على الرغم من الانتشار الواسع له، إلا أنّ المصابين بالاكتئاب يشتركون فعليًأ في الكثير من الأمور المشتركة التي تمتدّ من طريقة النوم والحركة، مرورًا بكيفية التفاعل مع الأشخاص والأشياء المحيطة، ووصولًا إلى الطريقة التي يتحدّث بها الشخص والكلمات أو التعبيرات التي يستخدمها بشكلٍ يوميّ. ما يجعلنا نتّفق أنّ ثمة ما يمكننا تسميته بلغة الاكتئاب.
وليس صعبًا عليكَ أن تستشفّ الأمر من قراءتك لشعر أو أدب أو رواية الكثيرين ممّن عُرف عنهم إصابتهم بالاكتئاب أو غيره من الاضطرابات النفسية والعقلية الصعبة. خذ روايات فرجينيا وولف على سبيل المثال، واحدة من أهمّ قامات الأدب الإنجليزي ورواياته في القرن العشرين. فقد مرّت فرجينيا في حياتها بسلسلة كبيرة من الانهيارات العصبية والنفسية حتى انتهى بها الأمر بالانتحار غرقًا في نهر “أوس” القريب من منزلها بعد أنْ ملأت جيوبها بالحجارة وكتبت رسالةَ انتحارها مودعةً زوجها فيها.
القارئ لروايات فرجينيا يستطيع أنْ يشعر بدقّة بوقوعها ضحيّة اكتئاب عميقٍ سيطر على جميع جوانب حياتها. وبشكلٍ عام، يحاول العلماء منذ مدّة طويلة تحديد العلاقة بين اللغة والاكتئاب وغيره من الاضطرابات. وقد توصّل عددٌ من الأبحاث الحديثة إلى وجود علاقة فعلية قد تساعد في المستقبل بالتنبّؤ بالاكتئاب قبل الإصابة به، وبالتالي الحدّ من خطره الذي يحدق بأكثر من 300 مليون شخص من جميع الفئات العمرية حول العالم.
أنا، لي، تمامًا، أبدًا: المكتئبون لديهم لغتهم
في دراسة جديدة نُشرت في مجلة علم النفس السريري “Clinical Psychological Science”، وأجراها الباحثان توم جونستون ومحمد الموساوي، أنّ هناك مجموعة معيّنة من الكلمات التي تساعد بدقّة في التنبّؤ أو معرفة ما إذا كان الشخص يعاني من الاكتئاب أم لا.
يستخدم المكتئبون محتوىً لغويًّا يشمل الكلمات التي تعبّر عن حالاتٍ سلبية، كالحزن واليأس والوحدة والانكسار، وما إلى ذلك.
وبحسب مقال الموساوي المنشور في صحيفة “الإندبندنت”، فيمكن تقسيم اللغة إلى قسمين؛ المحتوى والأسلوب. إذ يعبّر المحتوى عن ما يشعر به الأشخاص وما يفكّرون به وما يريدون إيصاله وتوضيحه لمن حولهم. وفي حديثنا عن المصابين بالاكتئاب، فقد توصّل البحث أنّ المكتئبين عادةً ما يستخدمون محتوىً لغويًّا يشمل الكلمات التي تعبّر عن حالاتٍ سلبية، كالحزن واليأس والوحدة والانكسار، وما إلى ذلك.
وما يُثير الاهتمام أيضًا، كان استخدامهم لضمائر المتكلّم من قبيل “أنا” و”نفسي” و”ذاتي” و”لي”، وما يشابهها من ضمائر، في حين أنّهم نادرًا ما يستخدمون ضمائر المخاطَب أو الغائب مثل “أنت” أو “هي” أو “لهم”. وهو ما يُخبرنا بالفعل أنّ الأشخاص الذي يعانون من الاكتئاب فغالبًا ما يركّزون على أنفسهم أكثر من تركيزهم على العالم أو الآخرين من حولهم، نظرًا لانعزالهم وقلّة ارتباطهم بهم أو تواصلهم معهم.
يميل المكتئب إلى استخدام المفاهيم المُطلقة مثل “دائمًا” و”لا شيء” و”تمامًا” و”يجب” كتعبيرٍ منه على نظرته الثنائية للوجود: أبيض أو أسود
أمّا الأسلوب، فيشير من جهةٍ أخرى إلى الكيفية التي نستخدم بها اللغة للتعبير عن أنفسنا، لا ما نعبّر عنه. وقد وجد الباحثان أنّ المكتئب يميل إلى استخدام المفاهيم المُطلقة مثل “دائمًا” و”لا شيء” و”تمامًا” و”يجب”، وهي الكلمات التي تتعامل مع الوجود والعالم بنظرة مبنية على الثنائيات تتأرجح ما بين الأسود والأبيض. ويزيد استخدام هذه الكلمات المطلقة بنسبة 50٪ تقريبًا في حالات القلق والاكتئاب، وبنسبة 80٪ تقريبًا في حالات التفكير الانتحاري.
فيسبوك يستطيع الكشف عن الاكتئاب أيضًا!
هناك الكثير من المقالات والأوراق البحثية التي تظهر وجود صلة بين استخدام وسائل الإعلام الاجتماعية من جهة، والاضطرابات أو الأمراض العقلية والنفسية من جهةٍ أخرى، ولكن ماذا لو كان من الممكن اللجوء إلى هذه المواقع والمنصّات نفسها لتشخيص حالات الاكتئاب قبل أنْ يتمّ تشخيصها سريريًّا أو طبّيًا؟
بالإمكان التنبّؤ بالمصابين بالاكتئاب بدقةٍ عالية من خلال اللغة التي يستخدمونها في منشوراتهم على موقع فيسبوك
ففي بحثٍ حديثٍ نُشر في في 15 تشرين الأول/أكتوبر الماضي وسعى لدراسة العلاقة بين الكلام المنشور على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك والاكتئاب، توصّل القائمون عليه إلى أنّه بالإمكان التنبّؤ بالمصابين بالاكتئاب بدقةٍ عالية من خلال اللغة التي يستخدمونها في منشوراتهم. إذ تتبّعت الدراسة تاريخ منشورات فيسبوك التي نشرها 683 شخصًا على مدار 26 شهرًا ، 114 شخصًا منهم لديه تشخيص سابق بالاكتئاب في سجّله الطبّي.
وغالبًا ما تكون اللغة التي يستخدمها أولئك المكتئبون أو المعرّضون للاكتئاب تشمل العديد من الكلمات العاطفية التي تعبّر عن الحالات السلبية مثل الحزن والبؤس والوحدة، والتعابير الشخصية التي تعبّر عن الذات والانشغال بها أو التأمّل فيها والتركيز عليها، بالإضافة إلى العدوانية تجاه الآخرين أو ما يُحيط بهم. وقد استفاد الباحثون من الكلمات والعبارات الأكثر استخدامًا وصنّفوها في 200 موضوع لتحديد ما يسمى “علامات اللغة المرتبطة بالاكتئاب”. ويمكن عندئذ مقارنة لغة المجموعة المكتئبة مع لغة المجموعة الضابطة في تحديد الأنماط بين الاثنين.
المكتئبون أكثر احتمالًا لاستخدام الكلمات المرتبطة بالمزاج المكتئِب على فيسبوك مثل الدموع والبكاء والألم واليأس، والشعور بالوحدة والقلق والخوف واليأس
وتمامًا كما أظهرت الأبحاث السابقة، فقد وجدت الخوارزمية أنّ الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب كانوا أكثر عرضة لاستخدام الضمائر الفردية للمفرد مثل أنا ونفسي ولي. كما أنهم كانوا أكثر احتمالًا لاستخدام الكلمات المرتبطة بالمزاج المكتئِب مثل الدموع والبكاء والألم واليأس، والشعور بالوحدة والقلق والخوف والضيق، والعدوانية، والكلمات التي تتعلّق بالتأمل.
من هنا، يرى القائمون على البحث أنّ التصوّر القائل بأنّ استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ليس مفيدًا للصحة النفسية هو تصوّر غير صحيح بالمجمل. فقد تبيّن أنها أداة مهمة لتشخيص الاضطرابات النفسية ومراقبتها ومعالجتها وتقديم الدعم النفسيّ لمن يحتاجونه في نهاية المطاف، حتى قبل أنْ يتمّ تشخيصها سريريًّا على أيدي أطّباء مختصّين بما يقارب الثلاثة شهور على أقلّ تقدير.
انتبه للغتك.. نصائح ممكنة
العديد من الأشخاص يعتقدون أنّ الكلمات والتعبيرات التي يستخدمونها ما هيَ إلا وسيلة لنقل ما يفكّرون أو يشعرون به، لكنّ الأمر أعقد من ذلك. فاللغة أيضًا وعاء لخلق الأفكار والمشاعر إلى جانب كونها وسيلة نقل وتواصل. وبالتالي، كلما كانت أكثر مرونةً وحياديةً لأصبح الأمر أسهل في التعامل مع الاكتئاب والاضطرابات الأخرى.
وحتى لو لم تكن قادرًا على استبدال الكلمات السلبية التي تستخدمها بأخرى إيجابية، حاول استبدالها بكلماتٍ أكثر دقّة بالتعبير ولا تكتفِ بالثنائيات التي تقسّم العالم من خلالها إلى أبيض أو أسود. فبدلاً من قولك “هذا اليوم سيّء” ، جرب قول “هذا ليس أفضل أيّامي”. إضافةً لذلك، حاول التقليل من استخدامك للمصطلحات المُطلقة، لا سيّما في ما يتعلّق بعلاقاتك وأهدافك وقراراتك المهمّة.
قد تساعدك تمارين الكتابة والتدوين أو التحدّث إلى صديقٍ أو قريب على التعرّف على اللغة التي تستخدمها والتعبيرات التي تلجأ إليه لنقل أفكارك ومشاعرك ونظراتك للعالم والوجود والآخرين من حولك. حدّد من خلال ذلك الجمل السلبية واعمل على استبدالها أو إعادة صياغتها بطرقٍ أكثر إيجابية. والأهمّ من ذلك، انتبه من استخدامك لضمائر المتكلّم، خاصّة “أنا”، فهو بالنهاية يعمل على تضخيم تركيزك على نفسك وذاتك ويحدّ من أيّ زاوية أو وجهة نظر أخرى حولك.