تحتضن المغرب، عشرات الطلاب الفرنسيين ليكونوا أئمة الغد في فرنسا، وكوادر المستقبل من أهل المذهب السني في هذا البلد الأوروبي العلماني الذي ينشد النهوض بإسلام معتدل قائم على السلام والتسامح من أجل محاربة التطرف، لكن لسائل أن يسأل لما اختارت فرنسا المغرب على باقي الدول الإسلامية لتدريب أئمة مساجدها؟
الفوج الأول على أبواب التخرّج
يستقبل معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات في قلب العاصمة المغربية الرباط، 67 طالبا قدموا من أنحاء متفرقة من فرنسا من أجل الحصول على دبلوم إمام مهني يتيح لهم فرصة العمل كأطر المستقبل في مجال الدين الإسلامي السني في بلادهم.
ومن المنتظر أن يتخرج الفوج الأول، خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، ويضم هذا الفوج 19 طالبا، ضمنهم 10 نساء سيصبحن مرشدات، ويتلقى هؤلاء الطلبة دروسا تندرج في الحرية الدينية التي تكفلها التشريعات الفرنسية بالإضافة إلى تاريخ العلمانية في فرنسا، ودروسا شرعية في الفقه المالكي أساساً، وتكوينات في ثقافة السلم والتسامح ونبذ التشدد الديني.
وتعتبر فرنسا، الدولة الوحيدة غير الإفريقية، التي يتلقى أبناءها تكوينا في هذا المعهد، ويشمل برنامج التكوين دروسا في العربية والفقه والعقيدة وعلوم القرآن والتفسير. وسبق أن وقعت فرنسا اتفاقا مع المغرب عام 2015 لإرسال خمسين طالبا سنويا، وفي انتظار أن يبدأ تأهيل الأئمة على أراضيها.
يُعدّ قانون عام 1905 بمثابة الفيصل في الحكم ما بين الدولة والديانات أيا تكن في فرنسا
تمّ ارسال هؤلاء الطلبة من قبل اتحاد مساجد فرنسا “يو أم أف” المرتبط بالمغرب والمسيطر على سبعمئة مسجد في فرنسا، كونهم لم يجدوا التدريب المناسب في فرنسا حيث لا يوجد سوى عدد قليل من المعاهد الخاصة التي تقدم تدريبا باهظ الثمن وليس في الغالب جيدا.
ويقدّم معهد محمد السادس، لطلبته منحة دراسية قدرها 185 يورو (نحو 210 دولارات)، فضلا عن الطعام والسكن، وهو ما يسهّل بعض المصاعب التي تواجه اتحاد المساجد بفرنسا في تدريب الأئمة الفرنسيين.
ويستغرق التكوين الذي يتلقّاه الطلاب الأجانب سنتيْن، أما الطلاب المغاربة فيستغرق تكوينهم مدّة أقلّ، ويُشترط فيهم أن يكونوا حاملي إجازة جامعية، فضلا عن حفظ القرآن حفظا تاما بالنسبة للذكور، ثم يجتازون مقابلات القبول.
يبلغ عدد المسلمين في فرنسا قرابة 6 ملايين بما يُعادل 8% من إجمالي السكان، وتلك الأرقام لم تُحدّث رسميًا منذ العام 2003 حين أعلنها نيكولا ساركوزي، وكان وزير الداخلية آنذاك، حيث يمنع القانون الفرنسي منعًا مطلقًا القيام بأي تعداد للسكان وفقًا لانتماءاتهم العرقية أو الدينية أو مذاهبهم الفلسفية أو اتجاهاتهم السياسية، ولهذا لا تملك أي جهة إحصاءات رسمية بهذا الصدد، إلا أنه يتوقع وصولهم حاليًا إلى 10% من سكان البلاد.
مسجد باريس الكبير
توجد في فرنسا عدة هيئات تُمثل المُسلمين هناك، من أهمها المعهد الإسلامي ومسجد باريس الكبير واتحاد المنظمات الإسلامية الذي غير اسمه إلى “مسلمي فرنسا”، أما التمثيل الرسمي للإسلام فيشهد خللًا كبيرًا، فنظرًا لكون فرنسا دولة علمانية فلا يحق لها التدخل فيما يخص أي دين، ولو حتى بتنظيمه من أجل تسهيل التواصل الحكومي مع أتباع هذا الدين، ولكن ما حدث أن التمثيل الرسمي للإسلام مر بعدة مراحل.
يُعدّ قانون عام 1905 بمثابة الفيصل في الحكم ما بين الدولة والديانات أيا تكن في فرنسا. ويمنع هذا القانون الدولة من التدخل في شؤون الديانات وتحديداً توفير الدعم المادي لها، وهو ما يُجبر مسلمي فرنسا للبحث عن الدعم المادي في الخارج.
أسباب عدّة وراء الاختيار
تؤكّد الخطوة الفرنسية، أن المغرب أصبح رائدا التأطير الديني، ليس على المستوى المحلي فقط، وإنما في المحيط الدولي أيضا، فبعد التمدد الطبيعي للتجربة الدينية للمغرب في عدد من دول إفريقيا، جاء الدور ليصل إلى أوروبا، بحيث ستتلوها خطوات أخرى بطلب من عدد من الدول الأوروبية، وخصوصا ذات الكثافة في تواجد الجالية المغربية والعربية عموما.
الاستقرار في المجال الديني
يرجع اختيار فرنسا للمملكة المغربية لتدريس الأئمة، لأسباب عدّة، ذلك أن المغرب من البلدان العربية القليلة التي تتميّز بالاستقرار في المجال الديني، وبعدم الصدام بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، بسبب اندماج الاثنين في مؤسسة واحدة هي إمارة المؤمنين.
فضلا عن ذلك، فإن المغرب يراكم تجربة كبيرة في مجال تدريب أئمة مساجد عدد من البلدان، من بينها مالي والغابون ونيجيريا وتونس، وذلك بفضل خطته الرامية إلى تدبير “الحقل الديني” التي شرعت فيها المملكة منذ سنة 2004، بعد التفجيرات الإرهابية التي استهدفت الدار البيضاء في مايو/ايار 2003.
تحتضن المغرب على عديد المؤسسات المهمة التي تلعب دورا كبيرا في التأطير الديني للجالية المغربية
يؤدي معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات الذي تمّ افتتاحه في مارس سنة 2015 في العاصمة الرباط، دورا كبيرا في البرنامج الديني للمغرب، وتحول هذا المعهد منذ انشاءه إلى مؤسسة لإنتاج “الفكر الوسطي” و”الإسلام المعتدل” ليستفيد منه مئات الأئمة والفاعلين الدينيين من بلدان عدّة.
ويعتبر المغرب، أول دولة عربية وإسلامية تؤسس مسجدا في العاصمة الفرنسية، وهو مسجد باريس الكبير في العشرينات من القرن الماضي، تمّ بناء هذا المسجد تكريما للتضحيات التي قدمها المسلمون في فرنسا بعد الحرب العالمية الأولى.
انتشار النموذج المغربي في فرنسا
إلى جانب ذلك، يعتبر النموذج المغربي في تدبير الشأن الديني الحاضر في المخيال الفرنسي، أحد هذه الأسباب، ويرجع انتشار هذا النموذج في فرنسا إلى أهمية الجالية المغربية الموجودة في هذا البلد الأوروبي ومكانتها الكبيرة هناك.
وتحتضن المغرب على عديد المؤسسات المهمة التي تلعب دورا كبيرا في التأطير الديني للجالية المغربية، على رأسها مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج، والمجلس العلمي للمغاربة في أوروبا التابع للمجلس العلمي الأعلى.
تحتضن فرنسا أكبر جالية إسلامية في أوروبا
دأب المغرب في السنوات القليلة الأخيرة على بعث المئات من الأئمة والمرشدين الدينيين إلى دول أوروبا، من أجل إمامة وتأطير المهاجرين المغاربة هناك، في خطوة يقرأها الكثيرون على أنها محاولة لقطع الطريق على بعض التيارات المذهبية التي تخشى المملكة أن تشكل تهديدا على “أمنه الروحي”.
ارتفاع عدد الفرنسيين المنتمين إلى الجماعات الإسلامية المسلحة
طلب فرنسا من المغرب تدريب أئمة مساجدها على تعلم الوسطية والتسامح الديني، في المعهد التابع لوزارة الأوقاف في العاصمة الرباط، خاصة في مجالات الفقه المالكي والعلوم الشرعية وضوابط الفتوى، يأتي نتيجة ارتفاع عدد الفرنسيين المنتمين إلى الجماعات الإسلامية المسلحة.
تحتل فرنسا المركز الأول بالنسبة لدول أوروبا الغربية تزويدًا لتنظيم الدولة الإسلامية بالمقاتلين الأجانب، كما تحتل المركز الخامس على مستوى العالم. هناك أكثر من 1550 مقاتلًا في صفوف تنظيم الدولة من فرنسا، من بين إجمالي 5000 مقاتل أوروبي في صفوف التنظيم.
يوجد في فرنسا نحو 1800 إمام، بعضهم يعمل جزئيا دون مقابل وآخرون يتنقلون ويؤمون الصلاة في قرابة 2500 مسجد ومصلى
تعتبر فرنسا أكثر الدول الأوروبية تعرضا للهجمات الإرهابية المسلحة، التي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى بين مدنيين وأمنيين، وسبق أن حذرت تقارير استخباراتية من تكثيف الجماعات المسلحة لتدريب المقاتلين الأجانب، خصوصاً حاملى الجنسيات البريطانية والفرنسية والبلجيكية والألمانية، وتجهيزهم لتنفيذ عمليات إرهابية فور عودتهم إلى أوروبا.
التحضير للخطة الجديدة
ومن المنتظر أن يعلن رئيس الجمهورية الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في شهر يناير/كانون الثاني القادم، مشروعا من أجل تنظيم الإسلام في فرنسا، من خلال إعادة هيكلته عبر التقدم تدريجياً، في خطته التي أجَّل الإعلان عنها إلى أن يكتمل العمل عليها.
وكشفت صحف فرنسية أن خطة ماكرون بالعمل على بناء الإسلام من جديد في فرنسا، يكمن هدفها الرئيسي في الوصول لدولة علمانية أقل تطرفاً، لا تُجبر الأفراد على الالتزام بالإيمان بأي دين، وذلك من أجل الحفاظ على التناغم الوطني.
كما تتضمن خطته أيضا إنشاء هيئات لتمثيل المسلمين في فرنسا، بالإضافة إلى برنامج تكوين وإعداد للأئمة، ووضع إطار لتمويل دور العبادة، وتشديد الرقابة على تمويلها، وتعيين أئمة فرنسيين كبديل عن رجال الدين القادمين من بلدان أخرى.
ويوجد في فرنسا نحو 1800 إمام، بعضهم يعمل جزئيا دون مقابل وآخرون يتنقلون ويؤمون الصلاة في قرابة 2500 مسجد ومصلى، بحسب تقديرات. ومن بين هؤلاء ثلاثمئة “تمت استعارتهم” من الجزائر والمغرب وتركيا، دول المنشأ الرئيسية للمسلمين في فرنسا، في إطار اتفاقات بين باريس وهذه الدول.
وأقدمت السلطات الفرنسية في السنوات الأخيرة، إلى طرد عشرات الأئمة، إذ تحدثت الداخلية الفرنسية عن طرد 40 إماما، ممن “ينشرون الكراهية” منذ سنة 2012، وتسعى فرنسا إلى الحدّ من عدد الأئمة القادمين من تركيا والمغرب والجزائر، لشغل وظائف دينية في بلادها.