتحدة في حل القضية، حيث أن “إسرائيل” تُشكل إحدى أهم ركائز مشروعها الذي ترمي من خلال لتخفيف حدة الهيمنة الأمريكية على العالم. فوجود “إسرائيل” التي تلعب دوراً هاماً في توجيه أولويات القرار الأمريكي، يُمثل أهميةً كبيرةً للصين في مواجهة التصعيد الامريكي، ولو نسبياً.
وفي 11 كانون الأول/ديسمبر 2017، نشرت السفارة الصينية في بيروت بياناً يتضمن موقف بلادها تجاه القضية الفلسطينية، ووفقاً للبيان، فإن الرئيس الصيني شي جينبينغ، يتبنى الآراء التالية:
ـ الإيمان بحل الدولتين. وهذا ما ينفي حق العودة وغيرها من الحقوق الأخرى.
ـ دعوة الجانب “الإسرائيلي” لإيقاف الاستيطان على الأراضي المُحتلة وفقاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2334.
ـ تعزيز الجهود السلمية المُشتركة، ودعم كافة الجهود التي تُساهم في حل قضية فلسطين سياسياً.
ـ اتخاذ إجراءات مُتكاملة وتعزيز السلام عبر تحقيق التنمية.
بالتعمن في النقاط المذكورة أعلاه، يتضح أن الصين لا تتبنى دوراً كاملاً في تولي ملف رعاية حل القضية، بل ترمي إلى دعم الجهود الدولية، كما أنها، كما روسيا والدول الأخرى، لا تتبنى الرؤية الفلسطينية فيما يتعلق بحق عودة اللاجئين والحقوق الفلسطينية الأخرى. وأخيراً، لا يمكن الركون إلى الصين التي تولي السلام الاقتصادي؛ أي التنمية التي تولد أواصر اقتصادية وأمنية وسياسية مترابطة على نحوٍ متين بين دولٍ كبيرةٍ، كدولة يمكن أن تتبوء دور هام في رعاية تسوية القضية.
قبل كل شئ، يبدو أن تجاوز الولايات المتحدة الراعي الأول للقضية الفلسطينية، أمر نظري لا يحاكي الواقع. فالولايات المتحدة لا زالت تتسنم الدور القيادي لمسار العلاقات الدولية حول العالم. وعليه، يبدو أن الميل “لدور دولي تكاملي” تدعم فيه عدة دول حل القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى إصلاحٍ حقيقيٍ للبيت الفلسطيني، بحيث يظهر نوعاً من التماسك أمام دول العالم التي لا تدري كيف تتعاون مع الفلسطينيين، قد يفيا الغرض في توفير بديلٍ نسبيٍ للولايات المتحدة.