العالم يتجمع، لقد أصبح التوجه نحو الإقليمية الصفة التي تتميز بها العلاقات الدولية، مما ساعد على بروز عدد من الأقاليم والتكتلات خصوصا في القارة الآسيوية، فظهرت أقاليم مثل جنوب آسيا وشرق آسيا وإقليم جنوب شرق آسيا.
أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها لم يكن لمنطقة جنوب شرق آسيا أي وحدة رسمية، أو هوية تعبر عنها، حتى أن الحدود لم تكن محددة بدقة، وبعد نشأة رابطة دول الآسيان استطاعت المنطقة أن تحدد هويتها الجغرافية بشكل واضح.
لقد سبق تشكيل رابطة الآسيان، تشكيل تكتلات مختلفة في المنطقة، فكانت هناك معاهدة قد أبرمت في يوليو 1967 بين ماليزيا والفلبين وتايلاند؛ لمواجهة التهديدات في الإقليم، وكان هناك مشروع أخر أطلق عليه مشروع (مافيليندو) الذي جمع بين ماليزيا وأندونيسيا والفلبين، وهذه التكتلات لم تقتصر على الجانب السياسي بل تجاوزتها إلى تكتلات اقتصادية.
ففي المجال الاقتصادي، نجد أن تايون وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية وسنغافورة كانوا ضمن تكتل اقتصادي واحد أطلق عليه لقب النمور الآسيوية، وكان لهذا التكتل دور بارز على مستوى المبادلات التجارية العالمية، كما تشكلت روابط وكيانات أخرى لعل من أبرزها رابطة دول جنوب شرق آسيا، التي غدت قوة اقتصادية كبرى في القارة الآسيوية.
تعد قمة الآسيان أعلى كيان لصنع القرار فى الرابطة، وتعقد القمة مرتين كل عام
سوف نتعرف في السطور القادمة على هذه الرابطة وأهدافها والدول المشاركة فيها وكيف استطاعت أن تكون من أهم الكيانات في العالم.
رابطة دول جنوب شرق آسيا المعروفة بمجموعة آسيان (ASIAN) والاسم اختصار ل The Association of Southeast Asian Nations، هي منظمة اقتصادية تأسست في 8 أغسطس عام 1967 في تايلاند، وساهمت خمس دول في تأسيسها هي أندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وسنغافورة، وتايلاند، والتحقت بهم عدة دول ليصبح المجموع عشر دول، والدول الأخرى هي (كمبوديا، لاوس، مينامار، الفيتنام، وبروناي).
وتعد قمة الآسيان أعلى كيان لصنع القرار فى الرابطة، وتعقد القمة مرتين كل عام. وتنظم الدولة التي تتولى رئاسة اللجنة الدائمة للأسيان القمة على أساس دوري. ويقع مقر الأمانة العامة للرابطة في جاكرتا بأندونيسيا. ومنذ انشائها عام 1967عقدت الرابطة 30 قمة.
ورابطة الآسيان تعتمد على المدخل الاقتصادي كأساس لبناء التعاون الإقليمي وخلق مصالح المشتركة بين الدول الأعضاء، ما يدفعها للتعاون في مجالات أخرى وصولا إلى القضايا السياسية والأمنية. وقد ساهمت رابطة الآسيان في تنامي الدور الآسيوي في العلاقات الاقتصادية الدولية. وعملت الرابطة كذلك على توسيع التنسيق في سياساتها الاقتصادية، وتنمية التبادل التجاري فيما بينها واعتماد سياسة التكامل الاقتصادي تحقيقا للمصالح المشتركة.
كما ساهمت عدة أسباب في توثيق العلاقة بين دول رابطة الآسيان، منها تنامي القوة العسكرية للفيتنام وغزوها لكمبوديا، وتراجع الوجود الأمريكي في المنطقة بعد هزيمته في الفيتنام، وما أسفرت عنه نتائج الحرب الباردة من تقريب وتوطيد المصالح المشتركة بين دول الرابطة.
رسخت رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) مبادئها؛ باحترام الرابطة استقلال كل دولة من أعضائها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة
لقد تأسست رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) بناء على الاستجابة للاحتياجات الداخلية لدول الرابطة والإقليم، فقد وجدت دول الآسيان نفسها في مواجهة التهديد المتمثل في امتداد النزاعات، فأحداث الحرب الباردة أثرت كثيرا على إقليم جنوب شرق آسيا، فقد تولدت العديد من الأزمات خاصة الأزمة الفتنامية، فكان لا بد من وجود تكتل يحقق السلم والاستقرار في الإقليم، كما كان لتنامي ظاهرة التكتلات السياسية في تلك الفترة دافعا قويا لبناء تكتل يضم دول إقليم جنوب شرق آسيا، وكذلك نشأ هذا التكتل لخلق توازن بين دول الإقليم خوصا الدول القوية مثل أندونيسيا وماليزيا.
رسخت رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) مبادئها؛ باحترام الرابطة استقلال كل دولة من أعضائها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، واعتماد الحل السلمي للمنازعات وعدم اللجوء إلى استخدام القوة بين دول الرابطة، مع ضرورة توفير الأمن الإقليمي للرابطة القائم على أساس التعاون العسكري، وعدم الاستعانة بقوات عسكرية خارجية في حالة حدوث صراعات في الإقليم.
إن الملاحظ من خلال تتبع المسار الوظيفي لرابطة الآسيان، نجد أنها عرفت العديد من التطورات، انطلاقا من التحولات التي شهدتها بيئتها الإقليمية، وكذا الدولية، فبعد الحرب الباردة برزت العديد من المؤسسات من خلالها تدعم البناء المؤسساتي للآسيان، وبرزت أهداف مغايرة عن تلك التي وضعها الجيل الأول من مؤسسي الآسيان، خاصة في ظل بروز تهديدات وتحديات جديدة في المنطقة.
وتهدف مجموعة الآسيان إلى تسريع النمو الاقتصادي والتقدم الاجتماعي والتنمية الثقافية في جنوب شرق آسيا بعمل مشترك يقوم على روح التعاون والتكافؤ، والمشاركة من أجل تعزيز قواعد مجتمع مزدهر يسوده السلام، وتهدف كذلك إلى تعزيز التقدم الاجتماعي وتحسين مستوى المعيشة لأعضائها وتشجيع التعاون النشط والمعونة المتبادلة في البحث والتدريب في المجالات الاقتصادية والاجتماعية.
تميزت رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) بطفرة اقتصادية حقيقية، ويمكن رصد أهم المؤشرات الاقتصادية للرابطة منها زيادة في معدلات النمو الاقتصادي وزيادة مساهمتها في التجارة الدولية
وتهدف أيضا إلى التآزر على نحو أكثر فاعلية في استخدام أنشطتها الزراعية والصناعية وتوسيع تجارتها بما في ذلك دراسة شؤون التجارة السلعية الدولية وتحسين النقل والاتصالات، وإقامة علاقات وثيقة ونافعة مع المؤسسات الدولية والإقليمية ذات الأهداف المماثلة، مع ضرورة تعزيز الدراسات حول إقليم جنوب شرق آسيا وإشاعة السلام والاستقرار السياسي والاقتصادي في مواجهة القوى الكبرى، وتجنب الصراع فيما بينهما بمراعاة احترام العدل وسيادة القانون في العلاقات بين دول الإقليم.
لقد تميزت رابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) بطفرة اقتصادية حقيقية، ويمكن رصد أهم المؤشرات الاقتصادية للرابطة منها زيادة في معدلات النمو الاقتصادي وزيادة مساهمتها في التجارة الدولية، مما جعلها تتميز عن الاقتصاديات النامية الأخرى، فنلاحظ أن رابطة الآسيان تتمتع بنمو سريع في المنتجات الزراعية وارتفاع معدلات نمو الانتاج ورأس المال، كما زادت صادرات السلع المصنعة بشكل كبير مع انخفاض نسبة التفاوت في الدخول وانخفاض معدلات الفقر وزيادة نسبة المدخرات المحلية والاستثمارية.
وحسب معطيات صندوق النقد الدولي لعام 2016، فإن الناتج المحلي لرابطة دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) بلغ (2,535,611 بليون)، مشكلا قوة اقتصادية كبيرة على مستوى العالم، حاصلا على الترتيب السادس في التصنيف العالمي. مع العلم أن مجموع الناتج القومي للصين واليابان ودول رابطة الآسيان يشكلون ما نسبته 25% من الناتج القومي العالمي؛ وعليه فإن إقليم شرق آسيا المتمثل بالآسيان والصين واليابان يمثل قوى اقتصادية منافسة على المستوى العالم وينافس تكتلات مثل الإتحاد الأروبي.
تحاول دول رابطة الآسيان تعزيز التعاون التجاري والمـالي والصناعي والتعاون في مجال الاستثمار، وفي مجال قطاعات أخرى كقطاع الطاقة والثـروات المعدنية ومجال الخدمات والنقل والاتصالات ومجال السياحة والتعاون الوظيفي فيما بينها.
كما قامت دول الآسيان بتعزيـز علاقاتهـا مـع مؤسسات إقليمية ودولية، فقد أثبتت تجربة الآسيان قدرة الدول الأعضاء على العمل المنظم فنرى أنها بدأت بخمـس دول ثم تضاعف العدد خلال عقدين من الزمن، ونلاحظ كذلك التطور الذي حصل على طموح الآسيان فنراها انتقلت نحو وحدة تكاملية بين الدول الأعضاء تهدف من ورائها إلى بناء اقتصاد متكامل قـوي يرتكز أساسا على تشجيع الصادرات وزيادة التبادل التجاري بين دول المنطقة، وقد ساهم هذا التحول في استراتيجية الآسيان بالمساعدة على حل التراعات التي تحصل بين الدول الأعضاء حول النظم التجارية، كما ساهم في توحيد العمل لمواجهة الأزمات الطارئة وزيادة نسب الدخل مع زيادة في معدل التعاون الاقتصادي.
المنطقة العربية و تجربة الآسيان
الآسيان يمثل نموذج جذاب لدى العرب الراغبين في الوحدة و التكامل الاقتصادي، خصوصا أن المنطقة العربية تمنلك مقومات الوحدة فلديها لغة واحدة ويدين أغلبهم بدين واحد ولم يكن لدبهم أي نوع من أنواع الصراع، على العكس من دول جنوب شرق آسيا الذين كان بينهم صراعات وحروب قديمة، كما كان بينهم أطماع ومصالح متنازع عليها، إلا أن نجحت رابطة الآسيان في دحر هذه الخلافات وتقسيمها عبر آليات و وسائل اقتصادية، كما نجحت في العبور بدول المنطقة من دول تنتمي إلى العالم الثالث وتعيش مشاكله الاقتصادية من فقر ومديونية وبطالة وتضخم وغيرها إلى دول متقدمة صناعيا، وصلت إلى حد الرفاه الاقتصادي وارتفع بها مستوى المعيشة. وهذا ما تطمح إليه دول المنطقة العربية.
الوضع يختلف في المنطقة العربية من حيث اختلاف النمط الحضاري و المناخ السياسي والاقتصادي المناسب لتنمية اقتصادية متكاملة
إلا أن هناك من يرى أن لكل تجربة ظروفها الخاصة بها فإنشاء الآسيان تمت في ظروف اقتصادية دولية مختلفة وفي سياق دوافع الثورة العلمية التكنولوجية التي تلت الحرب العالمية الثانية. حيث سعت الدول الصناعية إلى تقسيم العمل الدولي الرأسمالي على أساس تكنولوجي بحيث يتم نقل صناعات أو مراحل صناعية تحتاج إلى أيدي عاملة كثيرة عادية أو شبه ماهرة من الدول المتقدمة إلى العالم الثالث الذي تكثر فيه العمالة العادية وتنخفض تكلفتها نسبيا و يتوفر فيها مناخ سياسي ملائم وقد نجحت عملية النقل الصناعي في دول شرق آسيا بشكل كبير.
إلا أن هذا الوضع يختلف في المنطقة العربية من حيث اختلاف النمط الحضاري و المناخ السياسي والاقتصادي المناسب لتنمية اقتصادية متكاملة؛ لذلك لم تشجع الدول الغربية شركاتها على القيام بعملية النقل الصناعي إلى الدول العربية.
كما أن الثقافة والصورة الحضارية تلعب دورا مهما، إن الحديث عن تعميم أي تجربة تنموية كاملة و استنساخها حديث غير واقعي وغير قابل للتحليل العلمي الدقيق، وذلك لأنه لا يوجد مجتمع يتطابق في جميع عناصره مع مجتمع آخر، لا توجد ثقافة متماثلة مع ثقافة أخرى. وإنما لتحقيق التنمية، والاستفادة من الخبرات البشرية في تطوير المجتمعات وتحسين أداء النظم والأفراد ينبغي أن نحدد المستويات المتعددة للمقارنة وإمكانية الاستفادة في كل منهما.
أرى أن هذه العوامل لا تقف حائلا لبناء نموذج عربي كنموذج الآسيان، فما يجمع العرب أكثر مما يفرقهم، وأسباب الوحدة ولو كانت جزئية متعلقة بالجانب الاقتصادي فقط هي أسباب موضوعية تتمتع بقدر عال من الوجاهة العلمية و القبول الأكاديمي.
هناك تجارب عربية منها دول مجلس التعاون الخليجي وهي أقرب نموذج عربي لنموذج الآسيان، لكن هناك مؤشرات وفوارق بين كلا النموذجين وهذا ما يظهره الجدول التالي:
مؤشرات مختارة، مجلس التعاون الخليجي ورابطة الآسيان (2014) حسب بيانات صندوق النقد الدولي
لقد نجح هذا التكتل الآسيوي إلى رفع اقتصاديات دوله الأعضاء إلى صفوف الدول المتقدمة في مجال التصنيع، وهذا يعود إلى انفتاح هذا التكتل على العالم الخارجي و توثيق علاقاته مع دول أخرى مـن أجل إقامة مناطق تجارة حرة مع هذه الأخيرة، فلم يبقى تكتلا اقتصاديا مغلقا على الـدول الأعضاء فقط، فأقرت دول الآسيان سياسات اقتصادية موجهة لدول المنطقة وغيرها؛ لجذب رؤوس الأموال الأجنبية، وجعـل الآسيان منطقة اقتصادية إنتاجية تنافسية موجهة إلى خدمة السوق العالمية، خاصة بعد توحد رؤى قادة دول الآسيان حول إقامة قاعدة أساسية لسوق موحد تقام عام 2020 مما يفضي إلى إقامة تكتل أسيوي ضخم قادر على مواجهة التكتلات الاقتصادية الكبرى، لهذا أصبح تكتل “الآسيان” محل أنظار واهتمام العالم، فيمكن اعتباره نموذجا تكامليا إقليميا تحتذي به دول منطقة الشرق الأوسط.