“لسنا نعلم رجلًا آخر من أبناء جلدتنا غير ابن ميمون، قد تأثر بالحضارة الإسلامية تأثرًا بالغ الحد حتى بدت آثاره، وظهرت صبغته في مدوناته من مصنفات كبيرة ورسائل صغيرة. ولا بدع فقد نشأ في بيئة عربية، واتصل بكثير من عظماء الأندلس، وبلاد المغرب، ومصر، ومثل هذا الاحتكاك يجب أن يحسب حسابه في أثناء قراءة تراث ابن ميمون”، هذا ما قاله الدكتور إسرائيل ولفنسون، أستاذ اللغات السامية بدار العلوم، في كتابه “موسى بن ميمون: حياته ومصنفاته”.
يحدثنا التاريخ في هذا التقرير عن واحد من أهم رواد الفكر والفلسفة والدين اليهودي خلال العصور الوسطى، والذى قضى معظم سنين حياته متنقلًا بين الدول العربية والإسلامية، ما جعله يتأثر فكريًا ودينيًا بعادات وثقافات هذه البلاد، وما دفعه لاحقًا إلى إضفاء بعض من صبغتها ومعتقداتها على التشريع والثقافة اليهودية، ونظرًا لهذا الميل الملحوظ للنسق الإسلامي، عده البعض مفكرًا وفيلسوفًا إسلاميًا كغيره من علماء المسلمين، فما قصة هذا المفكر الذي جال في الأوطان العربية؟ وكيف جذب انتباه وإعجاب المفكرين العرب إلى آرائه؟
من يكون موسى بن ميمون؟
هو فلكي وفيلسوف وطبيب يهودي، ولد في قرطبة في الأندلس عام 1135 وتوفي في القاهرة في 13 ديسمبر عام 1204، عرفه العرب باسم أبو عمران موسى بن ميمون بن عبد الله، ولقبه الغرب بـ “ميمونيدس”، تلقى تعليمه الديني على يد والده الذي كان قاضيًا في المحكمة الشرعية في قرطبة، وكان في سن الـ13 عندما استولى الموحدون على قرطبة وأجبروا اليهود على اعتناق الإسلام أو النفي، فاختارت عائلته الرحيل وهاجروا إلى إسبانيا ثم استقروا في المغرب ودرس ابن ميمون بجامعة القرويين الطب والفلسفة، ثم درس فيها لاحقًا.
في أثناء إقامته في الفاس، تظاهر ابن ميمون كغيره من الأسر اليهودية باعتناقه للإسلام، وكتب ذات مرة أنه لم يكن يجب عليهم أداء الشعائر والعبادات الإسلامية، وإنما التلفظ ببعض العبارات التي تدل على إيمانهم بالإسلام لا أكثر، ولكن خوفًا على نفسه انتقل ابن ميمون في عام 1165 إلى مصر وأعلن يهوديته هناك، ما أثار حفيظة البعض الذين طالبوا بإعدامه، لكن وزير صلاح الدين الأيوبي، القاضي عبد الرحيم البيساني رفض مطالبهم، وقال: “إن الرجل الذي أرغم على اعتناق الإسلام ليس بمسلم، وبالتالي لا يمكن أن يعتبر مرتدًا”.
نال صيته كطبيب عندما اختير طبيبًا خاصًا لصلاح الدين ومن ورثه على العرش، فبحسب الوثائق التاريخية، تميز ابن ميمون بمعاملته المتواضعة وإصراره على علاج مرضاه باتباع نظام غذائي محدد قبل إعطاء الدواء
وعاش ابن ميمون ما بين القاهرة والإسكندية والفسطاط، وكان يُلقي محاضرات مختلفة على الشباب ما بين الفلك والفلسفة والدين والرياضيات، وحين ضاقت أحواله المادية، قرر أن يزاول مهنة الطب، ونال صيته كطبيب عندما اختير طبيبًا خاصًا لصلاح الدين ومن ورثه على العرش، وخصص له الوزير راتبًا شهريًا، فبحسب الوثائق التاريخية، تميز ابن ميمون بمهنيته ومعاملته المتواضعة وإصراره على علاج مرضاه باتباع نظام غذائي محدد قبل إعطاء الدواء.
كما عين رئيسًا رسميًا للطائفة اليهودية في عام 1177، وحاول إلغاء جميع العادات الوثنية المبنية على الأوهام والتعويذات واجتهد في تنقيتها من الخرافات الشعبية وصبغها بصبغة عقلانية متوازنة، وهنا كانت بداية أفكاره الإصلاحية التجديدية التي اعتبرت ثورة فكرية في الدين اليهودي ودفعت الأوساط اليهودية لمناداته بـ “موسى الثاني” وقول عبارات مثل: “من موسى إلى موسى، لم يقم مثل موسى”.
تأثير الفكر الإسلامي على آراء ابن ميمون وهويته الفكرية
ألف ابن ميمون كتب عدة واقتبس من إنتاجات فلاسفة وعلماء المسلمين مثل ابن رشد وابن الأفلح وابن حزم والفارابي وابن الطفيل، واستلهم مبادئهم وأفكارهم، وتنوعت مؤلفاتها -معظمها باللغة العربية- بين الطب والفلسفة والشريعة اليهودية، ومن أهمها: السراج والمشناه توراة والتي طور فيها عناصر التوحيد، فبحسب ما يقول عبد الوهاب المسيري، مفكر وعالم اجتماع مصري إسلامي، حاول ابن ميمون “أسلمة اليهودية” من خلال إضفاء الصبغة التوحيدية التي ترى أن الله واحد متجاوز للطبيعة والتاريخ والإنسان على الفكر اليهودي.
إذ تضمن كتابه “السراج” مبادئ الإيمان التوحيدية ومنها، “الله أزلي، فهو الأول والأخير”، و “لا يشبه الله في وحدانيته شيء وهو وحده الإله منذ الأزل وإلى الأبد”، و “الله وحده من ينبغي أن يعبد، ولا جدير بالعبادة غيره”، و “الله موجود وهو المدبر للمخلوقات كلها”، ولا بد من الإشارة للانتقادات التي طالت ابن ميمون بسبب هذه التشريعات التي رفضتها جماعات يهودية آنذاك ولكنها باتت الآن جزءًا من كتب الشريعة اليهودية.
اقتبس آراء الفارابي وأبا بكر بن الصائغ وجمع بين الدين والمنطق، وحاول إلغاء أي تعارض بين العقل والوحي الإلهي، كما استلهم أفكار أخرى حول الذات الإلهية من ابن سينا وابن رشد
أما فيما يتعلق بكتبه الفلسفية، فقد اتضح به التأثر بالمفكرين المسلمين بشكل كبير، ففي كتابه “دلالة الحائرين” اقتبس آراء الفارابي وأبا بكر بن الصائغ وجمع بين الدين والمنطق، وحاول إلغاء أي تعارض بين العقل والوحي الإلهي، كما استلهم أفكار أخرى حول الذات الإلهية من ابن سينا وابن رشد، ورأى أنه عندما يطلقون الناس صفات بشرية على الله “فهم لا يعبرون عما يكونه الله، لأننا لا نعرف شيء عن جوهر الله”.
قولنا إنه فيلسوفٌ إسلامي، لا يعني أننا نرمي إلى القول بأنه مسلم آمن بالإسلام دينًا، بل هو فيلسوف إسلامي بالمعني الثقافي الحضاري فحسب
ونتيجة لما تبناه ابن ميمون من أفكار ومبادئ إسلامية الأصل والجذور، رأى حسين آتاي، الفيلسوف والأكاديمي التركي، أن “ابن ميمون فيلسوف إسلامي من ناحية الشكل ومن ناحية الموضوع، لأنه نشأ في ذلك المناخ الفكري، فساهم فيه وأضاف إليه بمقدار ما أخذ منه”، ويضيف: “وقولنا إنه فيلسوفٌ إسلامي، لا يعني أننا نرمي إلى القول بأنه مسلم آمن بالإسلام دينًا، بل هو فيلسوف إسلامي بالمعني الثقافي الحضاري فحسب”، وذلك بالإضافة إلى ما يعرف به المفكر المصري المسيري قائلًا: “ابن ميمون مفكر عربي إسلامي الحضارة والفكر، يؤمن باليهودية، وعضو في الجماعة اليهودية في إسبانيا الإسلامية”.
وبالرغم من تأثره الكبير بالتوجهات الفكرية الإسلامية المنفتحة والمتسامحة والمنطقية، تبنى ابن ميمون في الجهة المقابلة مواقف متعصبة للقومية اليهودية ومتطرفة ضد الأديان والطوائف الأخرى، ولكن هذه النزعة لم تمنعه من الحصول على الصيت والاحترام كغيره من رواد الفلسفة والفكر التجديدي الذين تأثروا بالثقافة العربية والتعاليم الإسلامية واحتفظوا بنفس الوقت بقناعاتهم ومعتقداتهم الدينية.