فتحت قاعات جنيف أبوابها من جديد للملف السوري، فدخلها الثلاثي المعروف بـ”رعاة أستانة” (وزراء خارجية روسيا وتركيا وإيران)، ومعهم المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي مستورا، وخرجوا منها باتفاق على عقد أول جلسة للجنة الدستورية السورية مطلع العام المقبل، برعاية أممية، بعد أن ضُرب موعد قريب لبحث الموضوع؛ ليصل المسار الطويل لتشكيل اللجنة الدستورية إلى مرحلة مفصلية بعد أن اعترضته عقبات كثيرة.
وبعد شهور من التأجيل والمراوحة في المكان، بات تشكيل اللجنة الدستورية أمرًا واقعًا، وتبدأ المرحلة الجديدة مع غموض يغلف مساراتها القادمة، ودون أن يكون واضحًا حجم التباين ونسبة الانحيازات ضمنها، ولا حجم تأثيرها الحقيقي، أو قدرتها على فرض دستور جديد، فضلاً عن ماهية هذا الدستور ومدى تحقيقه لمفهوم الانتقال السياسي حسب القرارات الدولية.
لجنة دستور سوريا.. الولادة العسرة
اجتماع تلو الآخر تعقده الأطراف المعنية بالشأن السوري، ولا شيء يخرج من تلك الاجتماعات سوى التوقعات والأماني، وجديد هذه الاجتماعات ذلك اللقاء الذي ضم وزاء خارجية الدول الضامنة لاتفاق أستانة إضافة إلى المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي مستورا.
على الرغم من إعلان لافروف الاتفاق على تشكيل القائمة إلا أن مراقبين يرون أن المساءلة مقبلة على مزيد من التعقيدات
الاجتماع انتهي ببيان قرأه لافروف منفردًا، معلنًا اتفاق المجتمعين على اتخاذ الخطوات اللازمة لعقد أولى خطوات اللجنة الدستورية السورية مطلع العام القادم برعاية أممية دون أن يعلن ماهية هذه الخطوات، وأشار البيان أيضًا إلى اتفاق نهائي بشأن قوائم المشاركين في اللجنة الدستورية دون المرور على ذكر الأسماء بشكل علني.
وطرحت الأمم المتحدة مساءلة اللجنة الدستورية قافزة بذلك على سلة جنيف الأولى، القاضية بإجراء انتقال سياسي، وأفادت المنظمة الدولية أن اللجنة ستتكون من 150 عضوًا ستُوزع بالتساوي على المعارضة ونظام الأسد وآخرين تختارهم هي من منظمين للمجتمع المدني وخبراء وغيرهم.
وأرجع مراقبون تأجيل الإعلان عن المشاركين إلى الخلافات التي وقعت بين دول أستانة والأمم المتحدة جرَّاء رفض المنظمة الأممية لهذه القوائم على اعتبار أنها غير متوازنة، بعد رفض رفض النظام السوري أن يكون للأمم المتحدة أي دور في تشكيل القائمة الثالثة.
نظام الأسد ومعه الروس والإيرانيين بطبيعة الأمر رفضوا قائمة المجتمع المدني وشككوا في قائمة المعارضة فضلاً عن تحفظهم على مواد كثيرة في الدستور، لعل أبرزها ما يتعلق بالرئيس وصلاحياته ومدة توليه، وعلى الرغم من إعلان لافروف الاتفاق على تشكيل القائمة إلا أن مراقبين يرون أن المساءلة مقبلة على مزيد من التعقيدات.
وزراء خارجية الدول الضامنة لاتفاق أستانة
وجاء الإعلان عن أول جلسة للجنة الستورية استباقًا للإحاطة الأخيرة التي سيقدمها دي مستورا أمام مجلس الأمن الدولي في العشرين من ديسمبر/كانون الأول الجاري، والتي سيتحدث فيها عن إمكانية إنشاء لجنة دستورية ذات صدقية متوازنة وشاملة، وهو الذي قال بعد الاجتماع الثلاثي إن هناك حاجة لبذل مزيد من الجهودِ لتشكيلِ لجنة دستورية متوازنة وجديرة بالثقة، واصفًا الجهود المبذولة بشأن اللجنة الدستورية بـ”الماراثونية”.
وبحسب قول دي مستورا، فإن المحادثات بشأن تشكيل لجنة لصياغة مسودة دستور جديد لسوريا يُفترض أن تصل إلى نقطة النهاية قبل التقرير الشهري الذي يرفعه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، يُضاف إلى ذلك أنه من المتوقع أن يستكمل خليفته جير بيدرسن عمله ابتداءًا من يوم 7 يناير/كانون الثاني المقبل.
المسار الروسي الذي بدأ عسكريًا لتحقيق وقف إطلاق النار تحول إلى مسار سياسي لتشكيل اللجنة الدستورية بعد أن استكمل مهمته العسكرية
ورغم تأكيد كل الأطرف تحقيق التقدم في ذلك، قد يوحي ذلك مجتمعًا بتعثر التوافق على اللجنة، وهذا ما يجعل الكرة في الملعب الأمريكي الذي هدد بنسف مساري أستانة وسوتشي ما لم تُشكَّل اللجنة قبل نهاية العام الجاري.
على هذا الأساس اعتبر المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا جيمس جيفري أن الأسبوع الجاري قد يشهد تحقيق انفراج حقيقي فيما يخص اللجنة الدستورية التي من شأنها أن تجتمع في أوائل يناير/كانون الثاني المقبل.
وعلى العكس، قد يشهد فشلاً ذريعًا في عملية التسوية السورية، خاصةً وأن قوائم المشاركين في اللجنة لم يتم بعد الاتفاق عليها نهائيًا، وذلك بعد الخلاف الذي كان ينبع من طرف روسيا أن يكون في القائمة الثالثة نحو 6 أسماء إضافية لها، فضلاً عن منصب رئيس اللجنة، إلا أن المساعي الروسية اصطدمت برفض تركي حازم.
“دسترة استعمار سوريا”.. مسار الحل على الطريقة الروسية
فرض المسار الروسي نفسه على الحل الأممي في جنيف، فبعد القرارت الدولية التي نصت على البدء من هيئة الحكم الدولية ثم صياغة الدستور، قلب الطرح الروسي المعادلة لتبنى الأمم المتحدة عبر ستيفان دي ميستورا طرح اللجنة الدستورية التي أصبحت بداية أو ربما نهاية العملية السياسية ومسار الحديث الدولي حول سوريا.
وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمر سوتشي
استطاعت روسيا أن تجعل من مسار أستانة بعد سوتشي وصيًا على جنيف، حيث كانت مسؤولية روسيا تقديم أسماء ممثلي النظام بينما تقدم تركيا أسماء ممثلي المعارضة، وهنا تقول مصادر تركية إن روسيا تريد أن تكون الحصة الأكبر من القائمة الثالثة لصالح أسماء مقربة من النظام السوري على حساب المعارضة.
فالمسار الذي بدأ عسكريًا لتحقيق وقف إطلاق النار تحول إلى مسار سياسي لتشكيل اللجنة الدستورية بعد أن استكمل مهمته العسكرية بسقوط كامل جيوب المعارضة في الوسط والجنوب، لتبقى إدلب ومناطق الحماية التركية في الشمال فقط.
وبعد أشهر طويلة من الجولات العسكرية تعلن روسيا أن قائمة اللجنة الدستورية السورية أصبحت جاهزة، وجاء الإعلان على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف الذي أضاف أنه جري تسليمها إلى المبعوث الأممي ستيفان دي مستورا، مطلع هذا الأسبوع، على أمل أن تتمكن اللجنة من عقد أولى اجتماعاتها بداية العام 2019.
الإعلان المفاجئ يوحي أن النظام ضمن نفوذه في داخل ثلث المجتمع المدني المتبقي أو أن عوامل دولية سرعت من الإعلان مع تهديدات تجدد المعارك في إدلب وشرق الفرات
مصادر دبلوماسية قالت إن الانفراجة التي شهدتها مساءلة الدستور جاءت عقب توصل روسيا والأمم المتحدة إلى حل مشكلة الأسماء التي تريد موسكو تسميتهم؛ أي أن الكرملين فرض شروطه وأثبت المساعي الروسية لـ”دسترة استعمار سوريا”.
وأظهرت القمة الرباعية في إسطنبول توافق رؤية المجموعة الغربية وثلاثي الأستانة حول ضرورة تشكيل اللجنة الدستورية، ليتكرر التأكيد الأمريكي على الإسراع في تشكيلها على لسان المبعوث الأمريكي إلى سوريا جيمس جيفري، ما يبدو أنه شكَّل ضغطًا على روسيا لتسريع الإعلان.
وفي استطلاع للأراء أجرته قناة “أورينت نيوز” المعارضة للنظام السوري، في ريف حماة حول اللجنة الدستورية جاءت الأراء مستنكرة وغير راضية وغير مؤمنة بدستور أو بلجنة قبل إسقاط النظام، والذي كان المطلب الأساسي للثورة السورية، وليس تعديلات في الدستور, عدا عن أن اللجنة المشكلة لا تمثل الثورة وفيها من يؤيد النظام ويوافقه ومحسوب على المعارضة ليصبح تمثيل المعارضة أقل بكثير من النظام, مما يحقق له المكاسب الأكبر حتى لو حقق بعض المكاسب للثورة.
هل انتهت الخلافات هنا؟
طريق طويل مرت به اللجنة الدستورية السورية منذ إقرارها في مؤتمر سوتشي الذي عقدته روسيا في الشهر الأول من هذا العام، مؤخرًا ليُعلن عن تشكيلها في الشهر الأخير، ربما يعيد ذلك الأمل لرعاة أستانة في استمرار مسارهم الذي هددت الولايات المتحدة بنسفه كليًا إلى جانب مسار سوتشي والعودة إلى قاعات جنيف بحثًا عن حلول جديدة وتحت مظلة الأمم المتحدة.
عمل النظام على عرقلة اللجنة طوال الفترة الماضية باعتبارها بوابة لعلملية انتقال سياسي حقيقي تريده واشنطن ودول غربية
ورغم تعطيل المضي فيها طيلة الأشهر السابقة بسبب مطالبة النظام بحصة الثلثين، فإن الإعلان المفاجئ يوحي أن النظام ضمن نفوذه في داخل ثلث المجتمع المدني المتبقي أو أن عوامل دولية سرعت من الإعلان مع تهديدات تجدد المعارك في إدلب وشرق الفرات.
ورغم أن الهيئة التفاوضية منقسمة على نفسها بين المنصات، فقد أظهر التحول في مسار أستانة حلبة تنافس أخرى للمعارضة السورية بين الهئية العليا للمفاوضات ووفد الفصائل في أستانة، فقد سعى كل منهم لتصدر الحديث عن تشكيل اللجنة الدستورية ووضع ممثليهم فيها.
ومع قبول هيئة المفاوضات بمسار اللجنة الدستورية تصاعدت الأصوات الرافضة لهذا المسار ضمن قوى المعارضة والثورة السورية، ووصلت حتى المظاهرات الشعبية في إدلب، إلا أن الهيئة عبر رئيسها نصر الحريري أكدت أن الانخراط في تشكيل اللجنة الدستورية لن يلغي الانتقال السياسي.
ومن المتوقع أن تقوم اللجنة المشكَّلة بصياغة دستور سوري جديد أو إصلاح الدستور الحالي، وأشارت موسكو إلى أن اللجنة ستتوصل بعد اتفاق حول قائمة أعضائها من بدء عملها في بداية العام المقبل، وقد عمل النظام على عرقلتها طوال الفترة الماضية باعتبارها بوابة لعلملية انتقال سياسي حقيقي تريده واشنطن ودول غربية على الرغم من أن اللجنة لم تكن ضمن القرار 2254، وولادتها كانت خلال مؤتمر سوتسي الذي عُقد مطلع عام 2018.
وإذا كانت مرحلة تشكيل اللجنة الدستورية قد تم الاتفاق عليها فالمتوقع أن تشهد أعمال اللجنة خلافات جوهرية وعميقة، وإذا كان الدستور سيكشل نقطة انطلاق كما قال دي مستورا قبل أيام في الدوحة، فإن نقطة النهاية تبدو بعيدة في ظل طريق مفخخ بألغام النظام الذي ساندته روسيا في ذراعتها بالستوات الماضية.
ومع الإعلان عن تشكيل اللجنة الدستورية يُفتح الباب واسعًا لاحتمالات عديدة ما دامت المصالح متداخلة، ويبرز السؤال: هل ستكون هذه اللجنة قاطرة الحل السياسي أم هي مجرد عقدة أخرى لتمرير الوقت؟