في مشهد يعكس حالة من الانفصام واللامبالاة، يبدو الشارع العربي، خاصة في الدول المجاورة لقطاع غزة، منفصلًا عن حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، فبينما تستمر “إسرائيل” بارتكاب مجازر وحرب إبادة في القطاع، وخاصة في مخيم جباليا، نجد في المقابل مظاهر احتفالية تجتاح هذه الدول في شهر أكتوبر/ تشرين الأول.
من مصر حيث تقام حفلات موسيقية يحضرها مئات الآلاف، إلى إطلاق المملكة العربية السعودية مهرجان موسم الرياض بحضور كبار المشاهير والمغنيين، وصولًا إلى الأردن وحضور مسؤولين مباراة لكرة القدم.
هذا التناقض يطرح تساؤلات حول عدم تفاعل الشارع الغربي مع المأساة الإنسانية التي تعيشها غزة منذ أكثر من عام، وما يتعرض له شمال القطاع وخاصة مخيم جباليا منذ أسابيع، وتنفيذ جيش الاحتلال لخطة “الجنرالات” التي يستهدف فيها كل مقومات الحياة بما فيها مراكز الإيواء وتجمعات خيام النازحين، راح ضحيتها حتى الآن ما يزيد على 50 شهيدًا، خلال 18 يومًا منذ بدء العملية العسكرية.
تجاهل الدعوات الإنسانية
للعام الثاني على التوالي، تواصل الرياض افتتاح “موسم الرياض” الترفيهي وفق الجدول المخطط له، متجاهلة مشاهد القتل والدمار التي تشهدها غزة بفعل العدوان الإسرائيلي.
قبل أسبوع افتتح رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه المستشار، تركي الشيخ، موسم الرياض 2024 بنسخته الرابعة، ويستضيف الموسم مئات الفنانين والرياضيين العرب والأجانب، لإحياء فعاليات فنية ورياضية متنوعة تمتد حتى نهاية مارس/آذار 2025، وفق الموقع الرسمي للمهرجان.
وشهدت الحفلات الافتتاحية للموسم إقبالًا جماهيريًا غير مسبوق، حيث تجاوز عدد الزوار نحو مليوني شخص، وهو ما وصفه تركي آل الشيخ بـ”إنجاز قياسي جديد يعكس الشغف الكبير بالموسم”.
وهو العام الثاني الذي تطلق فيه السعودية موسمها الترفيهي منذ حرب الإبادة في غزة، حيث جاءت النسخة الثالثة العام الماضي بعد شهرين فقط من طوفان الأقصى وإعلان جيش الاحتلال شن حرب راح ضحيتها أكثر من 42 ألف شخص، متجاهلة مأساة إنسانية تهز المنطقة بأكملها.
ورغم توجيه العديد من الدعوات غير الرسمية للسعودية، لتأجيل الموسم هذا العام نظرًا لما يحدث في المنطقة من مجازر لم تعد منحصرة في غزة فقط، بل تمتد إلى عدة دول عربية أخرى، وأخذًا بالاعتبار ما تمثله المملكة السعودية للعرب والمسلمين من ثقل ديني، فإن فعاليات الموسم استمرت بحفل افتتاح ضخم تخلله عرضًا فنيًا بالطائرات المسيّرة، التي حملت شعار الموسم فوق مبنى البوليفارد.
ولم تكتف الرياض بتجاهل الدعوات الإنسانية لعدم إطلاق الموسم، إلا أنها استضافت مجموعة من مغنيي الراب الأمريكيين هم: بوستا رايمز وسيارا وميسي إليوت المعروفة بدعمها لـ”إسرائيل”.
وكانت الفرقة رفضت عام 2010 دعوة عشرات المنظمات الإنسانية لإلغاء حفلها المقرر في تل أبيب، خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، ما جعل الإعلام الإسرائيلي يحتفي بها، ويصفها بأيقونة “تحدي المؤيدين لفلسطين”.
ورغم عدم وجود بيانات واضحة لمجموع التكلفة المادية لمواسم الرياض، فإن تركي آل الشيخ سبق أن صرّح عن تفاصيل تكلفة إنتاج مباريات بطولة “كأس موسم الرياض”، مؤكدًا أن تكلفة إنتاج مباراة واحدة تعادل تكلفة 8 مباريات من كأس العالم، فيما وصلت أرباح بيع تذاكر أول 3 مباريات إلى 45 مليون ريال سعودي، أي ما يعادل نحو 12 مليون دولار أمريكي.
بالإضافة إلى إجراء عملية توسيع كبيرة لمرافق المهرجان، لتضمن طاقة استيعابية تصل إلى 8 آلاف زائر، بمجموع 14 منطقة ترفيهية سيقام عليها 11 بطولة رياضية عالمية، بما فيها منطقة “بوليفارد رن واي” التي تم التعاقد على تنفيذها بالتعاون مع الخطوط السعودية، على مساحة 140 ألف متر مربع، لتحويل ثلاث طائرات من نوع بوينغ 777 إلى محلات تجارية ومطاعم، وصلت تكلفة نقلها وتجهيزها إلى حوالي مليوني ريال.
فيما دافع تركي آل الشيخ عن احتفالات السعودية بمنشور “استباقي” ساخر، في سبتمبر/أيلول الماضي، عبر حسابه بمنصة “إكس” يشير فيه إلى دعوات إيقاف الموسم التي ستخرج بالضرورة وسط ما يحدث من مجازر بحق الشعب الفلسطيني، قائلًا: اليوم بيطلعون (الجماعة إياها) بعد مايشوفون كرت موسم الرياض في ويمبلي ورقم قياسي جديد 96 ألف متفرج، بس أنا أنصحهم يوفرون مجهودهم للافتتاح في 12 أكتوبر”.
اليوم ترا طبيعي بيطلعون الجماعه اياها بعد مايشوفون كرت موسم الرياض في ويمبلي ورقم قياسي جديد ٩٦ الف متفرج 😎 بس انصحوهم يوفرون مجهودهم للافتتاح ١٢ اكتوبر والموسم طويل ٥ شهور لا يخلصون كروتهم بدري😂 … تركي آل الشيخ سبب الاحتباس الحراري … ترا يمكن صح؟ … لان فعلاً عندهم احتباس… pic.twitter.com/HtwejM68eg
— TURKI ALALSHIKH (@Turki_alalshikh) September 21, 2024
التضامن ممنوع.. الحفلات مسموحة
“ومن السعودية إلى مصر، التي تربطها حدود مباشرة مع غزة عبر معبر رفح، المنفذ الوحيد لسكان القطاع والذي لا يزال مغلقًا في وجههم حتى الآن، أحيا الفنان المصري تامر حسني، قبل أيام حفلًا ضخمًا في مدينة الإسكندرية، حضره آلاف الشبان والشابات بالتزامن مع تزايد التصعيد والأحداث المأساوية في غزة ولبنان، ما أثار انتقادات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي، نظرًا للتوقيت الحساس الذي أقيمت فيه.
واستنكر العديد من المصريين إقامة حدث ترفيهي ضخم بهذا الحجم في وقت تشهد فيه المنطقة معاناة إنسانية شديدة، خاصة في أثناء ارتكاب الاحتلال مجزرة دير البلح التي راح ضحيتها أكثر من 75 فلسطينيًا، ما يعكس تجاهلًا فجًا للوضع الراهن.
رأيت هذه الصورة فظننت لوهلة أنها لحصار المصريين السفارة الأمريكية والمغرد قال: هولاء تجمعوا لأجل #تامر_حسني وأنا لا أعرف من هو فظننت أنه مجاهد قسامي أو صحفي غزاوي ولكن ثم وجدت أنه مغني حرامي عاهر وهولاء تجمعوا له لا لأجل دماء مليونين مسلم يُذبحون بجوارهم منذ عام.حسابكم والله
عسير pic.twitter.com/evP9gFJucu— المسلمون في الهند (@MuslimsinIndia7) October 20, 2024
وما كان مثيرًا للدهشة أكثر، هو حصول تدافع وحالات إغماء في الحفل نتيجة التدافع الشديد للحضور الذي وصل عددهم إلى مليون ونصف المليون شخص، ما اضطر الفنان إلى إنهاء الحفلة مبكرًا، قائلًا عبر حسابه بمنصة “إنستغرام”: “العدد كان فوق التوقعات بكتير، وكان في تدافع من بعض الناس، بس ده عشان الحفلة تخطت التوقعات في حجم الحضور”.
وأكمل تعليقه معللًا توقيت الحفلة الحساس بأن الهدف منه تكريم الطلاب المتخرجين حديثًا والتشجيع العلمي لطلاب مصر، وليس “من باب الاحتفال دون هدف”.
وبينما تسمح الحكومة المصرية بإقامة مثل هذه الحفلات، تمنع بالمقابل كل أشكال التضامن السلمي والمؤسساتي مع فلسطين منذ بدء الحرب على غزة، وتلاحق رموز التضامن المصري مع فلسطين في الجامعات والمدارس والمساحات العامة، إذ وثّقت منظمة العفو الدولية اعتقال أكثر من 123 شخصًا ممن أعربوا عن تضامنهم مع أهالي غزة من خلال التظاهر السلمي، أو بعد نشرهم تعليقات تضامنية على الإنترنت، وكتابة شعارات للمقاومة الفلسطينية في شوارع القاهرة.
كما شنت في مايو/أيار الماضي حملة اعتقال بحق طلاب جامعيين، وأخفتهم قسريًا لمدة أربعة أيام، قبل أن يظهروا في النيابة العامة على ذمة التحقيقات في القضية رقم 1941 لسنة 2024 بتهمة الانضمام لجماعة إرهابية ونشر أخبار وبيانات كاذبة، على خلفية إنشاء صفحة على موقع “فيسبوك” باسم “طلاب من أجل فلسطين” تهدف إلى مساندة الطلاب الفلسطينيين لإكمال تعليمهم في مصر وإعفائهم من المصروفات الدراسية، وإصدار بيان يندد باجتياح رفح الفلسطينية، وبيان آخر يطالبون فيه وزارة التعليم بحظر المنتجات الداعمة للاحتلال في المؤسسات التعليمية.
احتفالات في الأردن
لم يكن مسؤولو الأردن بأفضل حال من السعودية ومصر، حيث حضر ولي العهد الحسين بن عبد الله وزوجته رجوة الحسين مباراة المنتخب الأردني على نظيره العماني، في ملعب عمّان الدولي الأسبوع الماضي ضمن التصفيات المؤهلة لكأس العام، وسط تصفيق حار من الجمهور واحتفاء عارم بظهورهما. تخللها إلقاء مدائح ارتجالية من قبل العامة، فرحًا بحضور الأميرة التي بات حضورها يرتبط بالفوز كما يحب البعض تلقيبها بـ”وجه الخير”.
المباراة وبعد فوز المنتخب الأردني تبعها احتفالات واسعة بين الجماهير في شوارع العاصمة عمّان، وشارك فيها ولي العهد شخصيًا بنشر مظاهر الاحتفال من داخل الملعب، عبر خاصية “الستوري” في منصة “إنستغرام” قائلًا: “الحمد لله رب العالمين، مبارك لنا الفوز”.
أتت هذه المشاركة قبل ثلاثة أيام فقط من وقوع عملية البحر الميت التي قام خلالها جنديين أردنيين بفتح النار على جنود من الاحتلال، والاشتباك معهم على بعد نحو 3 كيلومترات من مستوطنة إيلوت جنوبي البحر الميت. بينما لم يصدر عن الحكومة الأردنية أي تصريح حول العملية، عدا عن تأكيد مصدر عسكري لشبكة الجزيرة، أن منفّذي عملية البحر الميت “لا ينتسبان إلى قواتنا المسلحة، وأن الزي الذي يرتديانه لا نستخدمه”.
فيما تواصل الحكومة الأردنية التزامها الصمت حول العمليات الفدائية المتزايدة، في سيناريو مطابق لموقفها من عملية معبر اللنبي، التي نفذها العسكري الأردني المتقاعد ماهر الجازي في سبتمبر/أيلول الماضي، وقتل فيها 3 جنود إسرائيليين، قبل أن يستشهد في تبادل إطلاق النار.
تتعدد الأمثلة على تجاهل الدول العربية لشلال الدم النازف في غزة، وسط صمت مطبق يخيم على الساحات منذ أشهر، ولم يتوقف الأمر عند حد إقامة الحفلات والمهرجانات الترفيهية، أو منع التجمعات والمظاهرات التضامنية مع فلسطين، أو الاكتفاء بإصدار بيانات استنكار جوفاء أمام جرائم الاحتلال، بل تطور الوضع ليصل إلى حالة عجز عربي وإسلامي في مواجهة اعتداءات الاحتلال المتكررة، التي لم تقتصر على غزة وحدها، بل امتدت لتشمل عواصم عربية أخرى، مع توسع أهداف “إسرائيل” العسكرية في المنطقة، لتطال دمشق وبيروت وصنعاء، وغيرها من المدن العربية.