متى تحولت “الدولة” إلى إلهٍ تُقدَّمْ له القرابين؟! لا أعرف تحديداً، لكنّ الأكيد أنها ذات يوم – مثل كل الآلهه الزائفة- سيُعلَّق في رقبتها فأس المظلومين الكافرين بها والناقمين عليها، بعد أن يحطموا الآلهه الأصغر التي تملأ جنبات المعبد: مؤسسات الدولة! لحظتها لن تجد “الدولة” لساناً تتحدث به، وإن كانت لن تعدم فلولاً من الباكين على حُطامها، والمتحسرين على آلهتهم المحطمة.
(1)
لم تهبط الدولة الحديثة مع آدم من جنته إلى الأرض؛ بل نشأت كتطور لحياة باتت أكثر تركيباً، وبهدف تنظيم الاجتماع الإنساني ووضع قواعد تُنَظِّم ملكية الموارد الطبيعية، خاصة الأرض، وتَحْفظ الأوراح والممتلكات وتَكْفل نظاماً “مدنياً” للتقاضي ووتنفيذ العقوبة وفق قانون يحظى بقبول مجموعة من البشر في مكان محدد. يتنازل الفرد إذاً عن حالة الحرية المطلقة التي كان يعيشها، مقابل أن يأمن على حياته وممتلكاته من أي قوة معتدية؛ حيث أصبحت “الدولة” ممثلة في حكومتها مفوضة باستخدام القوة حصراً لمواجهة الاعتداء، سواء الداخلي كالسرقة مثلاً، أو الخارجي.
ثمة أنماط كثيرة عرفها التاريخ لآليات تنيظم الاجتماع الإنساني، الدولة المصرية القديمة والمدينة اليونانية والإمبراطوريات والخلافة …الخ جميعها ارتباطت بظروف اجتماعية ودينية متباينة، ومن ثم تباينت في مدى هيمنتها على حياة الإنسان، وعلى إرادته وفرديته، وعلى كرامته. لا شك أن “الدولة الحديثة” فاقت كل الأنماط السابقة في هيمنتها واحتكارها لمعنى الانتماء وحدوده، بل واحتكارها بصورة ما “وجود” الفرد نفسه كإنسان له اسم وهوية وعائلة وذرية، سيصبح كل ذلك بلا “وجود” معترف به بعيداً عن سلطة الدولة وأنظمتها. هذا الكيان التجريدي والاعتباري أصبح يمتلك “المعنى” بصورة ساحقة حتى في أرقى حالاته “الديمقراطية”.
(2)
يبدو مصطلح “الدولة” أكثر تعقيداً من أن يُسستخدم هكذا دون تحديد؛ أي “دولةٍ” نعني؟! هل هي دولة “هوبز”، أم دولة “لوك” و”روسّو”، أم دولة “ميكيافيللي”، أم دولة “تشارلز بيرس” و”وليم جيمس”؟ أم دولة “الأحكام السلطانية” ؟!
هل هي الكيان التعاقدي القائم على عقد اجتماعي مؤسس على شرعية التراضي والطواعية؟ أم “التنين” الذي من حقه، أو من دوره أصلاً، الهيمنة والسيطرة من أجل تحقيق مصلحة عليا هي في الغالب “الاستقرار” باعتبار أن الاجتماع نفسه إرادة إلهية لا يجب المقامرة بتعريضه للخطر حتى لو فقد معاني العدالة والتراحم والمساواة، لأنه سيقوِّم ذاته بذاته مع الوقت.
أم هي “الدولة” الوطنية العربية الراهنة؟! وهل هذه نفسها شيئ واحد ؟! هل ثمة فارق بين الدولة المصرية والمملكة السعودية والإمارة الإماراتية؟!
(3)
تلك مقدمات طويلة لبحث أطول، أتمنى أن يكون في العمر متسع لاتمامه. لكنّي هنا أستحضرها متأملاً مصر وحالها. لم يعد ثمة شرعية من أي نوع لأجهزة الدولة القائمة في نظر الكثيرين من المصريين.
لم يعد القضاء حكماً بين متخاصمين، بل خصم صريح لا يتمتع حتى باخلاقيات الخصومة الشريفة.
لم تعد الحكومة المدنية سلطة مفوضة بالتراضي للحفاظ على الممتلكات ولصيانة الأوراح، ولتطبيق القانون؛ بل عصابة مغتَصِبة للسلطة ومحتكرة للقوة بهدف الاعتداء على الممتلكات وقتل الأوراح وانتهاك الأعراض.
القانون نفسه لم يعد معبراً عن حالة التراضي العام، بل مفروضاً بالقوة دون أساس من شرعية لتحقيق مصلحة خاصة ضيقة، على حساب المصلحة العامة الواسعة (يكفي القانون الأخير الذي أصدره المؤقت لتحصين عقود سرقة القطاع العام من أي ملاحقة قضائية)
الجيش الذي طالما تغنت الأجيال بانتصاراته منذ أحمس وحتى نصر أكتوبر، باتت معايير النجاح في نظر قادته هدم منازل البدو في سيناء واعتقال وقتل النساء والأطفال في شوارع القاهرة.
ثمة من يظن أن “مؤسسات الدولة” وأن “الدولة” نفسها قدراً حتمياً، طبيعياً، بديهياً؛ ويغفل عن حقيقتها “المصنوعة” باعتبارها منجزاً انسانياً، خلقها الإنسان بإرادته الذاتية واختياره الواعي. وكل ما هو ناتج إرادة الإنسان هو شيء “اصطناعي”، وكل ما هو اصطناعي غير نهائي، وكما نتج عن إرادة الإنسان، يظل من حق الإنسان تقويمه وتبديله ومحوه إذا تعارض مع ما هو “طبيعي” وبديهي، وأوله وأهمه أن الإنسان “حر” وأن البشر متساوون، وأنه لا سلطان لأحد على أحد. وإلا باتت الدولة قائمة بموجب “حق إلهي” على رقاب العباد، وهو ما لا يقوله إلا بقايا مجاذيب العصور الوسطى، وبقايا من مخلفات عصور الانحطاط الفقهي.
(4)
يقول جون لوك: (استخدام القوة لارغامي على تصرف بدون وجه حق، يجعلني أعتقد أن هذا التعدي الصارخ على حريتي سوف يعقبه فقدان كل شيء عندما أصبح تحت سيطرته، وهذا يعطيني الحق في معاملته كما أعامل أي شخص في حالة حرب معي، فأقتله اذا تمكنت، حيث أنه البادئ بالعدوان).
يقول روسّو: (الحرية هي أنبل سمات الإنسان، فلا يجب أن ننحط إلى المستوى الذي تضيع فيه هذه الهبة التي منحنا الله إياها، فإن هذا من شأنه أن يثير غضب الله اذ يرى تحطيم ما خلقه فينا وعدم تبجيلنا له. وعليه فليس من حق الفرد أن يبيع حريته لآخر يستغلها كما يحلو له. تبعاً لقول “جون لوك” أن معنى هذا انه يبيع حياته التي لا يعتبر مالكها في الحقيقة).
يقول بشير نافع: (الدولة الحديثة هي أصلاً أداة تحكم. عندما تصبح دولة أيديولوجية تتحول إلى أداة سيطرة مطلقة؛ وإن أصبحت دولة طائفية تنقلب إلى مشروع إبادة).
(5)
واهمٌ من يظن أن للدولة وأجهزتها حصانة مطلقة، أو أن لها قيمة مفارقة لواقعها ولممارساتها، أوأن لها قدسية الآلهة التي لا يجوز النيل منها أو المجادلة حولها…. الآلهة لا تظلم ولا تقتل ولا تسرق، أما دولتكم فهي كذلك في أبشع صوره وأكثرها شيطانية.
ليس في هذا المقال دعوة لشيء؛ لكنّه، في أحسن ما أبغي من وراءه، تحذير لما هو آت؛ فالسيناريوهات الأسوأ باتت على الأبواب.
ولستُ بعلام الغيوبِ وإنما :::: أرى بِلِحاظِ الرأي ما هو واقعُ